عندما يذكر تاريخ المقاهى الثقافية في مصر يكون مقهى (ريش) (تأسس عام 1908م) بالقاهرة هو أكبر تجمع للمثقفين والسياسيين في المنطقة العربية. مقهى ريش بدأ بقطعة أرض من تقسيم قصر محمد علي امتلكه باغوص باشا نوبار وآل في فترة التمصير إلى عبدالملك ميخائيل صليب وعاصر ثورات عديدة بداية من 1919 و1952 و2011، وهنا على مفترق ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) يقع مقهى ريش بحكمة وخبرة أكثر من مائة عام، كان حاضرا وفاعلا بقوة في تاريخ مصر الحديث وشاهدا وصانعا لأحداث صنعت التاريخ السياسي والثقافي المصري، هنا مع بدايات الحرب العالمية الأولى كان يجلس المراسلون الأجانب ليستشفوا الأخبار وآخر التحركات، فأمام المقهى كان يقع مقر القيادة العامة لهيئة الأركان لدول المحور بقيادة الامبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها، وعلى الرصيف المقابل كان مقر حكمدار العاصمة وفي الأسفل قسم قصر النيل وهو المكان الذي تحتله الخطوط الفرنسية الآن. أما المقهى فقد تأسس على يد رجل الأعمال النمساوي «بيرنارد ستينبرج» وفي 26 أكتوبر عام 1914 باعه لرجل الأعمال الفرنسي هنري بير أحد الرعايا الفرنسيين الذي أعطى له اسم «ريش» ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس الذي ما زال قائما إلى الآن ويسمى «كافيه ريش»، ويملكه حاليا مجدى ميخائيل وهو أول مالك مصرى له. وعندما تزور مقهى «ريش» ستكتشف أنك أمام تحفة معمارية، وستبهرك الديكورات واللوحات التي تملأ المكان، وستقف طويلاً أمام اللافتة التي تعلو الباب الرئيسي والتي تشير إلى أنه تأسس عام 1908م. وكان المقهى في ذلك الوقت ممتدا إلى ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) وكان بجانب المقهى مسرح غنائي غنى عليه عمالقة الغناء وقتها وعلى رأسهم صالح عبدالحي وزكي مراد. ومنذ ذلك الوقت أصبح لمقهى ريش بعد ثقافي وتحول من مجرد مقهى إلى مكان يتجمع فيه أبناء الطبقة الارستقراطية والفنانون والمثقفون والأجانب. وقد كان المطرب الملحن الشيخ أبو العلا محمد يغني ذات مساء مصطحبا تلميذته أم كلثوم وكانت لا تزال طفلة ترتدي العقال والملابس العربية تعاقد المقهى معهما على اقامة حفلات غنائية منتظمة حسبما اكدته صحيفة المقطم في عددها 30 الصادر مايو 1923 عبر إعلان يحدد يوم الخميس موعدا أسبوعيا لوصلات غنائية وتواشيح بصوتها الرقيق الذي ينفذ للقلب تحت عنوان هلموا احجزوا محلاتكم من الآن كرسي مخصوص ب15 قرشا ودخول عمومي عشرة قروش ..وكانت قد شوهدت أواخر الأربعينيات تجلس في المقهى على طاولة تضم كامل الشناوي وأحمد رامي والفنان سليمان بك نجيب بينما القصبجي يطرب أسماعهم بأرق الألحان على العود. وكان أيضا من أشهر رواد ريش الصحفي الأديب إبراهيم منصور، والشاعر نجيب سرور الذي كتب عن عوالم المقهى في ديوانه الشهير بروتوكولات حكماء ريش، وفي بهو المقهى قدمت فرقة الفنان عزيز عيد المسرحية فصولاً عدة من مسرحياته التي قامت ببطولاتها الفنانة روزاليوسف تخللها بعض المونولوجات يغنيها الفنان محمد عبدالقدوس والد الأديب احسان عبدالقدوس والذي تعرف على الفنانة روزاليوسف التي كانت بطلة الفرقة واثمرت قصة حبهما بالزواج. وعلى مقهى ريش ولدت موهبة سليمان بك نجيب التمثيلية في عام 1920،حيث كان سكرتيرا خاصا لوزير الأوقاف ولم يكن في حاجة إلى المال لكنه كان يحلم بأن يقتبس نصا أجنبيا ويقدمه لفرقة مصرية، وفي صباح يوم جمعة على ريش قدم له صديقه الدكتور عمر وصفى رواية عنوانها ( لاشئ ولكنه حقيقة) وقد فرح بها وباعها لفرقة زكي عكاشة المسرحية بنحو 40 جنيها. وفي الأربعينيات من القرن العشرين احتشد كل من يعمل في الموسيقى والغناء في المقهى لإيجاد حل لمشاكلهم المهنية وكان على رأسهم أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وكانت نتيجة هذا التجمع أن تم الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين بمصر بل وفي العالم العربي. مقهى ريش من الداخل بمثابة ألبوم يحكي تاريخ القاهرة فتجد صورا للأهرامات والفيضان في مصر.. وصورا لميادين القاهرة قديما. أما المكان نفسه فعندما تدخله تشعر براحة غريبة واحساس فريد لتستريح أذنك على صوت محمد عبد الوهاب يشدو على «الجرامافون»، وتجد صور أشهر الفنانين والكتاب الذين كانوا يجلسون في هذا المكان معلقة على حوائطه على رأسهم طه حسين.. يوسف إدريس.. أم كلثوم.. نجيب الريحاني.. مأمون الشناوي.. نجيب سرور.. يحيى حقي.. أحمد فؤاد نجم.. أنور وجدي.. حسين رياض.. نجيب محفوظ فلا يكاد يوجد اسم واحد لمع في الحياة السياسية والثقافية والفنية لم يجلس على ريش. ولم تقتصر حكاوي ريش على الفن، واستطاع المقهى على مدار تاريخه ومعاصرته للعديد من الأحداث أن يلعب دورًا هامًا وبأشكال عدة وأن يكون القاعدة التي تنطلق منها الحركات الوطنية. ففي عام 1919م كان المقهى مكانًا تكتب فيه المنشورات والمطبوعات أثناء الثورة وكان مكانا سريا يجتمع فيه دعاة الثورة، هذا ما تؤكده «المطبعة» التي تم العثور عليها داخل بادروم المقهى، كما أنه في ديسمبر عام 1919 شهد محاولة اغتيال رئيس الوزراء وقتها يوسف وهبة. كما خرجت من ريش مظاهرة بقيادة «يوسف إدريس» و «إبراهيم منصور» احتجاجا على معاهدة كامب ديفيد الذي وقعها أنور السادات مع إسرائيل. ومن هنا خرج بيان المثقفين في عصر السادات عقب القرارات التي اتخذها من حبس واعتقال المثقفين والصحفيين الشهيرة والذي أرفق البيان محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب» بتوقيع توفيق الحكيم. وكان المقهى ملتقى الأدباء والمثقفين أمثال المثال كامل جاويش والرسام أحمد طوغان والمحامي الأديب عباس الأسواني وشاعر النيل حافظ إبراهيم وامام العبد ومحجوب ثابت ومحمد البابلي والشيخ أحمد العسكري وكامل الشناوي ومحمد عوده كامل زهيري ومحمود السعدني وعبدالرحمن الخميسي وزكريا الحجاوي، وايضا الكثير من اللاجئين السوريين والعراقيين واليمنيين وأشهرهم الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وحسين الحلاق السوري والشاعر معين بسيسو الفلسطيني والشاعر السوداني محمد الفيتوري ومحمد أحمد نعمان السياسي اليمني والأمير علي عبدالكريم وغيرهم ممن كانوا يحرصون على حضور ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها عصر يوم الجمعة منذ عام 1963 وذلك بعد وقف ندواته في مقهى الأوبرا، وكان ريش يقدم المشاريب والوجبات بتخفيض خاص من باب الحفاوة بضيوف الروائي الكبير. وقال عبدالرحمن الرافعي في كتابه (تاريخ مصر القومي 1914- 1921) فإن ريش ملتقى الأفندية من الطبقة الوسطى كما عرف مقراً يجتمع فيه دعاة الثورة والمتحدثون بشؤونها أو شؤون البلاد العامة. كما كان معقلا لمختلف الطلائع السياسية المتحررة من التعصب الحزبي، يتحاورون ويتسامرون ويتندرون ويتشاغبون لكنهم غالبا ما يتفقون على موقف واحد في مواجهة الملمات الكبرى التي تحتاج الى التحشد والوحدة الوطنية، ومعظم البيانات الوطنية كانت خارجة من هذا المكان .فقد كان ريش متنفسا لكل الطبقات والأنواع من الناس. وفي العام 1972 انطلقت منه ثورة الأدباء احتجاجاً على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنعانى. وكان من أشهر رواد مقهى ريش: الشاعر أحمد فؤاد نجم وله قصيدة شعبية ذائعة الصيت وصف فيها أحمد فؤاد نجم المقهى ورواده. وظهور نجم ورفيق دربه الشيخ امام الذي لحن وغنى اشعاره كان بمثابة قنبلة موقوتة فجرت الكثير من القضايا السياسية والأدبية والثقافية المسكوت عنها، والروائي جمال الغيطاني والألماني فولكهاردفيندفور مراسل (ديرشبيجل). وقد خلد المقهى أبرز شخصياته في صور ورسوم تزين جنبات المقهى. ويتميز ريش عن باقي مقاهي القاهرة بانه معلم بارز في تاريخ مصر الأدبي والثقافي والسياسي منذ أكثر من مائة عام وظل المقهى همزة وصل بين الجيل القديم والجيل الجديد من ظرفاء العصر ومبدعيه. ومن أشهر مقاهي القاهرة القديمة مقهى الحرية الذي أنشأه يوسف أفندي الذي كان يعمل موظفا في شركة تقسيم الأراضي بالمعادي أما قريبه مرقص ميخائيل فكان يعمل محاسبا في شركة بيع أقمشة بالجملة يملكها الخواجة توليدا نو -يهودي الأصل- والمقهى في عمارة مشيدة على الطراز الإنجليزى، وكان أكثر ما يقلق يوسف ومرقص في ذلك الوقت هو قريب لهما يدعى نقولا عاطل وسبب للعائلة كثيرا من المشكلات والأزمات. وبعد تفكير طويل استقرا على إقامة مشروع تجارى برأس مال بسيط يدفعانه هما ويقوم نقولا بإدارته. واستقر رأيهما على إنشاء مقهى سمياه مقهى الحرية. ومنطقة باب اللوق كانت في ذلك الوقت خالية، فتعرض المقهى لخسائر فادحة لابتعاده عن العمران وحركة الناس، واستمر الحال حتى عام 1942 ومع الحرب العالمية الثانية ازداد وجود القوات الإنجليزية وجنودها في مصر وكانوا يفضلون مقهى الحرية لعدم ارتفاع أسعاره وجودة مشروباته. فشهد المقهى إقبالا وصار مكانا لتجمعهم. وصارت تلك الشهرة الإنجليزية شهرة للمقهى فيما بعد بين أهل الطبقة الوسطى في ذلك الوقت، ومن أشهر رواده القدامى الشيخ زكريا احمد والممثلون احمد رمزى ورشدي اباظة وشكرى سرحان والدرملي باشا والضباط الأحرار خاصة الرئيس أنور السادات والمخرجان فطين عبد الوهاب وحسن الإمام.