مع كل يوم يمضي يتضح اكثر فاكثر ان الحرب التي اعلنتها اميركا بعد 11 ايلول سبتمبر تحمل اهداف الهيمنة المباشرة على العالم، بما يتعدى محاربة الارهاب. فها هي ذي تقيم قواعد عسكرية في افغانستان واوزبكستان وقيرغيزستان. وتطبق على باكستان بتحالف مع الهند. وثمة تسريبات تقول انها وضعت يدها على السلاح النووي الباكستاني. هذا وبدأت حملة مركزة على ايران. واخذت تتهيأ لارسال وحدات عسكرية الى الصومال وتحضر لمعركة مع لبنان وسورية. وعززت تأييدها لسياسات الحكومة الاسرائيلية في فلسطين. وادخلت كل ما يفعله شارون - اليعيزر - بيريز - موفاز ضمن مبدأ "حق الدفاع عن النفس"، وهذا موقف بمنزلة اعلان الحرب على الفلسطينيين. اذا كان رأس الحربة في الهجمة الاميركية يتجه الى العالم العربي - الاسلامي، فان الدول الاخرى تشعر بأن ما يجري سيصل اليها ليمس امنها القومي ومصالحها وادوارها الاقليمية والعالمية. وهذا يفسر ما اخذت تبديه روسيا من قلق، ويلقي ضوءاً على جملة التحركات الديبلوماسية الصينية، لا سيما باتجاه الهند، فضلا عما طفق يتصاعد من تصريحات فرنسية تعارض السياسات الاميركية في اكثر من موقع وقضية، ومن نشاط ديبلوماسي على غير صعيد. ومن هنا ما ينبغي لتقدير الموقف العالمي ان يتجمد عند ظاهرة انحناء الدول الكبرى الاخرى، ودول العالم الثالث عموماً. اما العاصفة حين ضربت في افغانستانوفلسطين، فيحسب ان ذلك هو صورة العالم. فالذي يستحق ان يُرصَد جيداً هو اتجاه تطور المواقف مع تقدم الحملة الاميركية وتماديها: اتجاه سيرها نحو العزلة. اما من جهة ثانية، فمن الضروري عدم الانجرار وراء الوصف الاميركي ل"الحرب الصليبية" حتى لو تبين ان هذا الوصف الذي استخدمه جورج بوش الابن لم يكن زلّة لسان، بسبب اتخاذ الهجمة طابعاً عنصرياً ضد كل ما هو عربي ومسلم كما تجلى ذلك في الاجراءات الامنية داخل الولاياتالمتحدة وفي الحملة الاعلامية ضد الاسلام والمجتمعات المسلمة. لأن من يشنون تلك الحرب لا يمثلون المسيحيين ولا المسيحية. فهم فئة من الواسب البروستانت الانكلوساكسون البيض الاميركيين متحالفة مع الصهيونيين تعبر اساساً عن الاهداف الامبريالية الاميركية ومصالح الدولة العبرية ويضمرون العداوة للكاثوليك والاورثوذكسية ودولهما، والمسيحية العربية وصولاً الى الصين. ولهذا يجب ان توصف هذه الحرب باعتبارها الحرب الاميركية التي تستهدف العالم بأغلبيته، وان راحت الآن تخص الاسلام والعرب والمسلمين بسمّها ونيران صواريخها وبعثاتها الامنية. فما ينبغي لهذا الاستهداف ان يدفعنا الى اجتناب الدقة، ولا ان نصيب قوماً آخرين بجهالة. فهناك قوى كثيرة في الغرب من علمانيين ويساريين وطوائف مسيحية غير راضية عن تلك الحرب، او متوجسة خيفة منها حتى على نفسها بعد حين. بل حتى في اميركا نفسها يجب الا نضع الجميع "كل دافع ضرائب" في سلة بوش وادارته وإن حظيت هذه السلطة العنصرية بتأييد الاغلبية. ذلك أن ثمة قوى مهمة، وان لم تكن كبيرة، تعارض الحرب القذرة على العالم العربي والاسلامي، وتشجب العنصرية الممارسة ضد العرب والمسلمين في الولاياتالمتحدة نفسها. ويمكن ان يتسع التأييد الشعبي لها حين تبدأ سياسات بوش بالتعثر، وهو ما سيحدث لا محالة داخلياً وخارجياً. وبكلمة، ان الاستقامة والحصافة تقضيان ان نخوض هذه الحرب ضد من يشنها مباشرة، فلا نتبرع له بتكبير جبهته، او نضم اليه من هم ليسوا معه، او هم في مواقع الاستهداف كذلك، إن لم يكن اليوم فغداً. على ان النقطة الاخرى التي يجب ان تُرى بوضوح ودقة فتتمثل في رؤية الهجمة الاميركية موجهة لنسف الوضع العربي بأكمله، مجتمِعاً، وفي كل بلد على حدة، بما في ذلك الدولة والنظام والسطة والمجتمع ومؤسساته، وحتى وحدة الشعب والتراب الوطني من ثم. يجب ان تُدرك الهجمة ادراكاً عميقاً، فلا تُفهم بسطحية، او تحوّط بالغفلة، فتُترك لتتحقق هدفاً بعد هدف وصولاً الى نهاية الرسالة، او الى الحضيض. وانما يجب ان تواجَه منذ البداية على ضوء نهايتها ومقاصدها البعيدة، وبهذا يمكن بناء جبهة داخلية موحدة في كل قطر، كما على المستوى العربي العام. ومن هنا تبرز، بصورة خاصة، اهمية ان ينطلق القادة العرب في مؤتمر قمتهم، في بيروت، نرجو من الله له الانعقاد من نظرة صحيحة جماعية في ادراك ابعاد الهجمة الاميركية، بديلاً من النظرة القطرية الضيقة التي تتسم بقصر النظر من خلال جنوحها الى الوهم بأنها تستطيع انقاذ جلدها إن تخلت عن اشقائها، وقبلت "نصيحة" اميركا "ان تلتفت الى حالها"، غير مدركة الى اين يؤول حالها منفردة، وما يدبَّر لها غداً. لأن التعامل مع هذه الهجمة من منطق تضامني عربي ومنه الى تضامن اسلامي اوسع، فتضامن عالم ثالثي، فعالمي، هو وحده القادر على المواجهة، بينما سياسة "الهروب بالجلد" من موقع قطري قاصر سيؤدي الى سلخ الجلد، وكسر العظم وتفكيك المفاصل. ببساطة، على مؤتمر القمة العربي الرابع عشر، وبعد ان يقتنع الجميع بالابعاد الحقيقية التي تستهدفها الهجمة الاميركية حاملة المشروع الصهيوني في بلادنا، ان يحدد الخطوط الحمر التي يجب الا يُسمح بتجاوزها سواء كان بالنسبة الى القضية الفلسطينية ووضع الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال، ام على مستوى سيادة الدولة واستقلالها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ما كان على مستوى مجتمعها ومؤسساتها وجمعياتها الخيرية ومدارسها ناهيك عن التدخل في الاسلام نفسه. ومن ثم يوحد الموقف. فهل ثمة ما هو اكثر عدالة ومعقولية واعتدالاً من ان يقاتل المرء على تخوم الخطوط الحمر التي تتعلق بالوجود والهيمنة والثقافة والدين والحقوق الاساسية؟ بهذا يمتلك الموقف العربي الموحد المبادرة حين يحدد ما يريد، وما يمكن ان يقبل به، وما لا يجوز الاقتراب منه، وقد خرج من حالة "المواجهة المنفردة" المتزعزعة، المتلقية للضربات، والتي تأتيها قائمة بعد "قائمة" فتصبح في "حيص بيص". فما ان تظن نفسها افلتت من ورطة حتى تدهمها ورطة اخرى. فاميركا تعدت كل الحدود انظر "نص المطالب الاميركية لتعزيز الرقابة على الجمعيات الخيرية في الكويت" - "الحياة" في 14/1/2002، وتجاوزت المعقول حتى من وجهة من يحزنه ان يواجهها، ولا يكون في حالة تفاهم واياها. فالنمط السابق من "الاصدقاء" لم يعد مقبولاً، والدولة المستقلة التي عرفتها الايام الخوالي، ابان الاحلاف العسكرية والحرب الباردة، لم تعد كافية. ويبدو ان مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى هي ما تريد اميركا استعادتها، اي نمط الحكومات التي اقيمت تحت الاحتلال المباشر. وبهذا تكون اميركا التي تجاوزت الاستعمار القديم بعد الحرب العالمية الثانية، بتعميم نمط "الاستعمار الجديد"، تجنح الآن، على الاقل في عدد من مناطق العالم، الى نمط السيطرة المباشرة، والتدخل في اجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع، وسياسات السلطة، بما يمحو تلك الهوامش من السيادة التي تمتعت بها دولة الاستقلال سابقاً في اطار التحالف مع اميركا او الصداقة واياها. فوجود قواعد عسكرية في البلد لم يعد كافياً، ووجود تفاهم عام مع هوامش خلافية محدودة السقف لم يعد كافياً. فمثلا لم يعد مقبولاً ان تكون دولة ما حليفة او صديقة، لكنها تعارض السياسات الاسرائيلية، او لا تأخذ الموقف الذي تطلبه الدولة العبرية. ولم يعد من حق الدول الحليفة او الصديقة، ان تقرر في امور مناهجها التعليمية او تكون الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع مسؤولة امامها فقط. فاميركا تريد الآن ان تكون صاحبة القرار والمسؤولية في كل ذلك. وهو ما يجب ان نقرأه في "نص المطالب الاميركية لتعزيز الرقابة على الجمعيات الخيرية في الكويت"، كما في كل "قائمة" قُدمت لدولة عربية او للسلطة الفلسطينية. وهل بعد كل هذا يمكن للقمة العربية المقبلة الا تحدد الخطوط الحمر متضامنة حولها مقاتلة دونها؟