يجب ان يقال، بادئ ذي بدء، ان مؤتمر هيئة الأممالمتحدة لمكافحة العنصرية، في ديربان، في جنوب افريقيا، ابتداء من 29/8/2001، ولمدة أسبوع، حقق هزيمة أكيدة للصهيونية والدولة العبرية، والادارة الأميركية، ولعدد من الدول الأوروبية، حتى لو لم يتضمن بيانه الأخير الذي سيصدر مع نهاية المؤتمر أية اشارة تعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، او تصمها بالعنصرية. بل حتى لو لم يتضمن ادانة لممارسات الدولة العبرية باعتبارها عنصرية، او تحمل وجهاً عنصرياً. لأنه يكفي ان يعود موضوع عنصرية الصهيونية، وعنصرية السياسات الاسرائيلية الى السجال والتداول عالمياً، وعلى النطاق الذي مثله المؤتمر مئة وخمسون دولة وأكثر من ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية، ليشكّل ذلك حدثاً تاريخياً، في منتهى الأهمية، تُستهل به الألفية الثالثة. وقد ظن البعض انها ستكون الفية الهيمنة الصهيونية على الشرق الأوسط والعالم من خلال هيمنة نظام القطب الواحد الذي تمثله أميركا. ولكي ندرك خطورة هذا التحول في مدى عشر سنوات لنتذكر كيف خطفت ادارة جورج بوش الأب قراراً من الجمعية العمومية لهيئة الأممالمتحدة يُلغي قرارها لعام 1975، والذي اعتبر "الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية". وقد مضت عملية الالغاء بسلاسة، وبأسرع من لمح البصر، وفي ظروف اتسمت بذهول عربي واسلامي وعالمي تولّد بعد حرب الخليج الثانية، وفي اثناء تتابع انفراط المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الاتحاد السوفياتي، والذي راح ينفرط هو نفسه كذلك. هذا ولنتذكر كيف انتقلت ادارة بيل كلينتون والحركة الصهيونية والدولة العبرية، بعد ذلك، الى مرحلة الهجوم الايديولوجي والسياسي لفرض الانحناء العالمي امام ضحايا الهولوكوست. وكان القصد من وراء ذلك ان تستخدم المحرقة استخداماً سياسياً، أولاً وقبل كل شيء، من اجل تكريس وجود الدولة العبرية وتغطية اقامتها على اشلاء الشعب الفلسطيني من خلال الاستيلاء على وطنه وبيوته وأراضيه وما حاق به من تطهير عرقي، بما قد يتعدى الوصف بالعنصرية والميز العنصري. كما من اجل تبرئة الصهيونية من العنصرية بزعم انها "وريثة ضحايا الهولوكوست". ومن ثم تسهيل هيمنتها على الآخرين وابتزازهم بتهمة اللاسامية أمام أبسط اعتراض، او ممانعة مهما كانت محقة، ولا تحمل ضغناً. وبالفعل قُطع شوط ليس بالقصير على هذا الطريق. ومن هنا يمكن تثمين ما شهده مؤتمر ديربان من تحول حين يعود موضوع عنصرية الصهيونية وعنصرية الممارسات الاسرائيلية الى السجال العالمي من جديد، عوداً حاراً وجدياً. وهو تحول يفترض بأن يُقرأ من خلاله ما جرى اليوم من متغيرات في الوضع العالمي مقارنة بأوائل التسعينات. فالذين اطنبوا في الكلام على المتغيرات في ذلك الوقت عليهم ان يتنبهوا جيداً الى المتغيرات الراهنة ويحدقوا في ظاهرة مؤتمر ديربان تحديقاً مدققاً. فأين أميركا جورج بوش الأب من أميركا جورج بوش الابن؟ فشتان بين من كان في موقع الإملاء على العالم فيطاع، ومن أصبح لا يملك غير التهديد والوعيد والانسحاب من المؤتمر، ولا يُطاع. وإن ما زالت قدرته على التخريب والتعطيل بالغة، ولا فخر في التخريب والتعطيل. أما اذا تغلبت في اجواء مؤتمر ديربان روح البحث عن وفاق عام، ولم يستطع ان يخرج، في الأقل بتأكيد على عنصرية السياسات الاسرائيلية فسيكون الوضع في حال شبه التوازن الاستراتيجي من هذه الزاوية. ولكن مَنْ يكون قد تقدم انما هي الشعوب والدول وآلاف المنظمات غير الحكومية، وتكون أميركا والدولة العبرية، ومن دار في فلكهما حول هذا الموضوع، او موضوع "الرق" هم الذين تراجعوا في ميزان القوى السياسي العالمي الذي تشكّل في أوائل العقد المنصرم. بكلمة، يجب القطع بالقول ان مجرد طرح علاقة الصهيونية بالعنصرية ووصم السياسات الاسرائيلية بالعنصرية، والى جانب ذلك موضوع اعتذار أوروبا والولاياتالمتحدة الاميركية عن ممارسات استرقاق ملايين الأفارقة حتى بلا طلب التعويض، يُعتبران نصراً لفلسطين ولأفريقيا ولشعوب العالم الفقير كله. فبالنسبة الى فلسطين لا بد من أن يُرى انجازاً للانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، وبالنسبة الى افريقيا السوداء جزءاً من المتغيرات الايجابية التي راحت تجتاح الوضع العالمي مع اوائل العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين. لو رصدنا الحجج التي رددها ممثلو الادارة الأميركية والدولة العبرية ومن ناصرهم من تكنوقراطيي اجهزة هيئة الأممالمتحدة، فضلاً عن عدد من أعضاء الوفود الأوروبية، لعدم ادراج موضوع الرق والتعويضات والاعتذار الأميركي الأوروبي عنه، او موضوع عنصرية الصهيونية او عنصرية الممارسات والسياسات الاسرائيلية، لوجدناها حججاً واهنة لا تستطيع ان ترد بالوقائع والحقائق، أو أن تُقنع بالمنطق، او بتقديم تعريف للعنصرية يسوّغ سحب الموضوعين. ففي الموضوع المتعلق بعنصرية الصهيونية والسياسات الاسرائيلية دارت الحجج حول اتهام الآخرين غالبية المشاركين في المؤتمر من دول ومنظمات غير حكومية بإثارة الكراهية والعداء للسامية والتطرف وما شابه. أي الهرب من مناقشة الموضع واللجوء الى الشتم والاتهام والارهاب. أما الحجج التي حاولت الاقتراب من الموضوع فاستندت الى القول ان مشكلة الشرق الأوسط "مشكلة سياسية لا علاقة لها بالعنصرية"، كأن ثمة عنصرية لا تحمل بعداً سياسياً، أو كون مشكلة ما ذات طابع سياسي ينفي عنها تلقائياً، وضرورة، ان تكون عنصرية في الآن نفسه. فالموضوع يدور حول اعتبار السياسات والممارسات الاسرائيلية ذات سمة عنصرية الى جانب سماتها الأخرى، وبعضها اسوأ من العنصرية. ومن ثم فالحجة القوية تفترض نفي هذه الصفة عنها وليس مصادرتها بسبب طابع الصراع السياسي. وينطبق هذا على القول ان بحث موضوع الصهيونية "مسألة ايديولوجية بينما الاهتمام يجب ان يركز على الجوانب العملية"، كأنما الصهيونية ليست مشروعاً سياسياً وعسكرياً وفاعلاً في تغيير الحقائق على الأرض ومن ثم فان وصفها بالعنصرية لم ينبع من الجانب الأيديولوجي البحت، على رغم انغماسه بالعنصرية في مقولاته، وإنما من المشروع الصهيوني حين ترجم نفسه الى دولة ومجتمع أُحلا مكان الشعب الفلسطيني وفوق وطنه وأرضه وفي مدنه وقراه وفي بيوته فألقي من نجا من المجازر في الشتات والمنافي، ومورس الميز العنصري على القلة التي بقيت تحت الدولة العبرية. فالصهيونية المعنية بالعنصرية هي صاحبة ذلك المشروع. ولشدّ ما كان كوفي أنان أمين عام هيئة الأممالمتحدة هازلاً حين اعتبر ان مسألة مساواة الصهيونية بالعنصرية مسألة ماتت وأصبحت من الماضي، إذ كيف يعتبرها ماضياً والصراع في فلسطين في أوجه، والصهيونية والسياسات الاسرائيلية وعنصريتهما أقوى حضوراً وراهنية من أي يوم مضى. ولكن لا عجب في ذلك وقد اعتبر في الآن نفسه، أيضاً، ان مسألة الرق "معقدة وليس هذا المؤتمر مكانها"، وهي مسألة يفترض بها ان تعنيه شخصياً وتخص بلاده الأفريقية، وأن يكون موقفه منها، في الأقل، في مستوى موقف اعضاء كتله "بلاك كوكوس اميركان" البرلمانيون الأميركيون السود في الكونغرس، والذين "دانوا موقف الادارة الاميركية من مؤتمر الأممالمتحدة لمناهضة العنصرية وأعربوا عن تأييدهم تقديم تعويضات عن الرق" "الحياة" في 3/9/2001. فإذا لم يكن مؤتمر الأممالمتحدة لمناهضة العنصرية هو المكان الأنسب لبحث مسألة الرق والاعتذار والتعويض عنه، أو لبحث علاقة العنصرية بالصهيونية والسياسات والممارسات والقوانين الاسرائيلية فأين هو ذلك المكان؟ فكل من قضية الرق والمسألة الفلسطينية وإبادة الهنود الحمر تدعمها وقائع وشواهد تاريخية لا جدال في صحتها، ولا شبهة في تحديد موجهيها ومرتكبيها والمسؤولين عنها، ولها في الحاضر استمرارية في تواصل الاجيال التي هي ضحيتها. فعلى سبيل المثال ان عواقب الرق، وما نجم عنه من ضحايا وويلات، وما خلفه من آثار، ما زالت افريقيا تعاني منه حتى اليوم، وما زال سود الولاياتالمتحدة الأميركية يدفعون الثمن حتى بعد ان الغي الرق، وثُبِّتت المساواة في الدستور. فواقع احياء السود كما واقع افريقيا السوداء ما زالا يشهدان على نتائج سياسات استرقاق الأفارقة وسوقهم الى "العالم الجديد" عبيداً، ثم ممارسة الميز العنصري ضدهم. وعلى رغم ذلك شهدنا تحالفاً في مؤتمر ديربان بين ممثلي الادارة الاميركية والدولة العبرية والصهيونية وعدد من الدول الأوروبية لعدم مواجهة قضية الرق وآثارها المترجمة الى واقع مزرٍ يعاني منه السود وافريقيا السوداء والكاريبي حتى يومنا هذا. مما يستوجب الاعتذار الصادق والتعويض السخي وإن كان ذلك دون ما ارتكب من جرائم، ووقع من ضحايا، وحدث من ويلات. وبكلمات مختصرة ان وضع مؤتمر ديربان تحت المجهر يكذّب المقولة التي راجت خلال العقد الماضي، وما زالت، بأن عالمنا اصبح "قرية صغيرة" أو تحول الى "قرية عالمية". فالانقسام الذي شهده مؤتمر ديربان يتكشف عن هوّة هائلة بين عالم الأغنياء وعالم الفقراء، كما بين من يريدونه عالماً ظالماً ومن يريدونه عالماً اكثر عدالة. كما تكشف عمن يمثلون الاخلاقية والقيم الانسانية التي تعبر عن روح العصر، ومن يفتقرون الى الاخلاقية حتى في قضايا مثل قضية فلسطين وقضية الرق. وهذا ما ينطبق على تحديد من يمثل قيم التقدم المفترض، والحداثة المفترضة، ومن ما زالوا يعيشون في عقلية عهود الاستعمار والعبودية والعنصرية. فمن خلال مؤتمر ديربان يجب ان يقرأ عالم اليوم وموازين قواه السياسية، واتجاهات صراعاته، وإن لم يغط الصورة كلها، خصوصاً من جهة صراعات الدول الكبرى في ما بينها أو موازين القوى العسكرية والاقتصادية.