يوم اعلان الكراهية لأميركا في عمليات الطائرات الانتحارية، حصلت الولاياتالمتحدة على اقصى التعاطف والتضامن بكثير من الحزن والألم. ساعة سقط برجا مركز التجارة العالمية، تزاوجت الصدمة بالكآبة في مختلف أنحاء العالم وثار الغضب. لا، لم يستفد من قام بهذا الارهاب الماهر، ولم يفد أية قضية يتبناها. لا، لن يكون لهذه الكارثة وقع ايقاظ اميركا الى تصحيح سياساتها ولا ايقاع الفتنة بينها وبين العالم. ولا، لم تسقط عظمة اميركا وهيبتها بنسف مباني المال في نيويورك ومباني القنابل في واشنطن، ذلك ان ما خلّفته الطائرات الانتحارية هو قتل آلاف الابرياء وتكاتف العالم في ادانة العمليات. اميركا الرسمية متحاملة في كثير من سياساتها واميركا الشعبية في استرخاء ولامبالاة بما يحدث خارج حياتها اليومية. كثيرون داخل الولاياتالمتحدة وفي بقية العالم في حال غضب من اميركا واحتجاج على مواقفها. تيموثي مكفاي فجّر غضبه في عملية ارهابية في اوكلاهوما، واسامة بن لادن فجر احتجاجه في عمليات عدة داخل اميركا وخارجها. وحتى كتابة هذه السطور، لم يستنتج التحقيق مَنْ وراء عمليات الطائرات الانتحارية وان كانت قائمة التكهنات والافتراضات والنظريات تضع ابن لادن في مقدم القائمة وتشمل احتمال تورط العراق. في انتظار التحقيق، على الاوساط العربية والاسلامية، في المنطقة العربية والولاياتالمتحدة، ألا تتصرف باستهجان لوضع العرب والمسلمين على قائمة التكهنات. فتاريخ مثل هذه العمليات يجبر على الاخذ في الاحتمال ان تكون الطائرات الانتحارية اختُرقت او اختُطفت من جانب عرب أو مسلمين. يمكن الاحتجاج على التسرّع وعلى تصنيف العرب والمسلمين مسبقاً ويمكن تحدي التحريض على عقاب جماعي للاميركيين من اصل عربي او لأميركيين مسلمين. انما ليس انسانياً ان تتقوقع حفنة من المحلّلين في اطلاق نظريات تفترض تدبير إلصاق التهمة بالعرب والمسلمين لغايات سياسية، بينما نيويورك في صدد تعداد آلاف القتلى والجرحى. اولى المحطات الانسانية تتطلّب احترام الألم لدى النيويوركيين الذين جاؤوا من مختلف انحاء العالم ليصنعوا من هذه المدينة وطناً. فبين الضحايا على متن الطائرات وفي برجي "مركز التجارة العالمي" ابناء نيويورك من عرب ومسلمين ايضاً. والرسالة الواقعية الضرورية هي: اننا ايضاً ضحية هذا الارهاب. نحن النيويوركيين من اصل عربي سقطنا ضحية الطائرات الانتحارية، شأننا شأن النيويوركيين الآخرين من اصول مختلفة. اما المحطة المنطقية في تحليل ما حدث فإنها تتطلّب، اقل ما تتطلّبه، القليل من المنطق. فالكلام عن تدبير إلصاق التهمة بأطراف عربية او مسلمة يتنافى عقلانياً مع حاجة الولاياتالمتحدة، حكومة وشعباً الى التعرّف الى العدو الحقيقي الذي شن حرباً لا سابقة لها عليها. واميركا اليوم ليست في وارد اختراع العدو لأن الحرب حقيقية وشُنّت عليها في عقر دارها. ان المسألة في غاية الجدية وليست في حاجة الى نظريات خيالية. فإذا كشف التحقيق تورط عرب ومسلمين في العمليات، فإن ما يفيد القضايا العربية ليس التبرير ولا الربط بين سوء السياسة الاميركية وبين الطائرات الانتحارية. فمثل هذا الربط سيسكب الوقود على النار ويعزّز الابتعاد عن أية قضية وشعبها بغضّ النظر عن عدالتها. صورة حفنة من الاشخاص الذين رقصوا مع اطفالهم ابتهاجاً بالكارثة التي وقعت لاقت صدى لا يمكن تصوره وسرقت حجماً ضخماً من التعاطف مع الفلسطينيين. صحيح ان وسائل الاعلام تعمّدت تكرارها بنوع من التحريض، وكأن هذه الحفنة تمثل كامل الرأي العام العربي. لكن واقع هذه الصورة ألحق بالغ الضرر بالقضية الفلسطينية كما بعمل الاميركيين العرب الدؤوب لشرح عدالة القضية وما يتعرض له الفلسطينيون من قهر وقمع على أيدي الحكومة الاسرائيلية برئاسة ارييل شارون. وللتصحيح، كما للإيضاح، من الضروري تعزيز الادانة لعمليات الطائرات الانتحارية في كل مجال ومكان وعلى كل مستوى شعبي او حكومي في العالم العربي. من الضروري ابراز التمييز بين الغضب العام من السياسات الاميركية المتعاطفة مع اسرائيل على حساب الفلسطينيين، وبين ابتزاز اية مجموعة لهذا الغضب لاستخدامه مبرراً لحرب الكراهية لغايات انتقامية ونرجسية. فالذي يريد خدمة القضايا العربية والاسلامية العادلة لا ينفّذ عمليات تحشد العداء للقضايا واصحابها وتبعد عنها كل تفهّم ودعم. فهذه العمليات تكاد تكون هدية لشارون الذي اسرع بدوره الى ابتزاز الكارثة ليعلن ما يشابه مؤازرة بين التوأمين، الاسرائيلي والاميركي، في مواجهة الارهاب، وكأنه يعتبر ان ما حصل في نيويوركوواشنطن يعزّز مكانة اسرائيل ك"ضحية" للارهاب. جزء من التحدي الذي يواجه العرب في اميركا وخارجها يتطلّب الابحار الحذر بين مقاومة الاحتلال وبين مقاومة الارهاب. فالارهاب عدو المقاومة لأنه يجردها من هدفها. واذا كان ابراز بشاعة الاحتلال امراً ملحاً ومتماسكاً، يجب ان يرافقه ابراز لبشاعة الارهاب، بلا تحفظ ولا مبررات. هذه العمليات لا يمكن ان تكون حصيلة فورة عاطفية اثارتها سياسات حديثة بسبب ما تتطلبه من تدريب على قيادة الطائرات ومن تخطيط بارع الدقة والتنظيم ومن اموال ومن تماسك اعصاب. انها عمليات استغرقت وقتاً طويلاً وضمّت حوالى عشرين شخصاً على الاقل، حسب التقدير الاولي، لم يقع في صفوفهم اي اختراق ولم يرتكب احدهم اي خطأ. كل ذلك أدى الى التشكيك في امكانات وقدرات منظمة واحدة للتخطيط لها وتنفيذها، ولذلك فإن الشكوك، كما التحقيق، تركّز على دول، وابرزها العراق. لعل هناك مجموعة من المنظمات تعاونت في على التخطيط للعمليات وتنفيذها. لكن استعداد عشرين شخصاً للتدرب على قيادة الطائرات في عمليات انتحارية، بقي العنصر المذهل والمثير للدوافع والغايات. فهذه حرب يشنها مجهول يتحدى اميركا كي تذهب الى الثأر والانتقام. فلماذا؟ هل هي معركة ثأر وانتقام اساساً وكمحطة اخيرة، أم انها حرب انتحارية في بداية المطاف ونهايته؟ هل هي صرخة إحباط أم انها حلقة في استراتيجية تلقين الدروس وضرب الاستقرار وإسقاط اميركا في زوبعة اللاطمأنينة وإجبارها على اعادة النظر في مواقفها السياسية؟ أهي زمرة او عصابة اعلنت نفسها عدواً لعظمة اميركا وهيبتها، أم ان اميركا هي التي صنعت العدو بتجاهلها استثمارات لها في سياسات قصيرة المدى كما فعلت في افغانستان قبل عشرين سنة، أو لا تزال تفعل من خلال سياسات لها في بقع عديدة منها الشرق الاوسط؟ بعض هذه الاسئلة ملحّ في الذهن الاميركي لكن الاولوية على الصعيد الرسمي، هي للرد الحاسم والحازم على كل من له علاقة بهذه العمليات، بدعم وتنسيق دوليين كخيار مفضّل، انما بعمل اميركي منفرد اذا تطلّبت الحاجة. فهذه أصعب لحظات اميركا شعباً وحكومة وهي اصعب الامتحانات التي تواجه الرئيس جورج دبليو بوش. امتحان معدنه وقدراته القيادية. امتحان عزمه وحكمته. والردّ لن يكون صفعة تأديب وانما سيكون حرباً على الارهابيين والدول التي تؤويهم او تقدم المعونة اليهم. لكن الفوضى والتراجع لن يكونا مصير اميركا، كما تعهد بوش، وهو في ذلك يتمتع بدعم الشعب الاميركي بكامله. هذا لا يرحمه من الضغط الرهيب. فالاميركيون يريدون التعرّف الى هوية العدو الذي صرعهم في الصميم، وغالياً. انهم في حاجة الى وجه قبل الاهتمام بمعرفة الاهداف والرسالة. ومهما كانت الرسالة، فأميركا غير قادرة على استيعاب فكرة ايصال تلك الرسالة عبر ضرب الابرياء والاقتصاد ورمز الرأسمالية. انها لا تفهم كيف يؤدي شنّ الحرب عليها الى تغيير سياساتها لتصبح اكثر عدالة او اقل انحيازاً. بعض الاميركيين طفح كيله من العرب والمسلمين ومآسيهم وقضاياهم. وبعضهم طفح كيله من اسرائيل وما حصده دعم اميركا لها من كراهية وعداء للاميركيين. والاكثرية لا تفهم لماذا تُجرّ اميركا الى حربٍ اقليمية لا تريد لنفسها صلة بها. قد تنطلق حملة عقاب جماعي للاميركيين العرب والمسلمين اذا ثبت تورط مجموعات وافراد عرب ومسلمين في العمليات، وقد بدأت بوادر العنصرية والدعوات الى هذا العقاب تطفو في مختلف انحاء اميركا. وقد تنطلق موجة غضب من اسرائيل وسياساتها نحو الفلسطينيين التي أدت الى زجّ اميركا طرفاً في حرب بسبب العلاقة العضوية والتحالف بين الولاياتالمتحدة واسرائيل. وهذا بدوره قد يثير الاميركيين ضد تلك العلاقة. مهما كانت النتيجة. مهما كشفت الطائرات الانتحارية من هشاشة اميركا العظمى ووضعتها في حال حصار. مهما عقدت دول العالم العزم على قهر الارهاب. ومهما كانت الجهات التي ستدفع الثمن... فإن ما حدث هذا الاسبوع مأساة انسانية أصابت الجميع، اميركيين وعرباً ومسلمين. فكلهم وقع ضحية. والخوف ألاّ يحترم كل منهم ألم الآخر.