في الحلقة السابقة تحدث منتصر الزيات مطولاً عن مبادرة تنظيم "الجماعة الإسلامية" بوقف العمليات المسلحة داخل مصر وخارجها، والدور الذي حاول الظواهري لعبه لإفشال المبادرة، وكشف عن محاولات لزعيم جماعة "الجهاد" لإقناعه بالفرار من مصر واللجوء إلى لندن. واليوم يتحدث الزيات عن الأخطاء التي وقع فيها الظواهري والتي رأى أن الإسلاميين في كل مكان وجدوا أنفسهم يدفعون ثمنها. بمقدار ما كانت العلاقة تزداد وتتنامى بين الدكتور أيمن الظواهري وبين أسامة بن لادن، بمقدار ما كان التباعد يزداد بينه وبين آخرين عاصروا بداياته الأولى في مصر وراقبوا عن بُعد بداياته الثانية في أفغانستان. كنت واحداً من هؤلاء الذين ساندوا الظواهري داخل السجن أيام قضية السادات، ما كان سبباً في مشاكل حدثت لي مع آخرين لم يكن يروقهم ما يفرضه الظواهري من آراء وافكار وربما ما يُقدم عليه من تصرفات. وما زلت أذكر، ومعي كثيرون، كيف تكرر الأمر بعدما أُعلن الظواهري أميراً ل"جماعة الجهاد" في افغانستان، وكيف كانت مواقفي التي لم أكن أبغي من ورائها إلا وجه الله سبباً في أن أصاب بسهام معارضيه وكارهيه. وتكفي هنا الاشارة الى حوار نشرته صحيفة "الحياة" عام 1994 مع محمد إبراهيم مكاوي بعد الخلاف الذي تفجر بينه وبين الظواهري لأسباب عدة بينها تنازعهما المسؤولية عن حادثة محاولة اغتيال وزير الداخلية الاسبق اللواء حسن الألفي. في ذلك الحوار وجه مكاوي اتهامات حادة الى الظواهري ووصفه بأنه عميل للاستخبارات الاميركية وانه ينسق مع الايرانيين وانه ينفذ تعليمات تصدر له من جانب الاجهزة الامنية المصرية. أما أنا فاتهمني مكاوي، ومعي مراسل صحيفة "الحياة" في القاهرة الأستاذ محمد صلاح بأننا عميلان للظواهري وبالتالي عميلان لكل الجهات التي يعمل لمصلحتها زعيم جماعة "الجهاد". شكك مكاوي في مصادر رزقي وقال إن مكتبي أسس من اموال حرام، وأنني أتاجر بعذابات أهالي السجناء والمعتقلين. كل ذلك على رغم أنني لم أختلف معه في قضية فكرية أو فقهية أو منهجية ولم أدخل معه في أي جدل حول الجهاد الافغاني مثلاً أو نشاطه في الخارج، أو تاريخه قبل أن يخرج من مصر. كان كل ما جنيته أنني أدليت بحوار الى صحيفة "الحياة" سُئلت فيه عن ولاء المتهمين في قضايا طلائع الفتح الاربع التي نظرت أمام دوائر عسكرية في ذلك العام فقلت إنهم يدينون بالولاء للظواهري، وأن لا علاقة لهم بمكاوي ولم أكن اسعى من وراء ذلك الى "تلميع" الظواهري أو ابرازه أو اصطناع بطولة له. كانت تلك هي القضية وأذكر أن الاستاذ محمد صلاح رفض نشر الحوار الذي كان أجراه معي قبل أن يحضر بنفسه جلسة لواحدة من تلك القضايا لانه كان يعي حساسية الخلاف بين الاثنين: الظواهري ومكاوي، وسمع بنفسه المتهمين يهتفون بحياة الظواهري ويقرون ولاءهم له. كان مكاوي واحداً ممن التحقوا بتنظيم الظواهري بعدما فرّ من مصر في نهاية الثمانينات، وهو كان عقيداً في الجيش لكنه فصل من الخدمة على اثر اتهامه عام 1987 في قضية "إعادة إحياء تنظيم الجهاد"، وبعد وصوله إلى أفغانستان التحق بجماعة "الجهاد" ولكن بعد فترة بدأت الخلافات بينه وبين الظواهري ثم انفصل عن التنظيم ودخل الاثنان في "كلاش" إعلامي. للأسف نالني من مكاوي الكثير أما الظواهري فإنه اكتفى وقتها بإبلاغي عبر بعضهم بأنه راض عن جهودي في مجال محاصرة مكاوي إعلامياً وفضح مزاعمه عن وجود عناصر تابعين له داخل مصر لكني من جهتي حرصت وقتها على أن يصل للظواهري تأكيدي أنني لم اسع إلى محاصرة مكاوي إعلامياً وأن كل ما تحدثت به عن المتهمين في قضايا "طلائع الفتح" لم يكن سوى الحقيقة بغض النظر عن الطرف المستفيد من إعلانها. اردت بهذا التوضيح أن أذكُر بأن علاقتي بالظواهري، سواء بطريقة مباشرة اثناء وجوده في مصر، أو غير مباشرة منذ خروجه من مصر، ظلت تتسم دائماً بنوع من الفهم والتفاهم، بغض النظر عن توجهات كل منا واسلوبه في العمل. لكن الأمر اختلف كثيراً بعدما خرج الظواهري من افغانستان العام 1994 واتجه للاقامة في السودان مع بن لادن، إذ كان سبباً في تقاربهما وابتعاد الظواهري عن الاخرين، خصوصاً هؤلاء الذين عرفوه في مصر ولم يلحقوا به في افغانستان، التي عاد اليها عام 1996 شخصاً مختلفاً غير ذلك الرجل الذي عرفناه. تحول الظواهري الى جزء من البيئة المحيطة به وبدا مصراً على السير في الطريق الذي حدده بن لادن ليس فقط لأن العمليات التي اضطلع بها عناصر "الجهاد" في مصر فشلت، كما أسلفت، ولكن أيضاً لأن منابع التمويل كانت قد جفت والروافد التي كانت تتدفق عبرها الاموال الى التنظيم كانت قد سدّت. هكذا كان قلبي ينعصر اثناء قراءة اعترافات عناصر الجماعة الذين سلموا الى مصر عام 1998 من ألبانيا وبلغاريا واذربيجان، فغالبيتهم لم تذهب الى تلك البلدان لأداء أدوار تنظيمية ارتضوا ان يقوموا بها باختيارهم وانما وصلوا الى هناك بعدما ضاقت بهم السبل فبحثوا عن مأوى ومكان يعيشون فيه بأمان، ومع ذلك فإن من عثر منهم على فرصة عمل في المكان الذي استقر فيه كان يقتطع جزءاً من قوته ليساهم به في نشاط الجماعة التي كانت تحولت من تنظيم يسعى الى اقامة دولة اسلامية في مصر الى مجرد جناح تابع لتنظيم "القاعدة"، فارتضى الظواهري أن يتخلى عن دور البطولة ليكتفي بدور "مساعد البطل" ودخل بالجماعة التي كانت امتداداً لتنظيم "الجهاد" صاحب التاريخ الطويل في حضن تنظيم وليد تسبب لاحقاً في أكبر ضربة اجهاضية للحركات والجهات والشخصيات الاسلامية في العالم. ولم تطل تلك الضربة "جماعة الجهاد" وحدها وإنما دفع الثمن ايضاً اشخاص وجهات اسلامية لم تكن برامجها أو خططها المستقبلية على علاقة بتوجهات بن لادن والظواهري. كان من نتائج مبادرة "الجماعة الاسلامية" التي اتهمني الظواهري بالضلوع فيها، توقف حملات الشرطة المصرية ضد عناصر الجماعة في الصعيد والمدن الاخرى، قبل أن تدخل تلك المبادرة حيز التنفيذ لم يكن أي اسلامي في مصر يشعر بالأمان، وكانت الحملات التي تستهدف اعتقال الاسلاميين لا تتوقف، أما بعد فالمبادرة سمحت السلطات باطلاق المئات وربما الآلاف ممن قضوا سنوات وسنوات خلف القضبان وبين جدران السجون بذريعة أن المناخ لا يسمح بإطلاقهم، وتحسنت كثيراً أوضاع السجناء لمن يقضون فترات العقوبة في قضايا تطرف أمام محاكم عسكرية وهم الذين ضيق عليهم لسنوات طويلة نكاية بهم وانتقاماً مما ينفذه زملاؤهم. وتحسنت صورة "الجماعة الاسلامية" في وسائل الاعلام ولدى الدوائر السياسية حتى أن شخصيات عامة وسياسية ينتمي أصحابها الى تيارات معادية للتيار الاسلامي طالبت بكيان قانوني ل"الجماعة الاسلامية" وهو ما لم يكن مطروحاً أصلاً قبل المبادرة. أما في الخارج فإن الحملات التي شنتها اجهزة الامن في اكثر من دولة لم تشمل عناصر "الجماعة الاسلامية" إلا نادراً وحصل أكثر من قيادي في التنظيم على حق اللجوء السياسي في اوروبا. أعترف بأن كل ذلك ليس كافياً، وبأن التضحية التي اقدمت عليها "الجماعة الاسلامية" والتحول التاريخي الكبير في مسيرتها كانا يستحقان أكثر وأكثر، لكنها من وجهة نظري خطوة كانت ستتبعها خطوات اخرى لولا ما حدث في نيويورك وواشنطن والعولمة الامنية التي فرضتها اميركا على الجميع. زلزلت الارض تحت أقدام الاسلاميين في كل مكان وواجهت حركات اسلامية لم يكن استهداف اميركا ضمن برامجها ثمن الخطأ الكبير. وقبل أن يفهم كلامي بصورة خاطئة، وجب التوضيح ان معاداة اميركا أمر لا يختلف عليه وطني أو اسلامي فما ارتكبته وترتكبه اميركا ضد العرب والمسلمين أمر يحتاج الى كتب وكتب لتسجيله، إذاً لا خلاف على أن التصدي لاميركا واجب شرعي وضرورة حتمية لكن اسلوب التعاطي مع الدولة العظمى في العالم كان محل خلاف بيني وبين الظواهري، والسير وراء الرغبة الانتقامية لدى بن لادن من دون حساب لردود الفعل الاميركية والدولية وتأثيرها في مستقبل الحركات الاسلامية تسبب في تقديم الاسلاميين الى الاميركيين وحكومات دول اخرى على طبق من ذهب ليفتكوا بهم على مرأى من الجميع. اعتمد بن لادن والظواهري في عملياتهما ضد الاميركيين قبل ضرب نيويورك وواشنطن، اسلوباً يقوم على توصيل الرسالة الى الاميركيين من دون منحهم سنداً قانونياً يثبت انهما كانا وراء تلك العمليات، بدءاً من نشاط أتباع بن لادن في الصومال عام 1993 وقتالهم الى جانب قوات فارح عيديد ضد القوات الاميركية ومروراً بتفجيرات الرياض والخبر والسفارتين الاميركيتين في نيروبي ودار السلام، ونهاية بتدمير المدمرة "كول" في ميناء عدن، تفادى بن لادن الاعتراف صراحة بأنه كان وراء تلك العمليات واختار دائماً أن يظهر بعد كل حادث بأسابيع أو شهور ليبارك ما جرى ويثني على "الشهداء" الذين ضحوا بأرواحهم من اجل الاسلام. وبعد الاحداث الأخيرة ظهر الجميع على شاشات الفضائيات فهدد بن لادن الاميركيين وتوعد واعترف ضمنياً وترك للظواهري فرصة للظهور وقدم وجهاً جديداً الى المشاهدين فتحدث ابو غيث عن عاصفة الطائرات. وجد الاعلام الغربي ضالته فصار يتحدث عن الاسلحة الكيماوية التي يملكها بن لادن وجيش "القاعدة" الذي أصبح الظواهري أحد قادته، وزاد الحديث عن قدرة "طالبان" على الصمود والتصدي لأي عدوان اميركي والدروب والكهوف التي يستحيل على أحد غير الافغان والعرب المقيمين هناك الوصول إليها والنفاذ منها. وخرجت تظاهرات الغاضبين ضد الحرب الاميركية ممن تعاطفوا مع ابناء الشعب الافغاني وخدعتهم شعارات القوة التي سمعوها من بن لادن والظواهري. لكن كل ذلك تبخر في الهواء وضاع ادراج الرياح وصدم المتعاطفون مع بن لادن ومحبي الحركة الاسلامية وهم يرون رجال "طالبان" يسلمون أسلحتهم الى قوات التحالف الشمالي تارة ثم الى رجال القبائل من البشتون تارة اخرى، وسقطت المدن الافغانية الواحدة وراء الاخرى، وراحت كرة الثلج تكبر يوماً بعد يوم، وخسرت "طالبان" الحكم، وخسر بن لادن والظواهري "طالبان"، وضاعت الدولة التي حمت الاسلاميين سنوات وسنوات، وصارت الصحف الاولى في العالم مثل صفحات السوفيات تزخر بأخبار الاسلاميين الذين قتلوا بالقصف الاميركي أو بقذائف التحالف الشمالي، وهكذا اوصلنا التخطيط غير المدروس الى تلك النتيجة، بل إن آخرين ممن لم يكونوا يوماً أعضاء في "القاعدة" أو على علاقة بزعيمها بن لادن، أو كانوا حتى على خلاف مع الظواهري، وجدوا انفسهم ضحايا حرب لم يختاروا أن يخوضوها. وبدلاً من أن تظل الصورة المرسومة في اذهان الكثيرين بأن اسلاميين عرب يقيمون في افغانستان لأنهم ضحايا انظمتهم وحكوماتهم التي دأبت على مضايقتهم في كل مكان تحولت الصورة ليصبح هؤلاء الذين نزحوا الى افغانستان وشاركوا في الجهاد ضد الاحتلال السوفياتي ضحايا بن لادن والظواهري. فالحديث عن جيش "القاعدة" لم يكن في محله، فلا للقاعدة جيش، ولا كل من وجد في افغانستان على علاقة بذلك التنظيم، كان هناك مئات بل آلاف من خيرة شباب الامة الاسلامية اختاروا الجهاد في سبيل الله ووجدوا في افغانستان ارض الجهاد، فأدوا تلك الفريضة واستقروا هناك وعاشوا وتزوجوا وانجبوا اطفالاً، حاصرتهم لاحقاً القنابل الاميركية من دون ذنب اقترفوه ومن دون أن يكون لهم خيار آخر. ولعل السؤال الذي ظل يدور في اذهان الكثيرين من دون أن نجد اجابة له هو: هل كان الظواهري يقدر رد الفعل الاميركي تجاه الهجمات في نيويورك وواشنطن قبل أن يضع الخطط ويصدر التكليفات بتنفيذها؟ وأقول الظواهري وليس بن لادن، لانني على يقين بأن الاول كان اللاعب الرئيسي في تلك الأحداث، اما الاجابة فإنها بالتأكيد: لا. إن ابسط قواعد المعارك والصراعات تقول إن قياس رد فعل الخصم أمر واجب قبل الاقدام على عمل يستفزه ويؤثر فيه. ربما اعتقد الظواهري أن رد الفعل الاميركي سيشبه ما جرى بعد تفجير السفارتين في نيروبي ودار السلام، أي سيقتصر على قصف بعض المواقع في افغانستان بالصواريخ العابرة، وتلك كانت نظرة قاصرة وحساب غير متقن، وكان عليه أن يتيقن بأن الانتقام الاميركي سيكون بحجم الصدمة التي احدثتها احداث ايلول سبتمبر وأن الاسد الجريح سيحاول أن يعيد كرامته بغض النظر عن صورة الاسد لدى الآخرين. وحين كنت أشاهد الظواهري وخلفه ابن لادن يتحدثان عن أحداث أيلول من دون أن يعلن أي منهما مسؤوليته بصورة دامغة عنها أو ينفي كلاهما صلته قطعياً بها وكأنهما يتلذذان بالحيرة التي تضرب الجميع، تحسرت على الأيام الخوالي حين كانت "جماعة الجهاد" تسارع إلى إعلان مسؤوليتها عن أي عملية ينفذها اعضاؤها بعد ساعات من تنفيذها على رغم أن ذلك التصرف كان يمكن أن يفسر على أنه يسهل مهمة أجهزة الأمن المصرية في حصر دائرة الاشتباه في عناصر "الجهاد" من دون أعضاء التنظيمات الأخرى. وقتها كانت المبادئ لا تجزّأ وكان إعلان المسؤولية جزءاً من العملية نفسها، دارت الأيام ووجدنا من يهتم برفض ابراء ذمته وكأنه يريد أن "يركب" موجة عمل لم ينفذه، وكذلك يأبى أن يقر بما فعله، لأنه يخشى رد الفعل، ويضع التوازنات السياسية والمصالحية كمعيار مقدم على صفة الشجاعة. هناك حقيقة هي أن بن لادن والظواهري ربما حرصا على عدم إحراج حركة "طالبان" التي كانت تؤويهما مع باقي الإسلاميين العرب وتنفي عنهم جميعاً استهداف المصالح الاميركية، لكن الغريب أن التصرف نفسه من جانب الاثنين استمر حتى بعدما بدأت الحرب الاميركية ضد أفغانستان بل حتى بعدما اندحرت "طالبان"، فلا هما نفيا بشكل قاطع صلتهما بالهجمات في نيويورك وواشنطن، ولم يعلنا صراحة ما إذا كانت لهما علاقة بما جرى أم لا؟ وكان أجدر بهما أمام الجميع أن يعلنا موقفاً صريحاً لا لبس فيه، فلن يصيبهما إلا ما كتب الله لهما. والحقيقة أن هذا الاسلوب قوبل باستهجان من جانب غالبية قادة الحركات الإسلامية سواء المقيمين في مصر أو الموجودين في الخارج ممن كانوا على اتصال بي، وهم لم يعترضوا فقط على التصرفات التي أفضت إلى النتائج التي وصلنا إليها، ولكن أيضاً استذكروا مسألة عدم الوضوح. ولم تتوقف ردود الفعل الغاضبة على إصرار الظواهري على ربط الإسلاميين المصريين ببن لادن عند حدود أصحاب التوجهات السلمية، ولكن أيضاً حتى بين الصقور ممن رأوا أن المعركة ضد أميركا تسببت في إطاحة آمال من كانوا يقيمون في دول عدة خارج مصر ويأملون بالعودة إلى الصراع مع الحكومة المصرية. فالعالم كله الآن صار يضع الإسلاميين جميعاً في "بوتقة" واحدة وتحت وطأة الضغوط الاميركية. لم تعد هناك دولة واحدة تقدر على احتمال أن توجه إليها شبهة احتضان من يعادون أميركا بل أن كثيراً من الدول تجاوزت المطلوب منها وإمعاناً في إبداء فروض الولاء والطاعة للبيت الأبيض باشرت إجراءات ضد كل المظاهر الإسلامية. هل كان أحد يتصور أن دولة أوروبية غربية ستقدم على تسليم إسلاميين مقيمين لديها؟ لقد كان الانطباع الراسخ لدى الإسلاميين ان مجرد الوصول إلى دولة أوروبية وتقديم طلب لللجوء السياسي كفيل بإقامة دائمة أما بعد أحداث أيلول 2001 فإن الحال تغيرت، وها هي السويد سلمت أحمد حسين عجيزة ومحمد ابراهيم سليمان الذري، والخوف كل الخوف أن يكون الباقون في الطريق. أما بريطانيا فحدث ولا حرج فالحملات ضد الاخوة هناك صارت كتلك التي كانت تجري في سنوات سابقة في اسيوط وسوهاج والمنيا. ليس سراً أنني ساهمت بجهد بسيط في حصول أكثر من أخ على حق اللجوء السياسي في أوروبا وتسبب نشاطي في ذلك المجال في إثارة غضب الحكومة المصرية، لكنها المبادئ لا تتجزأ، ناضلت وكافحت للحصول على أوراق ثبوتية وشهادات تثبت أن طالبي اللجوء في الخارج مضطهدين في مصر وتشاجرت مع موظفي سفارات أجنبية في مصر لأنهم كانوا يعطلون إجراءات أو يتحاشون إغضاب الحكومة المصرية ونسقت مع منظمات حقوقية دولية وإقليمية ومحلية من أجل تخفيف الضغوط على إخواني في الخارج، وعندما طلب مني الظواهري أثناء وجودي في لندن الهجرة إلى بريطانيا والاقامة فيها بعدما تعهد بأن يبذل أقصى جهد حتى أحصل على حق اللجوء السياسي كان ردي أن إخواني سيخسرون جهودي في العمل في الداخل لمصلحتهم. حتى جماعة "الإخوان المسلمين" لم تسلم من الحملة الاميركية التي اندفعت لتحصد نتائج الحملة على كل ما هو إسلامي، فكانت الإجراءات الاميركية التي اتخذت ضد "بنك التقوى" على رغم عدم وجود أي علاقة بين البنك وبين تنظيم "القاعدة" أو "جماعة الجهاد". وبعدما هاجم الظواهري "الإخوان" في كتابه "الحصاد المر" وجدت الجماعة بعد سنوات نفسها تدفع ثمن عمل لا علاقة لها به فاضطرت إلى السعي إلى ابراء ذمتها من كل إسلامي محسوب على "الراديكاليين" وبدلاًَ من أن نسعى جميعاً إلى تحقيق حلم عبود الزمر القديم في توحيد كل "الجماعات الإسلامية" زادت الفرقة وتباعدت المسافات بين كل جماعة وأخرى وصار اصطياد كل منها على انفراد سهلاً وهيناً. لا أعرف وقت كتابة تلك السطور ما إذا كان الظواهري حياً أو صار بين يدي الله، وأعلم أنه عاش محنة قاسية من جراء الحرب الأميركية ضد أفغانستان، وانعصر قلبي حين تلقيت نبأ استشهاد زوجته السيدة عزة نوير وابنه محمد بالقنابل الاميركية، وتمنيت دائماً أن ينجو الظواهري وإخوانه وأن يرد الله كيد الاميركيين. لكن كل ذلك لا يجعلنا نضع رؤوسنا في الرمال خصوصاً بعدما خرج الظواهري بما كان خاصاً إلى الشيوع وتحدث في كتابه "فرسان تحت راية النبي" عن وقائع لم يكن أحد من العامة على علم بها، وعلق على أحداث من دون أن يذكر كل الحقائق فشوّه سيرة اشخاص وبدت الصورة غير واضحة وصار التصحيح لازماً والتوضيح واجباً علنّا نستفيد من أخطائنا ولعل الله يغفر لنا ذنوبنا. وربما فات الظواهري أن يعاير "الجماعة الاسلامية" بأن السلطات المصرية قتلت اثنين من أبرز عناصرها وهما: فريد سالم كدواني وعلاء عبدالرازق على رغم السياسة السلمية للتنظيم ولم يطلب من قادة الجماعة العمل للثائر لهما، وفاته ايضاً أن يحمّلني جريرة استشهاد الاثنين كدواني وعبدالرازق. والحقيقة أن استشهادهما كان اختباراً صعباً ل "الجماعة الاسلامية"، إذ ترقبت كل الأوساط رد فعل الجماعة. وما اذا كانت ستقدم على تنفيذ عمل انتقامي أم لا. وبالنسبة إليّ فإنني استنكرت وأدنت إقدام السلطات على ذلك العمل وكذلك فعلت "الجماعة الاسلامية"، لكن وجبت الاشارة الى أن التوجه السلمي كان خياراً ل"الجماعة الاسلامية" لم يدفعها إليه أحد، وبالتالي فإن الحوادث والمتغيرات التي قد تطرأ على الساحة لم تكن لتغير ذلك التوجه، وإلا كانت المبادرة السلمية وقرار وقف العمليات العسكرية مجرد تكتيك لجأت اليه الجماعة حتى تستعيد قوتها مرة أخرى، والحكيم هو من يستطيع التحكم في رد فعله ويرسم سياساته وفقاً لمصالحه ومصالح المرتبطين به من دون التنازل عن ثوابت دينية وأخلاقية. وكان من السهل على "الجماعة الاسلامية" عقب استشهاد كدواني وعبدالرازق ان ترفع نبرة التحدي وأن تطلق التهديد والوعيد، وربما كان الظواهري سيرضى بذلك وقتها بغض النظر عن النتائج، فهو عادة لا يهتم بحساب النتائج. وهنا أود الاشارة الى قضية مهمة تتعلق بزعيم "الجماعة الاسلامية" الدكتور عمر عبدالرحمن، الأسير حالياً في السجون الاميركية، فقد عرضنا موقف الظواهري من مسألة إمارة الشيخ عبدالرحمن للتحالف الذي كان قد ابرم بين "الجماعة الاسلامية" وتنظيم "الجهاد"، وتبين ان الظواهري كان واحداً ممن تسببوا في فض "التحالف"، ومع ذلك فإن الظواهري لجأ كثيراً في مراحل لاحقة، خصوصاً بعدما بدأ تحالفه مع بن لادن يلعب ورقة الدكتور عمر عبدالرحمن واستغلها في اثارة المشاعر ضد الاميركيين. والحقيقة أننا دائماً، كأبناء للشيخ وكذلك افراد أسرته، كنا وما زلنا نؤكد انه عالم جليل وأن قضية أسرِه تخص كل محبيه وابنائه وتلاميذه وإخوانه وحرصنا دائماً على ألا تتحول قضية الشيخ وسيلة يحقق بعضهم من ورائها اغراضاً معينة، وتفادينا أيضاً ألا يزايد علينا أحد بادعاء العمل من أجل اطلاق الشيخ من دون الحقيقة. وفوجئنا بأن البيانات التي اصدرها "الجيش الاسلامي لتحرير المقدسات"، والتي تبنى فيها تفجير سفارتي اميركا في نيروبي ودار السلام ضمت اسم الشيخ عمر عبدالرحمن باعتبار أن قضيته كانت أحد الأسباب التي دعت الى تفجير السفارتين. وبعدها بنحو سنتين وجدنا الظواهري وبن لادن يظهران في مؤتمر صحافي عقداه في افغانستان وتحدثا عن الشيخ عمر عبدالرحمن بل انهما زجا بنجل الشيخ، محمد عبدالرحمن المعروف باسم "أسد الله" ليلقي كلمة عن والده، ومن يومها صارت أجهزة الأمن في العالم تعتبر نجلي الشيخ "اسد الله" وشقيقه أحمد المعروف باسم "سيف الله" ضمن العاملين في تنظيم "القاعدة" على رغم ان اسميهما لم يردا أبداً في لائحة المطلوبين لدى أي دولة وحتى في مصر لم تتناول السلطات أبداً أي دور ل"اسد الله" أو ل"سيف الله"، ولم تتهم احدهما أو كليهما في قضية واحدة من بين عشرات القضايا التي نُظرت في محاكم مدنية أو عسكرية واتهم فيها اعضاء "الجماعة الاسلامية". وافضى ذلك التصرف من جانب الظواهري وبن لادن في النهاية الى استشهاد "اسد الله" اثناء القصف الاميركي لمنطقة تورا بورا بعد أيام من سقوط شقيقه "سيف الله" في الأسر ووقوعه في قبضة السلطات الاميركية التي هللت للأمر واستخدمته للايحاء للشعب الاميركي بأن الحملة الاميركية ضد افغانستان أثمرت بالقبض على قيادي بارز في تنظيم "القاعدة" هو "سيف الله". والكل يعلم أنه وشقيقه منذ ان ذهبا الى افغانستان قبل أكثر من عشر سنوات لم يعملا ضمن "القاعدة" أو "جماعة الجهاد" ولكنهما أيضاً، مثل مئات وربما آلاف من الاسلاميين، دفعا ثمن خطأ لم يرتكباه، وبعدما كانت اسرة الشيخ تناضل من أجل اطلاقه وجدت نفسها ونحن معها نناضل للعمل على اعادة سيف الله الى مصر. والواقع أن قضية الشيخ تهم الجميع لكنها في المقام الأول تهم "الجماعة الاسلامية" نفسها، وهي الجماعة التي اختارت الشيخ مفتياً وزعيماً لها ولم تكل أو تمل من العمل على تحريره من الأسر، ولكن بالطرق التي يمكن بالفعل ان تؤدي الى تحريره وليس الى زيادة الضغوط عليه. وبين عشرات العمليات التي نفذتها "الجماعة الاسلامية"، حتى حادثة الأقصر العام 1997، كان يمكن للجماعة أن توجه إحدى عملياتها الى هدف اميركي سواء في مصر أو خارجها، لكن النظرة الثاقبة والرؤية التي تقوم على حسابات دقيقة خلصت إلى أن أي عمل يقوم على استهداف الاميركيين لن يكون في مصلحة الشيخ عبدالرحمن وأن الضرر سيكون أكبر من النفع. واشهد ان "القادة التاريخيين" ل"الجماعة الاسلامية" حينما اطلعوا على ما نشرته صحيفة "الحياة" في شهر شباط فبراير عام 1998 عن تأسيس "الجبهة الاسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين" ولاحظوا وجود اسم الأخ رفاعي أحمد طه باعتباره وقّع على البيان التأسيسي للجبهة مع اسامة بن لادن وايمن الظواهري حملوني رسالة قمت بتوصيلها الى طه تضمنت انتقادات شديدة لتلك الجبهة وللأفكار التي وردت في البيان التأسيسي والأهداف التي سعت الى تحقيقها. وطالب "القادة التاريخيون" منه وقتها اعلامهم بالأسباب التي دفعته الى التوقيع على ذلك البيان والزج باسم "الجماعة" في الدخول ضمن تحالف يسعى الى تحقيق أهداف لم تكن أبداً ضمن برنامج الجماعة أو أولوياتها. ولعل ذلك يفسر إقدام طه في نهاية شهر تموز يوليو من ذلك العام على إصدار بيان أوضح فيه أنه لم يوقع على بيان الجبهة وانه سُئل عبر الهاتف عن مشاركته في التوقيع على بيان لاعلان النصرة للشعب العراقي الذي كان يتعرض لقصف اميركي فوافق. وللأسف فإن الظواهري تحاشى سواء في بياناته أو في كتابه الأخير التعليق على تلك القضية. فهو حرص فقط على أن يتناول كل ما يخالف توجهاته وتفادى أي إشارة الى ما يمكن ان يسبب لهم حرجاً. وعموماً فإنني لم أهدف طوال تاريخي في "الحركة الاسلامية" إلا وجه الله ورفعة الاسلام وإغاثة إخواني من كل الجماعات، حتى أن أجهزة الأمن المصرية نفسها، اضافة بالطبع الى مراسلي الصحف ووسائل الاعلام، احتاروا دائماً في حصري ومحاصرتي، وحين كنت اضطلع بأي دور قانوني لمصلحة عناصر من "الجهاد" فإن تلك الجهات كانت تقدمني على أنني عضو في "الجهاد" ثم تفاجأ بأنني في يوم آخر أدافع عن متهمين في قضايا تخص الجماعات الاسلامية أو أسعى إلى مساعدة أخ لا ينتمي الى تنظيم بعينه كي يحصل على حق اللجوء السياسي في دولة أوروبية.