في إطار المساعي الرامية الى تحليل دواعي الأزمة التي شغلت الرأي العام المصري، وفجرتها صحيفة "النبأ" المستقلة في الصيف الماضي، إزاء نشرها تقريراً ملفقاً وصوراً اباحية لراهب "مشلوح" اي معزول، من دون الاشارة لشلحه، والتي تطورت الى مظاهر التعبير الشعبي السلمي السياسي... شهدت صحيفة "الحياة" مداخلات عدة، اثيرت خلالها الكثير من النقاط التي تتطلب النقاش، والحال، فإن مقال ضياء رشوان "صيف الغضب القبطي في مصر: الدوافع والملامح - "الحياة" عدد 14004، 14005" فيه ما ينطوي على تجاهل للحقائق وما يستوجب الايضاح. في تحليله يشخص الكاتب "المسألة القبطية" من زوايا عدة ويقرأها من مستويات عدة، لكنه لم يرد الامور الى اصلها، وهذا من اهم عيوب تشخيص الداء وأهم اسباب استمرار العلة. فلم يتطرق الى صميم القضية ويتحدث عن مسؤولية ادارات الدولة في تنامي "المسألة الطائفية"، وكذا عن اخفاق القوى السياسية في الحفاظ على السلم الاجتماعي. وهو ما فعله المحللون السياسيون المنصفون. فتعتيم المسؤولية وإلقاء اللوم على عوامل متوارثة سياسياً واجتماعياً وثقافياً، لن يفيد القضية في شيء، ومن ثم يفقد التحليل صدقيته. صحيح ان المسألة الطائفية في مصر تلتبس بعوامل سياسات تاريخية واجتماعية وثقافية، ومعالجتها تتطلب مقاربة الجوانب المختلفة لها، الا ان المسؤولية تقع على عاتق الدولة في وضع الآليات الكفيلة للائتلاف ومعالجة اسباب التوتر بين افراد الوطن الواحد وجماعاته، اياً كان مصدرها. كما يظل صحيحاً ان الوعي بالمسألة، اية مسألة، سابق للحل او المعالجة. هذا الوعي محكوم بالحال السياسية السائدة في المشهد العام والتي تبلور وتفرز، ايجاباً او سلباً، وعياً صحيحاً او وعياً زائفاً مشوهاً تبعاً لتوجهات الحال السياسية وتأثير قواها الابرز. واذا قرأنا نقدياً الخط البياني للوعي السائد في مصر خلال العقود الثلاثة الاخيرة، نجده بتجرد موضوعي خط تراجع وتدهور. يحاول الكاتب، الذي يدير تحرير سلسلة "تقرير الحالة الدينية"، تسطيح الامور والتهوين، زاعماً ان هناك من المسائل المصرية ما هو ابرز وأهم من "المسألة القبطية"، وما تستلزم خوض نضال مشترك للمطالبة لحله... فيما يبدو واضحاً انه يروّج لحجر طرف بزعم من المزاعم المستهلكة التي تجاوزها الزمن الجديد، وهي المزاعم التي لم تفرز سوى الفرقة والشقاق في البلدان التي تورطت في نفق الالغاء والاقصاء. وهل ثمة مسألة اهم وأعظم من وحدة الوطن وسلامه الاجتماعي؟! يتجاوز مقال الكاتب التحليل السياسي ويتجه نحو الاتهام والتحريض مصوراً المطالبة بترسيخ قيم المفهوم الحضاري للمواطنة على انها خروج عن الوطنية... زاعماً ان هناك صوغاً محدداً لأحد عناصر "المسألة القبطية" تسرب الى وعي النخبة المصرية والاقباط، وكان لتفاعله اثر كبير ومباشر في انفجار الغضب القبطي الآن بالتحديد... صوغ مؤداه "ضرورة خوض الاقباط المصريين وحدهم، ومن دون حلفاء محليين، نضالاً متواصلاً وراء مطالب "قبطية" خاصة، معتمدين في تحقيقه على نضالهم هذا وعلى دعم المجتمع الغربي خصوصاً الاميركي ومؤسسات حقوق الانسان الغربية لهم". إن هذا الزعم ممجوج، تدحضه الوقائع والمعطيات، فضلاً عن كونه تحليلاً مبتوراً، فيه قلب للمفاهيم وخلط مستفز للحقائق. ولعل من اخطر ما يواجه "مسألة وحدة الوطن" هو استرخاء القوى الليبرالية. وان شئنا ان نمارس مقداراً من الصراحة لتعرية الواقع المؤلم، فلا مفر من ان نسجل ان ثمة جروحاً في الذاكرة الوطنية، يصعب تجاهلها، تمر مرور الكرام على القوى الليبرالية، فلا تعيرها اهتماماً، حتى تضخمت اوراماً في الجزء الصحيح من الجسد العليل، وتسببت في انفجار الغضب القبطي اخيراً. فتجاهل الحكم المستمر وعدم تلامس القوى السياسية مع "المسألة القبطية"، والبطش بجماعات حقوق الانسان المحلية، وغياب القوى الوطنية، يترك الساحة لمؤسسات حقوق الانسان والاقليات الدولية، ويظهر مطالب الاقباط، في هذه الحال، كأنها مطالب فئوية طائفية. على رغم انها هم مصري يستوجب التصدي له بكل تجرد ممن تعنيهم هموم الوطن والدفاع عن وحدته. وقد بح الصوت في المطالبة بتفعيل الجهد الوطني وتدارك الخلل وعلاجه. والخطاب القبطي "المهجري" واضح في ادبياته المعلنة، ويناشد المجتمع المصري، قبل الدولي، ومؤسساته التدخل لحل ما يسميه "المسألة القبطية". وعندما لجأ بعض الاقباط "في المهجر" الى الكتابة في احدى الصحف العربية التي تصدر في لندن، وشرح قضيتهم وابداء آرائهم في شؤون تمس المواطنة والوطن مصر، التي يعتبرونها وطنهم الاول حتى بعد الهجرة يوجد حظر في الصحف القومية والحزبية المصرية - عدا "الاهالي" - حيال "المسألة القبطية"، خرج علينا منذ بضعة اشهر استاذ للتاريخ وأحد جهابذة "مدرسة التزييف" بسلسلة مقالات في احدى الصحف القومية، الواسعة الانتشار في مصر، متهماً كلاً من "أقباط المهجر" والصحيفة العربية ورئىس تحريرها بالعمالة والخيانة. ثم اتضح في ما بعد ان الجهبذ بصدد إعادة كتابة تاريخ انور السادات، في كتاب سيقرر في مناهج التعليم عنوانه "ولهذا اغتيل السادات"، يزعم فيه ان اهم اسباب اغتيال السادات هو حمايته للأقباط!؟ ثمة حقيقة اخرى تعمّد الكاتب ضياء رشوان الاغفال عنها حين تعرض لموضوع الاهتمام الغربي، خصوصاً الاميركي ب"المسألة القبطية"، ودور "أقباط المهجر" في تدويلها... تتضح جلياً من تأمل احداث العنف الطائفي التي بدأ مسلسلها المخزي في مطلع سبعينات القرن الماضي، منذ تغيير دستور مصر التليد وتأكيده على دينية الدولة، والتي بلغت ذروة نزيفها في احداث الثانية في مطلع الألفية الجديدة. فقد بات واضحاً ان ثمة تياراً في مصر يعيش "هاجس التهمة". وفي الحال "الكشحية" على وجه التحديد، سعت آفاق بعينها الى تسويق مقولات تتهم الاقباط بالتبعية والاستعداء بجهات اجنبية، وعملت على ادلجتها ووضعها في إطار بعينه، من شأنه قذف الكرة في الملعب الاميركي... وفي اعقاب احداث "الكشح" الاولى عام 1998 اتهم كل من محافظ ومدير أمن سوهاج القيادة الدينية القبطية المحلية في وسائل الاعلام القومية، من دون ادنى دليل، باستعداء اميركا و"التهديد بالرئىس كلينتون" مجلة "المصور" 21/10/1998. وبحسبما أكدت التحقيقات التي اجرتها النيابة العامة في اعقاب احداث "الكشح" الثانية، التي راح ضحيتها 21 مواطناً قبطياً... ان شائعة "الرئيس كلينتون وحماية اميركا للأقباط" رائجة بين مسلمي الكشح والقرى المجاورة لها، وكانت وراء مشاعر التوجس والتحفز تجاه الاقباط. كما جاء في التحقيق الذي اجرته مجلة "روز اليوسف" في اعقاب تلك الاحداث. ان مسلمي القرى المجاورة للكشح تجمهروا وراء مروّجي الاشاعات ونددوا بأسقف البلينا، وهتفوا بسقوط اميركا ورئيسها كلينتون، قبل ان ينطلقوا لأعمال القتل والحرق وجمع الاسلاب. وفي الاحكام الهزيلة والمثيرة للجدل، التي صدرت عن محكمة جنايات محافظة سوهاج في الخامس من شباط فبراير الماضي بتبرئة ساحة جميع المتهمين، وعددهم 96 شخصاً، وإطلاق سراحهم، في قضية احداث "الكشح" الثانية قامت النيابة العامة بعد ردود افعال، داخلية ودولية، بالطعن وينظر حالياً في تلك الاحكام امام محكمة النقض باعتبارها قاصرة وفاسدة ومخالفة للقانون صاح في خطبة سياسية عصماء قبل النطق بالحكم: "على الذين استجاروا بأميركا وكلينتون ايام الاحداث ان يستجيروا بمصر لأنها هي الام التي لا تفرق بين ابنائها. حما الله ارض الكنانة وعاش المسلمون والمسيحيون في رباط الى الابد...!! يصوّر الكاتب مسألة حقوق الانسان على انها فكر مستورد لا يتناسب والمجتمع المصري ذا الاعراف والتقاليد، وفصل بين معالجة الازمة المصرية. "المسألة القبطية" كاحدى اوجهها... ومسألة الديموقراطية وحقوق الانسان وكأنهما يتعارضان. وذهب في تحليله الى ان مؤسسات حقوق الانسان الغربية، ونظيراتها المصرية، ما هي الا ابواق النظام العالمي الجديد وسياساته حيال "قضايا الاقليات" وحقوقها، التي تتعمد البحث والنفخ وإثارة الاضطرابات والنعرات "الاقلياتية" في بلدان العالم. بيد ان الحقيقة، التي اراد الكاتب وأدها تحت موجة حماسته للدولة السيادية، ان مؤسسات حقوق الانسان الغربية، كجزء من منظمات المجتمع المدني، تعمل باستقلالية. وشاهدنا اخيراً في المؤتمر الدولي لمناهضة العنصرية، الذي نظمته الاممالمتحدة في ديربان، منظمات المجتمع المدني الدولي، التي عبرت عن رأيها بشجاعة. وفات الكاتب ان هناك قبولاً واهتماماً متزايداً لدى المواطن في الدول العربية بمسألة "الديموقراطية وحقوق الانسان". * كاتب مصري مقيم في ألمانيا.