أعلنت وزارة التربية اليابانية في 26/12/2001 ان عدد طلاب المدارس الإعدادية والثانوية الذين تم القبض عليهم خلال العام الدراسي 2000 - 2001 لقيامهم بأعمال عنف بلغ 6252 طالباً، مما عنى ارتفاعاً مرعباً بلغ نسبة عشرين في المئة عن أرقام العام الدراسي السابق. وقد واجهت اليابان في السنوات الأخيرة ارتفاعاً متسارعاً في نسبة الإجرام عموماً والجرائم المرتكبة من قبل القاصرين وطلاب المدارس بشكل خاص. وإضافة إلى الأزمة الإقتصادية، يبدو أن ذلك مرتبط بالبنية التربوية التي يقدمها المجتمع الياباني لناشئيه. فهم يحصلون على كل ما يريدونه، إلا أن لائحة الأشياء التي يمكن أن يطلبوها محصورة بالماديات وخالية من المقومات الضرورية للنمو العاطفي والتوازن النفسي. والأسوأ هو أن نظرة واقعية إلى المؤسسات ذات العلاقة: المدرسة والمنزل ووسائل الإعلام، لا تنبئ بحصول تحسن في المدى القريب. ولا تقتصر إشارات الخطر على ارتفاع عدد الجرائم، بل تأتي أيضاً من ظهور أنواع غير معهودة منها. كان اليابانيون قد اعتادوا على الاعتقاد بأنهم يعيشون في جنة من الأمان وأن الجرائم الدموية العبثية لا وجود لها في عالمهم إلا على شاشات التلفزة وفي الأفلام الهوليوودية، فإذا بالسنوات الأخيرة تحمل على أيدي بعض أبنائهم صفعات مؤلمة أيقظتهم من ذلك السبات وأثبتت أن على المجتمع الياباني معالجة الأمور بشكل سريع وحاسم. وتتالت المشاهد في وسائل الإعلام: تلميذ في الثالثة عشر يقتل أستاذه طعناً لأنه وبّخه لتأخره في الحضور إلى الصف. صبي في الرابعة عشر يقطع رأس زميله ذو الأحد عشر ربيعاً. مراهق آخر يقتل أمه ضرباً بقضيب حديد. وآخر يذبح جارته العجوز لمجرد رغبته في معرفة الإحساس الناتج عن قتل إنسان. وجرائم أخرى ضحيتها الأطفال ومرتكبيها في مقتبل العمر، كعامل النظافة الشاب الذي ذبح ثمانية تلاميذ بسكينه في المدرسة التي يعمل بها في أوساكا في الثامن من حزيران يونيو الماضي، محدثاً مأساة هزت اليابان وتداولتها وسائل الإعلام العالمية كخبر اعتمد في مضمونه على عنصري هول الجريمة ومفاجأة حدوثها في هذا البلد. ولكن من لديه الحد الأدنى من الإطلاع على "الفيزياء الإجتماعية" لليابان لا يشعر بالاستغراب ولو شعر بالأسف، فهذا المجتمع مضغوط نفسياً وعلى كل الأصعدة إلى درجة تجعل الانفجارات السلوكية أمراً متوقع الحدوث. ونبدأ من القطاع التربوي الذي يتحمل القسم الأكبر من مسؤولية هذا التدهور، وهذا رأي يظهر في تصريحات الجميع من علماء النفس والإجتماع إلى بعض المجرمين أنفسهم. وقد بدأت وزارة التربية تعي أن النظام الحالي في المدارس والجامعات اليابانية والمعتمد على المنافسة الشرسة والانضباط المتلازم مع تراتبية صارمة قد عفى عليه الزمن. هذا الوعي وإن كان متأخراً وبطيئاً إلا أنه حدا بالوزارة إلى إطلاق مشروع طموح على الأقل على مستوى الشعار للسير نحو "تربية أكثر إنسانية". ويتمنى المرء لو أدركت الوزارة اليابانية ذات السلطة الواسعة في البلاد هذا الأمر مبكراً. أو، إن أصرت على نظام مدارسها الإسبارطي، أن تتحلى تلك المدارس على الأقل بالمزايا الإيجابية القليلة التي يتصف بها ذلك النظام، ومنها ممارسة الصرامة ذاتها التي تستخدم في تطبيق القوانين المدرسية لحماية المضطهدين من التلاميذ. ففي المدارس الرسمية يحرص الأساتذة على قص تنانير الفتيات وشعور الصبية إن خالفت الطول المحدد، أما إذا جاءهم تلميذ يشكو التعرض للتنكيل على أيدي تلامذة آخرين فليس هنالك عادة من يكبح جماح المعتدين. وهذا سبب كلاسيكي لتولد سلوك إجرامي. تقول الرسالة التي تركها التلميذ الذي قطع رأس زميله بجانب جسد الضحية: "فقط عندما أقتل أستطيع التحرر من الكراهية التي أعاني منها"، ويضيف: "المسألة في ما يتعلق بالنظام التربوي الياباني هو أنه صارم جداً ... وكل من لا يتأقلم معه يتعرض للاضطهاد". أما في المنزل فإن غياب الحوار هو السمة في حياة الكثير من العائلات التي ينشغل كلٌّ من أفرادها بعالمه. ومع ازدياد عدد الأمهات العاملات تشير الإحصاءات إلى أن واحداً من كل أربعة أطفال يابانيين يتناول طعام الفطور وحيداً. ويدور على ألسن اليابانيين وصف كاريكاتوري مبالغ فيه لاجتماع العائلة اليابانية النمطية الى طاولة العشاء في الأيام التي يتحقق فيها ذلك، حيث يقوم الأب بقراءة الجريدة المسائية والأم بتصفح مجلة نسائية، بينما يطالع الأولاد كتب مغامرات مصورة ولا ينبس أحدٌ ببنت شفة. ويلفت بعض علماء النفس النظر إلى أن الوفرة الإستهلاكية التي تسمح للمراهقين بالتمتع بالألعاب الإلكترونية وغيرها من البضائع المرتفعة الثمن قد تزيد الأمر سوءاً في بعض الحالات. فالشعور بالدلال المادي الغامر من دون الحصول على اهتمام نفسي موازٍ يخلّ بتوازن المراهق ويجعله أقلّ مقدرة على التكيف مع المشاكل والضغوط وأسرع نفاذاً للصبر. وتبدو المسافة بين الأهالي وأولادهم في اتساع يعبّر عنه مصطلح "العرق الجديد" الساخر الذي تستخدمه الصحف لوصف الجيل الشاب لاختلاف مشاكله كثيراً عما اعتيد عليه في هذا البلد منذ خمسين عاماً. ومن الصعب معرفة إذا كانت وسائل الإعلام هي التي أطلقت هذا اللقب الذي تلقفته ألسنة الأهالي أم العكس. وأياً كانت الحال فالواضح هو الوادي الذي يفصل عالم المراهقين عن عالم البالغين. والأفلام والمسلسلات التلفزيونية بدورها ليست براء من دماء ضحايا بعض تلك الجرائم ال"نوعية". فلم يخف عدد من الصبية أصحاب المشاكل أنهم قرروا البدء بحمل السكاكين الرشيقة من نوع "مطواة الفراشة" بعد ان راقت لهم مشاهدة كيمورا تاكويا النجم المراهق في أحد مسلسلات الدراما التلفزيونية يحمل سكيناً مماثلاً في المدرسة. وبخلاف نجوم التلفاز والموسيقى يفتقد الجيل الطالع لوجود قدوة اجتماعية ذات آثار تربوية، فالأهل في انشغال وبرامج الحكومة في عالم آخر بعيداً من التأثير في النفوس اليافعة. ومثالاً قامت الحكومة اليابانية بحملة منذ عام 1996 لخفض عدد المدخنين بين المراهقين. وفي دراسة نشرت نتائجها الأسبوع الماضي، قامت الحكومة بتقويم نتائج خمس سنوات من تلك الحملة التي شملت إصدار قوانين جديدة تحد من انتشار وأوقات عمل آلات بيع علب السجائر، اضافة إلى تشديد العقوبات القانونية بحق المدخنين من القاصرين. وبينت الدراسة أن الحملة لم تأت بأي نتائج حيث لا تزال نسبة الذين يدخنون يومياً بين الذكور من طلاب السنة الأخيرة في المدارس الثانوية 26 في المئة، أي تماماً كما كان الحال قبل بدء الحملة. مشكلة كبيرة أخرى هي من الناحية العملية البحتة وتتلخص في عدم اعتياد المجتمع الياباني بما في ذلك جهاز الشرطة على الوضع الحالي المقلق، وبالتالي غياب الجاهزية الكافية للتعامل معه. وفي حين صعدت معدلات الجريمة اليافعة إلى أرقام قياسية، انخفضت نسبة نجاح المحققين اليابانيين في اكتشاف مرتكبي الجرائم إلى معدلات غير مسبوقة أيضاً. وليست جاهزية المؤسسات التربوية أو التي تحركت منها لمعالجة الأوضاع بالأفضل. ففي تشرين الثاني نوفمبر 2001 اقتحم رجل يرتدي قبعة ونظارات سوداء وبيده قضيب معدن ضخم واحدة من شعب الصف الخامس الإبتدائي في مدرسة "كوني" قرب مدينة كيوتو. وبعد أن ارتمى الأطفال مذعورين في كل اتجاه اتضح أن المهاجم هو أحد معلمي المدرسة وقد تنكّر تنفيذاً لفكرة عبقرية عنّت على بال مدير المدرسة الذي أراد بها تدريب الأطفال على احتمال حصول حدث واقعي مشابه. الأطفال لم يعودوا بحاجة إلى أمثلة واقعية فقد أصيب عدد منهم بأزمات نفسية - عصبية تراوحت أعراضها بين الإغماء والهلع المزمن. وتقدم المدير بالاعتذار إلى الأهالي المشتكين. وأمام فقدان المجتمع لبراءته وقدوم هذه الموجة من الخروج على القانون في سن مبكرة لجأت الحكومة إلى تخفيض السن المحدد لخروج المحاكمات من دوائر محاكم الأحداث إلى القضاء العادي. ولكن تبقى هكذا خطوات مبنية على مواجهة النتائج وليس الأسباب، فالغالب أن المراهق المعتل نفسياً إلى درجة خطيرة لن يرتدع بناء على معرفته بنوع المحكمة التي ستحاسبه على أفعاله.