قال همنغواي: "عندما يسألونني عن سبب اختياري لكوبا كمكان للعمل والاقامة لا احاول ان اشرح ذلك فهذا امر معقد جداً. ربما هي الصباحات الصافية الباردة التي تساعدك على العمل ... ثم هناك مجموعات الطيور النادرة حقاً المقيمة والمهاجرة. ولدينا تغيير في الفصول هنا ايضاً. ان التغيير هنا دقيق، ليس فجائياً كما هو في نيو-إنغلاند وقد رحل آباؤنا عنها لقلة المحاصيل ورداءة التربة". ويقول غابرييل غارثيا ماركيز في كتابه "كوبا زمن الحصار": "كان همنغواي قد امضى عشرين سنة من العيش في كوبا، وكانت هناك اسباب اعمق من ذلك لإقامته فيها تتجاوز متعة مراقبة الطيور وصيد السمك. لم تكن مسألة حب من النظرة الأولى وإنما عملية بطيئة وشاقة تظهر حميميتها مبعثرة ومرموز إليها في مجمل اعماله الناضجة تقريباً. فبينما كان همنغواي يشيد حرفاً فحرفاً عالمه الخاص الذي كان يستند اليه مجده، كان مشروع الخضوع الوطني الذي بدأه الديكتاتور خيراردو ماتشادو يصل الى أوجه، ويتخذ نهاية غير سعيدة على يد من خلفوه. فالفساد السياسي والأخلاقي والخضوع للولايات المتحدة الاميركية كان يظهر للعين المجردة في كل مكان. الجسر البحري اليومي من فلوريدا كان يحمل الى هافانا عربة قطار تُربط بعد ذلك بالقطار المحلي لتموين الجزيرة بالمواد الاساسية من انتاج الولاياتالمتحدة الاميركية، بما في ذلك السمك الطازج الذي يتم اصطياده في مياه كوبا نفسها. كما كانت كوبا تستورد 30 ألفاً من المواد الصالحة وغير الصالحة للحياة اليومية من الولاياتالمتحدة. وعلى رغم حال التبعية هذه واصل سكان المدن الإنفاق بتبذير وإسراف واستمر ذلك حتى بعد قيام ثورة كاسترو أواخر الخمسينات وما تبعها من حصار اميركي اضحى على مر السنين واقعاً همجياً. وفي البداية تواصل "طقس" الاستهلاك ببهجة طفولية حتى من جانب الكثر من الكوبيين الذين كانوا مستعدين للموت من اجل الثورة. ووصل الأمر الى ما هو ابعد من ذلك، فالاجراءات التي اتخذتها الثورة زادت على الفور من المقدرة الشرائية للطبقات الفقيرة التي لم يكن لديها يومئذ اي تصورات للسعادة سوى متعة الاستهلاك البسيطة". الخلل الوحيد القائم في تلك الأيام هو ان السلع التي كانت تنفد من الأسواق لم تكن تتجدد فوراً، وبدا ان بعضها لن يتجدد لسنوات طويلة. فالمتاجر التي كانت مترعة بالبضائع المذهلة قبل شهر واحد اخذت تتحول وبطريقة لا يمكن تفاديها الى مجرد هياكل عظمية خالية... وقد كانت كوبا في سنوات البداية مملكة الارتجال والفوضى. كان لا بد من مرور الوقت لتستوعب هذه الدولة المرحلة الانتقالية ولتتكيف مع سنوات الحصار القاسية. إلا ان الأمر اجتاز مرحلة التكيف والاعتياد، فأمام خطر المجاعة في بلد لم تقم فيه من قبل سوى بعض الصناعات الخفيفة، وبمواجهة التوتر الاجتماعي والخوف من التراجع والتقهقر والعودة الى التبعية الاميركية كان على الشعب الكوبي وقادة الثورة ابتكار الطرق المختلفة لرد الجوع والسير قدماً في بلد وجد نفسه امام مرحلة بناء تنطلق من الصفر. كانت المحاولات تثبت شيئاً فشيئاً المقدرة على النهوض، فالحلول المقدمة كانت تلقى التأييد والدعم من جانب المواطنين بعناد يثير الدهشة، وكانت الكتلة الاشتراكية السابقة تقدم الدعم ايضاً مما ساعد هذه الجزيرة الصغيرة على مقاومة الحصار. غير ان هذه المساعدات توقفت مع بداية التسعينات، اي مع انهيار المنظومة الاشتراكية. ومن جديد عادت الافكار الثورية لتجد ارضها الخصبة في كوبا، وهكذا لم يكن غريباً ان تتجاوز كوبا ازمة التسعينات بطريقة مبتكرة. فالثورة الزراعية الاخيرة في هذا البلد الصغير اصبحت تشكل "ثورة ما بعد الثورة" ومثالاً يحتذى في اكثر الدول الأوروبية تطوراً، لأن كوبا اصبحت رائدة على مستوى الزراعة العضوية في العالم. بدأ الأمر عام 1991 على اثر توقف الدعم الروسي الذي كان يطال تفاصيل الحياة اليومية للمواطن الكوبي، وتجلى هذا بوضوح في الخسارة الكبيرة التي لحقت بالتجارة الخارجية الكوبية، ناهيك عن حال شبه الإفلاس التي لحقت بجيش الثورة نفسه، وقد وجد نفسه من دون الإعانات المالية الحكومية. وكان المخرج الوحيد لهذه الأزمة متابعة سياسة الاكتفاء الذاتي خياراً صعباً على رغم الأشواط البعيدة التي قطعتها الحكومة الكوبية في هذا المجال. ولم يتردد راؤول كاسترو، نائب الرئيس وشقيقه وقائد الجيش الثوري في كوبا، في نقل التجربة التي رآها في الصين: منتجات "الزراعة العضوية" ... فعاد الى البلاد ليبدأ الجنود الكوبيون حربهم مع التربة التي سمّدت بموافقة اطباء واختصاصيين اكدوا للمواطن الكوبي سلامة هذه المنتجات وصحتها. وبدوره اقبل المواطن الكوبي، الذي لم تهتز ثقته بحكومة الثورة يوماً، على هذه السلع بخطوات واثقة وشهية طيبة. وفي حديثه الموجه الى الشعب، اكد فيدل كاسترو ان البلاد تعيش في "مرحلة مميزة" مردداً المصطلح الذي اطلقه على فترة الحصار الاميركي ولم يبقَ امام المواطن الكوبي سوى التوجه نحو استهلاك الخضر الطازجة ليضيفها الى وجبته اليومية في بلد كان عماد غذائه اللحم والنشويات بحكم تخصيص كل الاراضي الصالحة والمستصلحة لزراعة قصب السكر، عماد الاقتصاد الكوبي. اما كيف عثر على مساحات زراعية مخصصة لقصب السكر؟ حدث ذلك من طريق استغلال الأراضي الصغيرة كحدائق في البيوت او القطع المتناثرة غير الصالحة للزراعة. وبذلك أوجد الكوبيون حلاً مناسباً لوضعهم، حل جذري ومذهل جعل كوبا تمضي من دون الاعتماد على المساعدات الخارجية لتزويد اسواقها بالخضر، وأصبحت هافانا رائدة في هذا المجال، وأصبح المستهلك الكوبي قادراً على شراء الخضر الطازجة وبكلفة اقل لأن تكاليف النقل حذفت من الفاتورة. ففي الأسواق البريطانية على سبيل المثال، تعد منتجات الزراعة العضوية ضرباً من الرفاهية، وهي تستدعي من المواطن البريطاني دفع الكثير لتذوقها ولتصبح جزءاً من غذائه اليومي. اما في كوبا فكان القائمون على هذه الزراعة في بداية الأمر من المتقاعدين الذين اظهروا حماسة لافتة لم يكن اندفاع الحكومة وتشجيعها لهم بأقل منها، اذ خصصت لهم رواتب شهرية ونسبة من الارباح وصلت الى 50 في المئة. وشجعت هذه الخطوة المؤسسات التجارية الخاصة في كوبا لتسهم في هذا المجال، اذ تنامت مشاريعها مستثمرة كل قطعة ارض متوافرة مما خلق نوعاً من التكامل اصبحت الزراعة العضوية بموجبه جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الكوبي زمن الحصار.