سنوات عشر مضت على رحيل يوسف إدريس عن عالمنا. واختفت فيها أعماله من الأرصفة والأسواق، وتربعت بهدوء على رفوف المكتبات وفي أدراج الباحثين. سقط اسمه العاصف من ذاكرة المدينة، لكنه لم يخلد إلى النسيان. ظل فاعلاً يشغل موقعاً نشطاً في ضمائر القراء والمبدعين. لم يعد يحتل أعمدة الصحف بمقالاته المدوية وأخباره المثيرة كما ظل طيلة عقود. حتى قيل إنه كان يكتئب إذا أصبح ذات يوم ولم يجد اسمه مثاراً للأخبار والتعليقات. كان قد أدمن الشهرة - مع ما تعود عليه من مثيرات أخرى - وأصبح لا يطيق فراغ الظل. هل تسمح لنا هذه السنوات العشر أن نتأمل شخصيته الإشكالية في نسيجها المركب، ومنجزها الإبداعي الخصب، ودورها الثقافي البارز، من دون حساسية أو خرج؟ ألم يئن لنا أن نتجاسر على شيء من الصدق والمكاشفة في قراءة السير الحية والمكتوبة. وأن نحترم شجاعة الكبار في التعبير عن ذواتهم وصناعة عوالمهم، وأن لا نبخسهم حقهم في جراح الأعراف وتطويع مفاهيم الأخلاق وتعرية جذور الحياة، ونكف عن الحديث عنهم كأنهم قد أصبحوا قديسين؟ يوسف إدريس - على وجه الخصوص - صنع أسطورته بالجسارة والهتك وقوة الروح، صنع اسمه بالسباحة ضد التيار السياسي والثقافي، وسنقترب من عالمه أكثر كلما اعتمدنا على شجاعة الكشف والتعرية. بوسعنا أن نختزل الخيوط المكثفة في شخصيته الأدبية في عدة ملامح مركزة، أبرزها يتمثل في طبيعته المهجّنة، فقد ولد في القرية، يشرب الضوء والماء وأجساد البشر من دون حرج، يؤمن بالله ويلعن تصاريف القدر، تيقظت مشاعره لمشاهد الحياة الريفية بنهم متوحش، وانتبه إلى مفارقاتها بشغف حاد، ثم انتقل إلى المدينة وقد اختزن في وعيه مكر الريف وحكمته وصور الحياة فيه، تقلب على جمر الشهوات كلها وابتلع اشكال الوجود الحضري وعلاقاته النفعية المباشرة. نفذ من كل ذلك إلى امتلاك مقدرة فذة على تمثيل روح المكان في قطبيه، وإدراك تحولات المجتمع فيهما في شكل جدلي مثير. وإذا كانت "أرخص ليالي" تمثل منطلقه الفذ لتصوير دنيا القرية فإن "قاع المدينة" وما أعقبها من مجموعات وروايات أخرى قد تناوبت على المزج بين هذين الايقاعين في رؤى أصيلة أسست وعياً جمالياً بالإنسان في مختلف تجلياته الريفية والحضرية. ومع أن خاصية التهجين هذه كانت مشتركة مع كتاب آخرين من ابناء جيله مثل عبد الرحمن الشرقاوي وغيره، إلا أنها أكسبت كتابته مذاقاً حاراً لاذعاً مستفزاً، لأنها تركبت مع صفات أخرى جارحة لقشرة الزيف والنفاق، فهو لا يتغنى بمثالية مزعومة في أخلاق القرية، ولا يصطنع بطولات وهمية، بل يدفع حياة أبنائها بالخشونة والمداهنة مع البراءة الفطرية، يفضح الأسرار الحميمة لعلاقات الرجال والنساء لدى الطبقات الكادحة المتداخلة، من دون أن يرسم صورة وردية لتضامن الجماعة. يجسد للمرة الأولى مغامرات عمال التراحيل وتقبلهم بين حاجات الجسد وفقر الروح وقسوة الطبيعة ببلاغة سردية مذهلة. كان يوسف إدريس أذكى من صور فورات الصبا لدى شباب القرية وإشراق إنسان المدينة في كدحهما اللاهب في دروب الحياة. أما الخاصية الثانية التي شكّلت كتابته ورؤيته فقد كانت سبباً ونتيجة لتخصصه المهني في الطب، لم يكن الطب في تقديري مجرد دراسة ولا حرفة ثانوية ليوسف إدريس، كان منبعاً لنمو وعيه البيولوجي بالحياة وسبيلاً إلى تحديد علاقته الإجرائية باللغة والجسد، وأداة لممارسة هوايته في تشريح المجتمع بمنهج علمي تجريبي، كان في نهاية الأمر سبباً في تشكيل مشروعه الطموح لشفاء المجتمع من أعراض التخلف وأمراض التعصب. وإذا كان يوسف إدريس يقارن أحياناً بتشيكوف فإن جامع المهنة وحرفة القص أفضت بهما إلى امتلاك هذه الخاصية التبشيرية. كل منهما يمسك بالقلم باعتباره مبضعاً يجتث الداء ويجلب الشفاء. وقد ترتب على ذلك أن علاقة يوسف إدريس باللغة لم تكن عشقاً لشعريتها المألوفة، ولا حفظها لصيغها البليغة، ولا افتتانا بجمالها الأخاذ، كانت جهازه العملي في الكشف عن شعرية نثرية جديدة، وأداته المطواع في القطع مع التراث السابق. ووسيلته الذلول في تواصل جمالي مبتكر. لم يكن يعترف مثلاً بالحاجز المصطنع بين الفصحى والعامية، فهي جسد حي واحد، لا يمكن تجاهل أجهزته العديدة ولا مستوياته المختلفة، خاض معارك مع طه حسين ونقاد عصره لأنه لم يذعن لتقاليد الفصل بين الفصحى والعامية. كما لا يذعن لتقاليد الفصل بين الإناث والذكور، حركة الحياة تفرض هذا الوصل الحميم لتوالد مستويات اللغة النابضة، كان يصنع في كتابته نموذجها الذي يضج بالحيوية والحرارة الخلاقة. ولو كان يوسف إدريس قد درس الآداب منطلقاً من التفكير الشعري المعهود لما استطاع تكدير هذا الاسلوب السردي الشيّق؟ كتب مقالاً ذات مرة عن لحظة نضال طبيب لاستنفاذ جنين من بطن أمه المتراخية، وجعل عنوانه "عش ولا تموت" فعاب عليه أستاذ اللغة في درسنا الجامعي مخالفته لقواعد النحو، دافعت عنه - وكنت لا أزال طالباً - بأنه يصرخ ولا يتكلم، وأن مد حرف الواو لإشباع الصرخة المستغيثة من دون جزم ضرورة تعبيرية، انخفضت درجتي الجامعية في النحو بقدر ما ارتفع مقام يوسف إدريس في وجداني منذ ذلك التاريخ. إلى جانب تحريك اللغة وتهجينها أيضاً مدته مهنة الطب في إدارات الصحة المصرية بوابل من الخبرات بتفاصيل شقاء الناس وشهواتهم، لكنها إضافة إلى ذلك، وهذا هو الجانب السلبي للخبرة، جعلته أشد جرأة في التعامل مع جسده نفسه، كان يرهقه بالجرعات المحسوبة التي يقدرها ويقوم بحقنها من دون خجل من أحد، ولا أحب أن الثمن الذي دفعه من كيانه وأعصابه واحتراقه بنار الكتابة اليومية لم يكن باهظاً. ولست أدري إن كانت الخاصية الثالثة - الموصولة بما سبق - من صنع المرحلة التي عاش فيها أم كانت تنبثق من طبيعة مزاجه الشخصي والثقافي، كان ثورياً من الطراز الأول، اعتقل وهو ما زال طالباً في كلية الطب لاشتراكه في التنظيمات اليسارية ونشاطه في الحركة الطالبية المضادة للاحتلال والقصر الملكي، طار فرحاً بنبأ اندلاع ثورة 1952 حتى أنه ترك غرفة العمليات التي كان يجري فيها أولى تدخلاته المهنية ليتمها زميل له، تورط في العمل السياسي في تنظيمات الثورة مصادقاً بعض رجالها ومعادياً لهم في فترات أخرى، تشبع بروح اليسار ورفع لواء التمرد على السلطة في كثير من الأحيان. لا تعنينا الآن تضاريس علاقته المتذبذبة برموز السلطة. ما يهمنا هو ثورية كتابته، تمرده على الأجناس الأدبية المستقرة، الانقلاب الذي أحدثه في مفهوم السرد القصصي، الحركة المضادة التي قادها لتأصيل المسرح العربي وجعله أكثر شعبية وفورية. كان يوسف إدريس يمتلك خيالاً وثاباً، ينقل إرادة التغيير من الأدب إلى الحياة، وكان تثوير الأشكال الفنية المتعددة من أبرز منجزاته، لكن مفهوم الثورة نفسه سرعان ما تحول في الحياة المصرية والعربية، ابتعد عن النموذج النقي الذي كان يسهم في تشكيل الحلم الجماعي العربي خلال الفترة الناصرية، اكتسب دهاء وانتهازية صارخة، وكان يوسف قريباً من دهاليز الصحافة والحكم، عارفاً بالمناورات والأطماع، قاوم محاولات ترويضه وتدجينه في بداية الأمر، لجأ إلى "الثوار" الآخرين في النظم العربية التي لم تكن أقل دهاء وانتهازية. ربما يكون قد تولّد لديه منذ السبعينات إحساس بالخيبة والانكسار، ظهرت عليه أعراض مرض القلب وعصرته ضرورات الحياة المادية، أخذ يستحل لنفسه حق الإفادة من الغنيمة مثل غيره، بعث برسالة ذاع خبرها بدهاء إلى السلطات الرئاسية يطالب بامتلاك "شاليه" في مصيف "مارينا" الجديد على الشاطئ الشمالي بعد أن كان يدين الانفاق الرسمي عليه، اضطر أن يشكر الوزير المختص عند تلبية رغبته في مقال مناقض لكتاباته السابقة، دفع ثمناً أغلى عندما أسهم في تحسين صورة الرئيس السادات باستقباله وأحد ضيوفه في المصيف المتواضع، ركزت أجهزة الإعلام على "ديموقراطية الرئيس وتعامله العفوي مع ابناء الشعب"، تراجعت ثورية يوسف إدريس الراديكالية وكثرت النميمة ضده، صب جام غضبه على تيارات التعصب الديني فأصبح أكثر اتساقاً مع السلطة. ابتكر طريقة جديدة لتسويق أعماله الإبداعية في بعض الأقطار العربية، بيع حقوق النشر للحكومات لتبرير مطالبه المادية، لا أحسب أنه كان وحده الذي يفعل ذلك، لكن الثورية المتراجعة تتلذذ بكشف عوراتها، لا يمكن أن ندين يوسف إدريس على ذلك، فالعصر الذي ألهب فيه جذوره الثورية هو الذي أطفأ نارها عند معظم أبناء جيله بتحولاته اللاحقة، ولعلنا نفرط في المثالية الساذجة عندما نتمثل العظماء نماذج عالية في الاتساق وأحادية المنظور على طول المدى، بينما نكون أقرب إلى الصدق، ومنطق الحياة ذاتها، إذا راقبنا حركات المد والجزر في رسومهم البيانية. وكانت ميزة يوسف الأساسية أنه يجاهر بمواقفه، ويؤمن بمشروعية ما يفعله، ولا يفقد استراتيجيته في نشدان التقدم، ولا يهن في مقاومة نزعات الديكتاتورية والتصدي لبطش السلطة وهو تحت أنيابها. تفرد الإبداع الثقافي من الوجهة النقدية التي تنفض يدها من التباسات الشخصية الإشكالية، وتحدث في الآثار الإبداعية فحسب من دون اعتبار لسياقاتها، لا يزال يوسف إدريس يمثل ذروة القصة القصيرة العربية، فمن كتبوا قبله مهّدوا له الطريق وعوّدوا القراء على تلقي هذا الجنس الأدبي المثير، ومن جاءوا بعده يهربون عبثاً من ظلمه، ويبذلون قصارى جهدهم للخروج على نماذجه، هكذا استقرت قامة يوسف إدريس العملاق في الأدب العربي، وأخذ النقاد والباحثون يدرسون منجزه الإبداعي ليستخلصوا منه قوانينه الظاهرة والخفية، ليحيطوا بعوالمه المستديرة المكتملة، وأشكاله المتفردة المتعددة. ما زلنا نتأمل كيفية تكويناته الفنية، وأنماط افتتاحاته، وأبنية نهاياته وخواتمه، حتى نعثر لكائناته الدقيقة على ملامح جمالية وتقنيات سردية محددة، وبعيداً من الألقاب الطريفة التي يحلو لبعض النقاد إطلاقها عليه، مثل "أمير القصة" و"تشيكوف العرب" فإن إبداع يوسف إدريس المتكافئ في القصة والرواية والمسرح والمقال الثقافي يضعه في طليعة الكتاب المعاصرين، وكنت أشعر بكثير من الغيظ كلما أقرأ مقالاً له، لأن غيره يستطيع أن يكتب المقالات السائبة، أما هو فيمتلك موهبة أخرى مثل صناعة الطيور والحيوانات والطائرات الورقية، يمتلك طاقة التشكيل الفني المحكم، وقد عبّرت عن ذلك في بعض مقالاتي النقدية في حياته، وأسفت لأنه يعدل عن تكوين عوالمه المصغرة الجميلة بتقنياتها المبتكرة، وألوانها البهيجة، ودلالاتها العميقة، يبث الحياة فيها باقتدار مذهل، وسكت يوسف إدريس ولم يجب على ملاحظتي، لكنني لم أكن أدرك حينئذ أنه لا يقوى على هذا الخلق كل يوم، وأنه ليستريح من الكتابة الفنية إلى المقال الذي لا يكلفه جهداً إبداعياً. وعلى رغم السنوات العشر التي مضت على رحيله، فما زلت أعتقد أن الدراسة النقدية لم تفِ بحقه في تحليل لغته المكثفة الوضيئة، ولا طرائقه الماكرة في السرد والحوار، ولا اقتصاره المحكم في الإشارات الدالة والنهايات المفتوحة الموحية، ما زلت مثلاً أذكر نهاية قصته البديعة "حادثة شرف"، يتجمع النسوة العجائز في القرية ويحملن الفتاة اللعوب - التي فاحت رائحتها - إلى زوجة ناظر المحطة كي تكشف عليها، وتقطع الشك باليقين، ومع أن نتيجة الكشف تأتي لمصلحة الفتاة في الظاهر - فما زالت عذراء - غير أن لفتة جيدها وطريقة حديثها بعد هذا الانتهاك لحميمتها تشي بأنها منذ تلك اللحظة أصبحت بالفعل عاهرة مستباحة. ربما كان يوسف إدريس يجرح الحس الأخلاقي المستقر في الضمير العربي بما يسرف فيه من وصف المشاهد الجنسية في أعماله، إذ يستغرق في استجلاء الأوضاع البيولوجية والانعكاسات النفسية للشخوص، كما فعل مثلاً في قصته المثيرة "العتب على النظر" مما اضطر رئيس تحرير مجلة "إبداع" أن يطلب من أحد اصدقائه التوسط لحذف مشهد مطول يصف فيه الكاتب إحليل الحمار في شكل مبالغ فيه، لكن يظل موقفه الشجاع - إلى درجة التهور أحياناً - من قضية الجنس نموذجاً للتطابق بين الوعي الشخصي والرؤية الفنية المتحررة. ملمح أخير لا يفوتني الإشارة إليه، لأنه بمثابة البؤرة التي تتركز عندها خيوط شخصيته الإبداعية وتلتقي عندها دوائر انتاجه المكتوب، يتمثل في الإصرار على بلورة الدور الثقافي والرسالة الفكرية التي تحدد استراتيجية خطابه. كان يوسف إدريس مسكوناً بشهوة إصلاح العالم، قادراً على تحريك سواكنه وتوجيه طرف من دفته عبر الطاقة الثقافية التي يراها مسؤولة عن مصيره. في إحدى معاركه الشهيرة ضد وزير الثقافة الذي كان مدللاً حينئذ من الرئيس السادات صرخ قائلاً "أهمية أن نتثقف ياهووه". وكسب المعركة قضائياً وأدبياً، لكن آخر معاركه الخاسرة كانت ضد القدر، عندما تصور أن نجيب محفوظ قد اختطف منه "نوبل الحسناء" بشيء غير تفوقه الإبداعي، لقد قال أمامي إنه حصل عليها لمجرد طول عمره الذي جعله يعيش مثل "مرضعة قارون"، وكانت مرارته غير مبررة، لأن إبداعه يضمن لها موقعاً على الذروة، وإن كان قصر عمره قد حال بينه وبين كثير مما يستحق على مظاهر التقدير.