طغت على الساحة الأدبية مسميات تتواكب مع عصر "السرعة " والعزوف عن الحشو المبالغ فيه والتفاصيل المستفيضة والتي تضيع معها فكرة القصة الرئيسة ، ولذلك ابتكرت القصة القصيرة جدًا ، ثم الومضة ، وفيما يلي نتناول القصة القصيرة جدًا ، وبعدها القصة الومضة ، وفقًا لما جاء في موقع ديوان العرب : (أولًا )القصة القصيرة جدًا تعريفها : القصة القصيرة جدا جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ماهو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي. 2- تعدد التسميات والمصطلحات: أطلق الدارسون على هذا الجنس الأدبي الجديد عدة مصطلحات وتسميات لتطويق هذا المنتوج الأدبي تنظيرا وكتابة و الإحاطة بهذا المولود الجديد من كل جوانبه الفنية والدلالية، ومن بين هذه التسميات: القصة القصيرة جدا، ولوحات قصصية، وومضات قصصية، ومقطوعات قصيرة، وبورتريهات، وقصص، وقصص قصيرة، ومقاطع قصصية، ومشاهد قصصية، و فن الأقصوصة، وفقرات قصصية، وملامح قصصية، وخواطر قصصية، وقصص، وإيحاءات،والقصة القصيرة الخاطرة، و القصة القصيرة الشاعرية، والقصة القصيرة اللوحة.... وأحسن مصطلح أفضله لإجرائيته التطبيقية والنظرية، و أتمنى أن يتمسك به المبدعون لهذا الفن الجديد وكذلك النقاد والدارسون، هو مصطلح القصة القصيرة جدا لأنه يعبر عن المقصود بدقة مادام يركز على ملمحين لهذا الفن الأدبي الجديد وهما: قصر الحجم والنزعة القصصية. 3- موقف النقاد والدارسين من القصة القصيرة جدا: يلاحظ المتتبع لمواقف النقاد والدارسين والمبدعين من جنس القصة القصيرة جدا أن هناك ثلاثة مواقف مختلفة وهي نفس المواقف التي أفرزها الشعر التفعيلي والقصيدة المنثورة و يفرضها كل مولود أدبي جديد وحداثي؛ مما يترتب عن ذلك ظهور مواقف محافظة تدافع عن الأصالة وتتخوف من كل ماهو حداثي وتجريبي جديد، ومواقف النقاد الحداثيين الذين يرحبون بكل الكتابات الثورية الجديدة التي تنزع نحو التغيير والتجريب والإبداع والتمرد عن كل ماهو ثابت، ومواقف متحفظة في آرائها وقراراتها التقويمية تشبه مواقف فرقة المرجئة في علم الكلام العربي القديم تترقب نتائج هذا الجنس الأدبي الجديد، وكيف سيستوي في الساحة الثقافية العربية ، وماذا سينتج عن ظهوره من ردود فعل، ولا تطرح رأيها بصراحة إلا بعد أن يتمكن هذا الجنس من فرض وجوده ويتمكن من إثبات نفسه داخل أرضية الأجناس الأدبية وحقل الإبداع والنقد. وهكذا يتبين لنا أن هناك من يرفض فن القصة القصيرة جدا ولا يعترف بمشروعيته لأنه يعارض مقومات الجنس السردي بكل أنواعه وأنماطه، وهناك من يدافع عن هذا الفن الأدبي المستحدث تشجيعا وكتابة وتقريضا ونقدا وتقويما قصد أن يحل هذا المولود مكانه اللائق به بين كل الأجناس الأدبية الموجودة داخل شبكة نظرية الأدب. وهناك من يتريث ولا يريد أن يبدي رأيه بكل جرأة وشجاعة وينتظر الفرصة المناسبة ليعلن رأيه بكل صراحة سلبا أو إيجابا. وشخصيا ، إني أعترف بهذا الفن الأدبي الجديد وأعتبره مكسبا لاغنى عنه، وأنه من إفرازات الحياة المعاصرة المعقدة التي تتسم بالسرعة والطابع التنافسي المادي والمعنوي من أجل تحقيق كينونة الإنسان وإثباتها بكل السبل الكفيلة لذلك. ولقد انصبت دراسات كثيرة على فن القصة القصيرة جدا بالتعريف والدراسة والتقويم والتوجيه، ومن أهمها كتاب أحمد جاسم الحسين"القصة القصيرة جدا/1997م"، وكتاب محمد محيي الدين مينو" فن القصة القصيرة، مقاربات أولى/2000م"، دون أن ننسى الدراسات الأدبية القيمة التي دبجها كثير من الدارسين العرب وخاصة الدكتور حسن المودن في مقاله القيم" شعرية القصة القصيرة جدا" المنشور في عدة مواقع رقمية الكترونية كدروب والفوانيس...ومحمد علي سعيد في دراسته " حول القصة القصيرة جدا" ، وحسين علي محمد في" القصة القصيرة جدا، قراءة في التشكيل والرؤية"،وعدنان كنفاني في" القصة القصيرة جدا، إشكالية في النص أم جدلية حول المصطلح...!"، والدكتور يوسف حطيني في" القصة القصيرة جدا عند زكريا تامر" ، علاوة على مقالات ودراسات أخرى منشورة هنا وهناك و التي تناولت القصة القصيرة جدا بمقاربات تجنيسية وتاريخية وفنية. 3-رواد القصة القصيرة جدا: ومن أهم رواد القصة القصيرة جدا نستحضر من فلسطين الشاعر والقصاص فاروق مواسي، ومن سوريا المبدع زكريا تامر، ومحمد الحاج صالح، وعزت السيد أحمد، وعدنان محمد، ونور الدين الهاشمي، وجمانة طه، وانتصار بعلة ،ومحمد منصور، وإبراهيم خريط، وفوزية جمعة المرعي. ومن المغرب نذكر حسن برطال في مجموعة من أقاصيصه المتميزة بالروعة الفنية وهي منشورة في عدة مواقع رقمية وخاصة موقع دروب ، وسعيد منتسب في مجموعته القصصية ( جزيرة زرقاء 2003م)، وعبد الله المتقي في مجموعته القصصية( الكرسي الأزرق 2005م)، وفاطمة بوزيان في كثير من لياليها وكتاباتها الرقمية المتنوعة. ومن تونس لابد من ذكر الكاتب الروائي والقصاص المقتدر إبراهيم درغوثي. ومن السعودية لابد من ذكر فهد المصبح في مجموعته القصصية(الزجاج وحروف النافذة)... 4- الخصائص الفنية والشكلية: تعرف القصة القصيرة جدا بمجموعة من المعايير الكمية والكيفية والدلالية والمقصدية والتي تحدد خصائصها التجنيسية والنوعية والنمطية: أ*- المعيار الكمي: يتميز فن القصة القصيرة جدا بقصر الحجم وطوله المحدد، ويبتدئ بأصغر وحدة وهي الجملة كما في قصة المغربي حسن برطال"حب تعسفي": " كان ينتظر اعتقالهما معا...لتضع يدها في يده ولو مرة واحدة"، إلى أكبر وحدة قد تكون بمثابة فقرة أو مقطع أو مشهد أو نص كما عند فاروق مواسي وسعيد منتسب وعبد الله المتقي وفاطمة بوزيان. وغالبا لا يتعدى هذا الفن الأدبي الجديد صفحة واحدة كما عند زكريا تامر وإبراهيم درغوثي وحسن برطال في "ماسح الأدمغة" و"كلاب الگرنة". وينتج قصر الحجم عن التكثيف والتركيز والتدقيق في اختيار الكلمات والجمل والمقاطع المناسبة واجتناب الحشو والاستطراد والوصف والمبالغة في الإسهاب والرصد السردي والتطويل في تشبيك الأحداث وتمطيطها تشويقا وتأثيرا ودغدغة للمتلقي. ونلاحظ في القصة القصيرة جدا الجمل القصيرة وظاهرة الإضمار الموحي والحذف الشديد مع الاحتفاظ بالأركان الأساسية للعناصر القصصية التي لايمكن أن تستغني عنها القصة إلا إذا دخلت باب التجريب والتثوير الحداثي والانزياح الفني. ب*-المعيار الكيفي أو الفني: يستند فن القصة القصيرة جدا إلى الخاصية القصصية التي تتجسد في المقومات السردية الأساسية كالأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور السردي والبنية الزمنية وصيغ الأسلوب، ولكن هذه الركائز القصصية توظف بشكل موجز ومكثف بالإيحاء والانزياح والخرق والترميز والتلميح المقصدي المطمعم بالأسلبة والتهجين والسخرية وتنويع الأشكال السردية تجنيسا وتجريبا وتأصيلا. وقد يتخذ هذا الشكل الجديد طابعا مختصرا في شكل أقصوصة موجزة بشكل دقيق في أحداثها كما في مقطع حسن برطال من نص:﴿ حرب البسوس﴾: " السهام تنطلق...تضرب... الحناجر تصيح...﴿ حبي ليك...يابلادي، حب فريد...﴾ السهام تضرب... الأيادي تتشابك...﴿ حبي ليك...يابلادي،حب عنيف...﴾ السهام تضرب... الأجساد تتناطح...﴿ الحب الغالي...ما تحجبو الأسوار...﴾ انتهت المعركة...جثث هنا وهناك...صمت... جسد تحرك...لازالت فيه روح...حمل اللواء ثم قال: - باسمكم جميعا نشكر مجموعة السهام...انه منظم الحفل...". يصور هذا المقطع القصصي القصير حدث الحرب بخاصية السخرية والتلوين الأسلوبي الكاريكاتوري والإيجاز المكثف بحمولات مرجعية انتقادية قوامها التهكم والأسلبة والتهجين والتكرار الساخر، وتوظيف مستويات لغوية مختلفة من أجل خلق باروديا نصية تفضح صيرورة التناقض والخلاف العربي. وعلى الرغم من هذا القصر الموجز، فالنص يحتوي على كل مقومات الحبكة السردية من أحداث وشخصيات وفضاء ومنظور سردي وكتابة أسلوبية متنوعة. ويتخذ فن القصة القصيرة جدا عدة أشكال وأنماط كالخاطرة والأقصوصة واللوحة الشعرية واللغز والحكمة والمشهد الدرامي وطابع الحبكة السردية المقولبة في رؤوس أقلام كما في (ميركافا) لحسن برطال:" كان يتكلم عن وقائع المعركة...صلبة المقاتلين...خيانة الجيش... ثم الهزيمة...". ومن الأمثلة على اللوحة الشعرية قصة ( في حوض الحمام) للكاتبة المتميزة فاطمة بوزيان التي كتبت بطريقة شاعرية تعتمد على التكرار وموسقة الحروف والانزياح البلاغي: كان يشعر أن الماء الساخن يذيب كل شحمه الفائض... يذيب كل تعبه...يذيب شكوكه.. يذيب سوء التفاهم الذي بينه وبين البسكويت! يذوب صار ماء لاطفولة له فجأة تذكر مجرى الحوض هب خائفا فعاد إليه شحمه.. تعبه .. شكوكه وسوء التفاهم الذي بينه وبين البسكويت وتظهر هذه الشاعرية أيضا في( عروض خاصة) لفاطمة بوزيان: في لحظات وحدته القصوى كان يخرج هاتفه المحمولويضغط على أزرار الرقم المجاني حيث الصوت الأنثوي الرخيميذكر بالعروض الخاصةوكان يتذكر الأنثى والأمور الخاصة وقد تتحول القصة القصيرة جدا إلى لوحة تشكيلية ؛كما في( عولمة ) للكاتبة المغربية فاطمة بوزيان: - هم الأستاذ بالكتابة على السبورة تكسر الطبشور ،حاول الكتابة بما تبقى في يده، خربش الطبشور السبورة في صوت مزعج ،اغتاظ . والتفت على يمينه قائلا- اتفو على التخلف في زمن العولمة يسلموننا. كما تتجسد القصة القصيرة جدا في عدة مظاهر أجناسية وأنماط تجنيسية كالقصة الرومانسية والقصة الواقعية والقصة الفانط استيكية والقصة الرمزية والقصة الأسطورية، كما تتخذ أيضا طابعا تجنيسيا في إثبات قواعد الكتابة القصصية الكلاسيكية، وطابعا تجريبيا أثناء استلهام خصائص الكتابة القصصية والروائية المعروفة في القص الغربي الجديد والحداثي، وطابعا تأصيليا يستفيد من تقنيات التراث في الكتابة والأسلبة. هذا، وتتميز الجمل الموظفة في معظم النصوص القصصية القصيرة جدا بالجمل الموجزة والبسيطة في وظائفها السردية والحكائية، حيث تتحول إلى وظائف وحوافز حرة بدون أن تلتصق بالإسهاب الوصفي والمشاهد المستطردة التي تعيق نمو الأحداث وصيرورتها الجدلية الديناميكية. وإذا وجدت جمل مركبة ومتداخلة فإنها تتخذ طابعا كميا محدودا في الأصوات و الكلمات والفواصل المتعاقبة امتدادا وتوازيا وتعاقبا. وتمتاز هذه الجمل بخاصية الحركة وسمة التوتر والإيحاء الناتج عن الإكثار من الجمل الفعلية على حساب الجمل الاسمية الدالة على الثبات والديمومة وبطء الإيقاع الوصفي والحالي والاسمي. ويتميز الإيقاع القصصي كذلك بحدة السرعة والإيجاز والاختصار والارتكان إلى الإضمار والحذف من أجل تنشيط ذاكرة المتلقي واستحضار خياله ومخيلته مادام النص يتحول إلى ومضات تخييلية درامية وقصصية تحتاج إلى تأويل وتفسير واستنتاج واستنباط مرجعي وإيديولوجي. ويتحول هذا النص القصصي الجديد إلى نص مفتوح مضمن بالتناص والحمولات الثقافية والواقعية والمستنسخات الإحالية خاصة عند الكاتب المغربي حسن برطال كما في( الثأر)،و( ماسح الأدمغة)، و( ثلاث زيارات لملاك الموت)،و (ميركافا)،و( الضمير المنفصل...لايستحق أن يكون كلمة)،و( مي شدياق)...، لذلك يحتاج هذا النص التفاعلي إلى قراءات عديدة وتأويلات مختلفة تختلف باختلاف القراء والسياقات الظرفية. ويساهم التدقيق والتركيز في خلق شاعرية النص عبر مجموعة من الروابط التي تضفي على النص الطابع القصصي والتراتبية المنطقية والكرونولوجية، بله عن خاصية الاختزال والتوازي والتشظي البنائي والانكسار التجريبي. ومن حيث البلاغة ، يوظف الكاتب في نصه الأجناسي الجديد المجاز بكل أنواعه الاستعارية والرمزية من أجل بلورة صورة المشابهة وصورة المجاورة وصورة الرؤيا القائمة على الإغراب والإدهاش والومضات الموحية الخارقة بألفاظ إنشائية أو واقعية تتطلب تأويلات دلالية عدة لزئبقيتها وكثافتها التصويرية بالأنسنة والتشخيص والتجسيد الإحيائي والتضاد والانزياح والتخييل . ويمكن الحديث أيضا عن بلاغة البياض والفراغ بسبب الإضمار والاختزال والحذف . وكل هذا يستوجب قارئا ضمنيا متميزا ومتلقيا حقيقيا متمكنا من فن السرد وتقنيات الكتابة القصصية. كما ينبغي أن تكون القراءة عمودية وأفقية متأنية عالمة ومتمكنة من شروط هذا المولود الجديد، وألا يتسرع القارئ في قراءته وكتابته النقدية على الرغم من كون القصة القصيرة جدا هي كتابة سريعة أفرزتها ظروف العولمة وسرعة إيقاع العصر المعروف بالإنتاجية السريعة والتنافس في الإبداع وسرعة نقل المعلومات والخبرات والمعارف والفنون والآداب. ج- المعيار التداولي: تهدف القصة القصيرة جدا إلى إيصال رسائل مشفرة بالانتقادات الكاريكاتورية الساخرة الطافحة بالواقعية الدرامية المتأزمة إلى الإنسان العربي ومجتمعه الذي يعج بالتناقضات والتفاوت الاجتماعي، والذي يعاني أيضا من ويلات الحروب الدونكيشوتية والانقسامات الطائفية والنكبات المتوالية والنكسات المتكررة بنفس مآسيها ونتائجها الخطيرة والوخيمة التي تترك آثارها السلبية على الإنسان العربي ، فتجعله يتلذذ بالفشل والخيبة والهزيمة والفقر وتآكل الذات... كما ينتقد هذا الفن القصصي الجديد النظام العالمي الجديد وظاهرة العولمة التي جعلت الإنسان معطى بدون روح، وحولته إلى رقم من الأرقام، وبضاعة مادية لاقيمة لها، وسلعة كاسدة لاأهمية لها . وأصبح الإنسان- نتاج النظام الرأسمالي "المغولم " - ضائعا حائرا بدون فعل ولا كرامة، وبدون مروءة ولا أخلاق، وبدون عز ولا أنفة، معلبا في أفضية رقمية مقننة بالإنتاجية السريعة والاستهلاك المادي الفظيع ، كما صار مستلبا بالآلية الغربية الطاغية على كل مجتمعات العالم "المعولمة" اغترابا وانكسارا. 5-الخصائص الدلالية: يتناول فن القصة القصيرة جدا نفس المواضيع التي تتناولها كل الأجناس الأدبية والإبداعية الأخرى، ولكن بطريقة أسلوبية بيانية رائعة تثير الإدهاش والإغراب والروعة الفنية، وتترك القارئ مشدوها حائرا أمام شاعرية النص المختزل إيجازا واختصارا يسبح في عوالم التخييل والتأويل، يفك طلاسم النص ويتيه في أدغاله الكثيفة، ويجتاز فراديسه الغناء الساحرة بتلويناتها الأسلوبية، يواجه بكل إصرار وعزم هضباته الوعرة وظلاله المتشابكة. ومن المواضيع التي يهتم بها هذا الفن القصصي القصير جدا تصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخلية وصراعها مع الواقع المتردي، والتقاط المجتمع بكل آفاته، ورصد الأبعاد الوطنية والقومية والإنسانية من خلال منظورات ووجهات نظر مختلفة،ناهيك عن تيمات أخرى كالحرب والاغتراب والهزيمة والضياع الوجودي والفساد والحب والسخرية و التغني بحقوق الإنسان... استنتاج تركيبي: وفي الأخير، نسجل ناصحين وموجهين أنه آن الأوان لتوسيع شبكة الأجناس الأدبية و تمديد رقعة نظرية الأدب بفنون جديدة أفرزتها ظروف العصر وسرعة إيقاع الحياة المعاصرة التي تفرض علينا شروطها ومتطلباتها التي لا يمكن الانسلاخ عنها أو تجنبها، فلا بد إذاً من التكيف والتأقلم مع مستجدات السياق الزمني الآني خاصة الفنية والأدبية منها، ولابد للمؤسسات التربوية الجامعية والثانوية والإعدادية والابتدائية والمؤسسات الثقافية الخاصة والعامة أن تعترف بكل المنتجات الجديدة في عالم الإبداع سواء أكان ذلك مستوردا من الحقل الغربي أم مستنبتا في الحقل العربي ، وذلك بالتعريف والدراسة والتشجيع وفرضها في المقررات والمناهج والبرامج البيداغوجية والديداكتيكية. ومن هذه الأشكال الأدبية التي نرى أنه من الضروري الاعتراف بها نستحضر أدب الخواطر وأدب اليوميات وأدب المذكرات وفن التراسل والأدب الرقمي وفن القصة القصيرة جدا و فن الزجل والقصيدة النثرية. ثانيًا - القصة الومضة عرَّف عمران أحمد وفقًا ل موقع (دفاتر) القصة الومضة " قصة الحذف الفني, والاقتصاد الدلالي الموجز , وإزالة العوائق اللغوية والحشو الوصفي ... والحال هذه أن يكون داخل القصة شديد الامتلاء , وكل ما فيها حدثًا وحوارًا وشخصيات وخيالاً من النوع العالي التركيز, بحيث يتولد منها نص صغير حجمًا لكن كبير فعلاً كالرصاصة وصرخة الولادة وكلمة الحق " وإحدى الحقائق المهمة التي ينبغي أن نفطن إليها هو أن القصةالومضة (القصة القصيرة جدًّا) جنس أدبي ممتع، ولكن يصعب تأليفه , كما يقولهارفي ستابرو(2). ولذا فإن كثيرًا من النصوصالتي تكتب باختزال واقتضاب ويُظن أنها قصة ومضة, لا يعد من قبيل القصةالومضة. وهذا ما جعل الدكتور فايز الداية يصر على أن يكون المسهم في هذااللون القصصي متمكنًا في الأصل من الأداء اللغوي والفني ومن أساليب السرد , وعنده رؤى يقدمها في الحياة وفي المجتمع وفي جوانب الفكر والسياسة وما إلى ىذلك وهذا الارتباك في كتابة القصة الومضة يوازيه ارتباك في الرؤية النقدية لدى كثير من النقاد أيضا , إلى حد جعل الناقد ياسر قبيلاتيذهب إلى أنها تبدو محيرة وملتبسة , تكاد لا تجد تقعيدها الحقيقي , فيقائمة الأنواع الأدبية إلا بصفتها عنوانا جديدا يضاف إلى فهرست التباسالأنواع الأدبية. فما هي مقومات القصة الومضة التي اشترطهاالنقاد؟ كيف تكتب قصة ومضة ناجحة؟ إن القصة الومضة المتميزة بإبداعٍ وتقانة تنهض على أربعة مقومات رئيسة هي: التكثيف والتركيز :أي الاقتصاد في الكلمات والاكتفاء بالقليل منها مما يفيبالغرض. فالقصة الومضة مكثفة جدًا , وخالية من الزوائد والحشو الوصفيوالاستطرادات والانثيالات الواعية وغير الواعية ، إضافةً إلى تركيزها علىخط قصصي هام يتمثل في النقاط والكلمات التي توصل إلى الموقف. ورصدها بمهارةشديدة حالات إنسانية شديدة الصدق. ويشبه خليل خلف سويحل التكثيف ب" قطرةعطر فواحة" (5).وإذا كان الأصل في القص الحكائيهو الاستطراد والتوسع فإن"القصة الومضة تبني رهانها الجمالي على أن الكتابةهي فن الحذف لا فن الإضافة". كيف ينشئ الكاتب لغةً مكثفة ؟ ثمة إجراءات تمكِّن الكاتب من تكثيف لغته , وتخليصها منالترهل وهي: 1- استعمال أفعال الحركة حيثما يكون ذلك ممكنا (لجأ , يتذكر, مشى) , والتقليل من استخدام أفعال الوصل والأفعال الناقصة مثل: يبدو , وصار وكان. 2- تجنب استعمال الصفات والظروف إلا ما كان ضروريا لتطويرالحدث أو بناء الشخصية, "وعندما تُستخدَم أفعال الحركة فسوف تسقط الصفاتوالظروف وحدها". وعلى الكاتب تذكر أن القصة الومضة "تدريب على الاقتصادبالكلمات". 3- الاعتماد على الجمل القصيرة , والتقليل من استخدام حروف الربط . 4- "استخدام الحوار بدل السرد: فالحوار من أكثر الأساليب جذبًا للقارئ , فهو يثير اهتمامهواستمتاعه لأنه يجعل القارئ كما لو كان مسترقًا للسمع , ويُمَكِّنه منمعرفة ما يجري من الشخصيات مباشرة بدون تدخل الراوي. وللحوار وظيفة حيويةتتمثل في قدرته على عرض الشخصيات أمام القارئ بخصوصيتها الفردية الحية كمايقول "لوكاتش"(7). "وحيث إن الأمر متعلقبالاقتصاد في الكلام ، فإن الحوار بصورة عامة أكثر جدوى من السرد بالنسبةإلى الإيحاء والتلميح والغمز من قناة الأشخاص". وينبه هارفي ستانبرو إلى أنهذه المقترحات مجرد دليل , لأن القصة الومضة قد تبنى كاملة على السردوتكون جيدة(8). ويجدر بالكاتب ألا يتورط بدعوى التكثيف في خطأ تغييب البطل "فغياب البطل غيابًا تامًا يقرب القصة من جو الخاطرة, فالبطل هو "حاملللحدث والفعل والكثير من الأوصاف في القصة, وغيابه يعني تقليلاً من قيمةالقصة كفن. ويخطئ من يحاول الابتكار من خلال إلغائه البطولة والتحرك في جومن تراكم الوصف دون التقدم إلى الأمام...ومشكلة النماذج الجديدة أنها تغزلكثيرًا على التكثيف حد الوقوع في إشكالية اللعب وتجاوز القص إلى الافتعال. يأتي هذا من باب ابتداع الإيجاز كغاية لا كوسيلة" 2- الإيحاء : يفضي التكثيف الناجح إلى لغة مشعة بالإيحاءات والدلالاتفتكون رشيقة في إيصال المعنى والمضمون.والإيحاء هو "أن تجعل قارئك يعرف ماتتحدث عنه أو أن تقوده إلى الاعتقاد بأنه يعرف عما تتحدث، من دون إعلامهذلك بصورة مباشرة. وكلما جعلت قارئك يستنتج، زاد انشغاله بقصتك" إن الإيحاء هو عكس المباشرة والتقريرية , وعلىالكاتب ألا يسلك بلغته - في سبيل الإيحاء- التنميقَ الأسلوبي المفتعل . 3-المفارقة: المفارقة التصويرية هي طريقة في الأداء الفني "تقوم علىإبراز التناقض بين طرفين كان من الفروض أن يكونا متفقين" ، و"التناقض فيالمُفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاعكان من شأنها أن تتفق وتتماثل") وتعني "فيأبسط صورها القصصية: جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود فيالنهاية، أو هي تعرّف الشخصية تعرّف الجاهل بحقيقة ما يدور حوله من أمورمتناقضة لوضعها الحقيقي، فالمفارقة هنا درامية. والمفارقة عمومًا صيغةبلاغية تعني: قول المرء نقيض ما يعنيه لتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتأكيدالذم بما يشبه المدح". وهي تقنية قصصية تبعث على الإثارة والتشويق, وقدتفتق الضحك , "الذي يتحقق من ثنائية المفارقة, التي من الممكن أن تحملأبعاد التقابل أو التضاد، الرفض أو القبول، الواقعي وغير الواقعي المؤمل أوالمتخيل". إن "المفارقة خلاصة موازنة ومقارنة بين حالتين يقدّمهماالكاتب من تضاد واختلاف يُلفتان النظر، وليس بالضرورة أن يكون ذلك معلنًا،بل يمكن أن يُستشف من النص، وهذه الثنائيات في صورة ما معطى لغوي، حملدلالات في الموقف والمضمون، ولذا فإنَّ مثل هذه الثنائيات قد تُضحكنا منجهة، لكنها تنغرز في جدران أرواحنا تحريضًا من جهة أخرى. والمفارقة تزيدإحساسنا بالأمر، إنها تُسهم في تعميق فهمنا للأمور وإيصالها بطريقة إيحائيةأجدى من الطريقة المباشرة.) . 4- الخاتمة المدهشة : "وتشكل في قصة الومضة الغاية والهدف،ولذلك فهي تختلف عن أساليب الخاتمة في القصة القصيرة التي من الممكن أنتكون واضحة، أو مرمزة، أو مفتوحة على احتمالات كثيرة، أما في القصة القصيرةجدًا فإن الخاتمة فيها ليست وليدة السرد، أو إحدى مفرزاته، كما أنها ليستمعنية بالمضمون الذي من الممكن أن يفرض خاتمة ما، بل هي الحامل الأقوىلعناصر القصة القصيرة جدًا، فهي قفزة من داخل النص المتحفز إلى خارجهالإدهاشي والاستفزازي , فهي مجلى النص في داله ومدلوله ويتوشج كلاهما دونأن يحاول أحدهما تعويم الآخر، أو الإساءة إليه أو تقزيمه. والقصة الومضة لا تخضع للبناء الأرسطي للدراما : بداية , قمة , سقوط , وإنما هي بدون بداية في الغالب وهي "تركز على النهاية , ولذلكشبهت بالرصاصة التي ينحصر هدفها الأساس في إصابة الهدف بكل طاقتهاالانفجارية(14). وعلى الرغم من الإيجاز في القصة الومضة فإنها ليست مجردمقدمة لقصة أطول، ولابد أن يشعر القارئ بالرضا عن النهاية؛ فلا يتساءلوماذا بعد؟ مهم جدا في القصةالومضة ألا يترك القارئ منتظرًا المزيد. وقد أتى على هذه المقومات بصورة متكاملة الناقد د. محمدرمصيص في قوله: "إن قصر هذا الجنس الأدبي ليس خاصية كمية بقدر ما هو خاصيةجمالية.بمعنى أن اعتماده على التكثيف والحذف يجعله يترك وحدة الانطباع منجهة،ومن جهة ثانية يعوض قصره بامتدادات المعنى وتداعيات الدلالة من خلالجعل القارئ في قلب تشكيل دلالة النص وملأ بياضه وفراغه..لكن هذا يستدعي منالقاص كذلك دقة انتقاء اللحظة القصصية واعتماد النهاية غير المتوقعةوالمفاجئة..وبالتالي نهجه لكتابة مجازية تحيل ولا تصرح،ترمز ولا تقرر"(15). إن القصة الومضة لا يهمها الانشغال كثيرًا بالحدث والأحداثبقدر ما يهمّها أن تؤدي غرضها الفني في أن تبرق وتشع داخل النص القصصيأولاً ، ثم في داخل وجدان المتلقي ثانيًا . وإذا ما توافرت على هذهالشروط وهي : والتكثيف , والموحيات والدلالات, ومعها المفاجأة الصادمة التيتصل حدّ الإثارة وتحفيز مخيلة القارئ وهواجسه تجاه ما يقرأ ويتفاعل معهوينفعل به , فهي قصة ومضة بامتياز. إشكالية المصطلح: أطلقت تسميات ومصطلحات عديدة على هذا النوع القصصي مثل: القصة الجديدة، القصة الحديثة، القصة اللحظة ، القصة البرقية ، القصةالذرية، القصة الومضة، القصة القصيرة القصيرة، القصة الشعرية، الأقصوصةالقصيرة، اللوحة القصصية، مقطوعات قصيرة، بورتريهات، مقاطع قصصية، القصةالكبسولة ,القصة المكثفة ,مشاهد قصصية، فقرات قصصية، ملامح قصصية، خواطرقصصية، إيحاءات، إلى أن استقرت التسمية على القصة القصيرة جدًا. ولكني أفضل مصطلح " القصة الومضة" على مصطلح "القصة القصيرةجدًّا", لأنه أكثر تعبيرًا عن طبيعة هذا اللون , لأسباب عديدة ذكرهاالناقد محمد رمصيص تتلخص فيما يلي : أولا: توصيف القصة بكونها قصيرة جدا هو توصيف معياري وخارجييستمد مشروعيته من خارج النص. أقصد أن وصفها بالقصر المكثف نابع منمقارنتها مع القصة القصيرة. ثانيا: تسميتها'' بالقصيرة جدا ''يسير عكس استراتيجية الحذفوالتكثيف التي تتبناها القصة الومضة.فتسمية بهذا الطول''القصة القصيرةجدا''تبدو مفارقة وقصر الجنس الأدبي المراد وصفه. ثالثا: القصر المفرط وحده غير كاف لانتساب هذا الحكي أو ذاكللقصة الومضة, لأنه مَلْمَحٌ ووصفٌ للشكل الخارجي مع إهمال المحتوى. وبالتالي نرى من الأليق تسميتها بالقصة الومضة لأنها تركز في الآن ذاته علىالمحتوى كما الشكل , علما أن الإيماض خاصية تحيل على الإشراق المكثف فيالزمان والمكان(16). وقد أشار ياسر قبيلات إلى أن مصطلح "القصة القصيرة جدًّا" لا يجعل من القصة الومضة نوعا أدبيًّا مستقلا, وأن هذا التآلف الاصطلاحيبين عبارة"القصة القصيرة " وعبارة "جدا" لا يسهم في فض الاشتباك المفاهيميما بين القصة الومضة والقصة القصيرة بل يغذي فكرة التماهي :المفاهيميوالنوعي . وهذا المصطلح الرجراج نجم عنه "إخفاق المقاربات التي تحاول ربطهاقسرًا بالقصة القصيرة انسياقًا وراء الفهم الخاطئ لمدلولات اسمهاالاصطلاحي، وللقراء المغلوطة لمكوناته" وأخيرًا.. أرى أن من مساوئ مصطلح "القصة القصيرةجدًّا"-أيضًا- اختصار الكتاب له إلى بضعة حروف: ق ق ج , نظرًا إلى طولهواستثقالهم إياه. هل تعد الطرفة قصة ومضة ؟ تشترك قصة الومضة مع الطرفة في: 1- "المفارقة التصويرية": والمفارقة التصويرية تقوم علىإبراز التناقض بين طرفين كان من المفروض أن يكونا متفقين . وهي عنصر جوهريبه يتم تفريغ الذروة و صدم القارئ بما لا يتوقّع.وتشكل المفارقة عنصرالتشويق اللذيذ الذي يميز القصة الناجحة و يسكب المتعة و الارتياح في نفسالقارئ."إن المفارقة هي ذرة الملح التي تجعل من الطبق شهيًّا" 2- التكثيف والاقتصاد اللغوي. 3- النهاية المدهشة. ونظرًا إلى اشتراكهما في التكثيف, والمفارقة التي تبثالفكاهة والسخرية, والنهاية الذكية المدهشة رأى بعض الباحثين أن الطرفة هيمن قبيل القصة الومضة, وليس الأمر كذلك. وهما تختلفان في: 1- عمق التناول: فالطرفة مكثفة ومضغوطة ولكن رسالتها تفهم دون عناء , وهذاهو شرط إضحاكها للسامع , فما لم يستوعب السامع سريعا مضمونها وينفعل بالضحك , وإلا غدت سمجة باردة. أما القصة الومضة فهي موحية تعوض تكثيفها وقصرهابامتدادات المعنى وتداعيات الدلالة من خلال جعل القارئ في قلب تشكيل دلالةالنص وملأ بياضه وفراغه, وليس غايتها تفجير الضحك أو رسم بسمة حتى لو كانتمنقوعة بالسخرية والمفارقات ,وإنما غايتها خلق انفعال عميق لدى المتلقييدفعه إلى التفكر. إنها رغم تكثيفها الشديد قادرة على إثارة التأويلاتالمختلفة. إن الطرفة "قد تتوقف عند مجرد سرد حدث خارجي، دون محاولةلفهم شخصية البطل ودوافعه النفسية، ففي الطرفة يروي المرء ولا يحكي، ولايحدث جمالية من أي نوع"(19). أما في القصة الومضةفيفترض وجود حدث معمق أكثر من الأول. في الطرفة تسطيح وفي القصة الومضةعمق , ولذا تستدرجك الطرفة إلى الضحك ولكن القصة الومضة تستدرجك إلى التأمل . 2- اللغة الشعرية: نزوع القصة الومضة إلى لغة شعرية تنهض على العلاقة المتوترةدلاليا بين المفردات , واعتمادها لغةً رشيقة يجعلها تحتكم إلى الكلمة لاالجملة, والكلمة المشعة والشفافة تحديدا. وهذا مالا يوجد في الطرفة.