الاخوانيات فن من الفنون الكتابية شديد الخصوصية. فالاخوانيات تدور بين الشعراء، أو الأدباء، بحميمية وحرية، وفي شكل يكشف الوضع الشخصي للشاعر ومزاجه وطبيعته وعلاقته مع الآخرين، أو البيئة التي يعيش فيها. كما تكشف من خلال الرسائل المتبادلة والمقطوعات الشعرية والتعليقات البرقية، عن دواخل صاحبها التي يسرّ بها الى أصدقائه، وغالباً ما تكون محجوبة عن القراء لأسباب شخصية من ناحية، ولكونها تهامساً بين الصديق وصديقه. وتكتسب حريتها من هذه الخصوصية، لأنها إذ تكتب لا يقدر لها الأديب انها ستنشر يوماً. ومن هنا تكون لهذه الممارسات الشعرية والنثرية أهمية ثقافية وتاريخية، اضافة الى ما فيها من متعة بما تحمل من فكاهة ورأي صريح. ومما يذكر هنا ان كاتب الاخوانيات هذه، أكسبها أهمية بسبب دوره الفني والثقافي والصحافي في حقل الثقافة العراقية والعربية. فمحمد سعيد الصكار في كتابه "اخوانيات الصكار" دار المدى، دمشق - 2001 شاعر ورسام وصحافي، ولد في شهربان العراق عام 1934، ودرس الابتدائية في مدينة الخالص من محافظة بعقوبة، والثانوية في البصرةوبغداد. بدأ دراسته الجامعية في معهد اللغات العالي - قسم اللغة الروسية، وفصل لأسباب سياسية. ثم أصبح لاجئاً سياسياً في سورية عام 1957 وقضى سنة في التعليم الابتدائي في قرقانيا، وهي ضيعة في شمال حلب. أقام الصكار عشرات المعارض الشخصية لأعماله الفنية في بغداد والكويت والامارات والاردن والبحرين وفرنسا، وهو من ابتكر الأبجدية العربية المركزة التي تختصر الحروف الطباعية من المئات الى 21 وحدة فقط، وحروفه الكومبيوترية الجميلة وتصاميمه اللينة المبتكرة تغطي أغلفة مئات الكتب والمجلات، وله أكثر من عشرة دواوين مطبوعة. تنقل بين البلدان شرقاً وغرباً، ومن تجربة الحياة تلك، عرف الصكار مئات الشخصيات الأدبية والفنية والسياسية، عراقيين وعرباً وأجانب، ثم قدم اخوانياته هذه لقارئ يبحث عن سر وطرفة ودعابة. يسلط الكاتب محمد سعيد الصكار الضوء على فترة شحب فيها هذا الفن، وصار من جملة ممارسات أدبية تداولها والحديث عنها يطعن في جدية الشاعر والتزاماته الثقافية والسياسية. أما المجالس الأدبية التي يشير اليها العنوان فهي ليست كالمجالس الأدبية المعروفة في العراق، وكانت تعقد في أوقات منتظمة في دواوين بعض المثقفين ووجهاء البلد، كالجواهري، وجعفر ابو التمن والحبوبي وغيرهم، ذلك انه لم يكن لدى الصكار بيت من هذا القبيل، لكنه كانت لديه مكاتب عمل يزوره فيها الأصدقاء. وفي محترف الصكار للخط والرسم في البصرة نهاية الخمسينات الذي دأب على ارتياده اصدقاء ذلك الزمان ومنهم مظفر النواب وموسى النقدي وخيري الضامن وطالب غالي ويوسف الصائغ وعبدالرزاق عبدالواحد، تعقد الحوارات حول مستجدات الأدب والسياسة ومعضلات تلك الفترة الحرجة من تاريخ العراق. كانت تلك المجالس نوعاً من ذكريات، تروي مسيرة عقود من السنين، حافلة بالشعر والنثر والطرائف. وكان الصكار محوراً لها، إما ناثراً قصيدة أو مجيباً عن رسالة أو ناظماً أرجوزة بسبب موقف معين. والشعر منثور ومقفى وفصيح وعامي، بحسب موقع الشخص ومستواه الاجتماعي. وتختلط في الرسائل الأساليب الفنية، النكتة والسجع والشعر العامي والدسيسة الأدبية. وقد ضم الكتاب 200 مادة عن أكثر من 150 شخصية وموضوعاً، منهم الجواهري وبلند الحيدري وناظم حكمت وماسينيون وابراهيم السامرائي وسعدي يوسف ويوسف ادريس وسهيل ادريس وعمر أبو ريشة ونزار قباني وحبيب صادق وغيرهم. ففي مناسبة بلوغ الكاتب الستين من عمره كتب الشاعر بلند الحيدري ارتجالاً، في مجلس ضم عدداً من أصدقاء الشاعرين في لندن مقطوعة شعرية قال فيها: "صكارنا العظيم في الستين/ يختال ما بين ربى السنين/ لأنه كالأمس في العشرين/ بروحه وفنه الرصين/ بقلبه المملوء بالحنين/ للوطن الممزق الجبين/ وشعبه المقهور والمسكين...". "اخوانيات الصكار"، اضافة الى طرافتها شعراً ونثراً، وقيمتها الفنية، تكشف للقارئ اسرار شخصيات سمع عنها الكثير، وطرائق تفكيرها، وموقفها من الحياة والأحداث السياسية والمفارقات الاجتماعية، فيختلط الجانب الطفولي بالجانب الجاد في روحية البشر. فهذا مهدي محمد علي يهجر شعر التفعيلة ويكتب رسالة الى الصكار عبارة عن قصيدة عمودية تشبه قصائد أبي فراس الحمداني. وذاك الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد يترك قصاصة مدبجة بالشعر العمودي أيضاً على مكتب الصكار ويمضي. مثقفون يكذبون، أو يكتبون باللهجة العامية ويهذون، ثم يبكون وحدتهم في المدن والقارات. أما اندريه ميكيل وهو عميد المستشرقين الفرنسيين في الوقت الحاضر، فله دراسات في الأدب العربي ويكتب الشعر بالعربية، ومن طرائف شخصيته كما يقول الصكار، ولعه الشديد بمجنون ليلى، حياة وشعراً. ان الحاجة الكبرى الى مثل هذه الكتب، بطرق تعبيرها المنوعة نثراً وشعراً ورسائل وطرفاً، تكمن في ذلك البوح الشفيف، والاعترافات مع النفس وللآخر، وهذا قلما يجرؤ عليه كاتب في هذه الأيام. خصوصاً أن ثقافتنا العربية تميل الى الأسرار والى ما لا يصرح به، نتيجة التقاليد البالية وذهنية المساومة والمداهنة. لكل ذلك ربما، يعد هذا الأمر من فضائل الجيل القديم في تعامله مع الأدب.