لا يمكن فصل الدعوة التي وجهتها بعض شخصيات السلطة الفلسطينية لتشكيل حكومة وحدة وطنية عن طبيعة الظروف التي تمر بها عملية التسوية السياسية في ظل حكومة شارون التي أغلقت كل النوافذ أمام امكان استئناف العملية السياسية وأصرت على التعامل مع السلطة الفلسطينية من خلال الآلية الأمنية. فقد جاءت الدعوة التي أطلقها الأمين العام للسلطة الفلسطينية بعد مرور قرابة العشرة أشهر على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وأكثر من أربعة أشهر على انتخاب شارون ووضوح توجهات الحكومة الصهيونية الجديدة تجاه عملية التسوية السياية، وبعد أن رفضت السلطة الفلسطينية الاندماج في الانتفاضة وآثرت اتخاذ موقف وسطي يمكنها من استمرار التعامل مع الكيان الصهيوني والتقاط اللحظة المناسبة لاستثمار الانتفاضة سياسياً. وعندما وجدت السلطة الفلسطينية أن خيارات حكومة شارون مغلقة سياسياً وشعرت انها نفسها قد تكون مستهدفة بالتصفية والانهاء لجأت الى استخدام ما تبقى في جعبتها لمواجهة حكومة شارون وسياساتها وذلك كخيار أخير قد يكون ناجعاً مع حكومة لا تفهم الا لغة القوة والتهديد ولا تستجيب الا اذا شعرت بالخطر الشديد على مستقبلها السياسي. ومما لا شك فيه أن التلويح باشراك حماس والجهاد الاسلامي في حكومة وحدة وطنية فلسطينية يثير حفيظة الصهاينة الى حد بعيد ويبعث في حكومة المتشددين مخاوف كبيرة من انعكاسات مشاركة قوى تدعو الى تدمير الكيان الصهيوني وترفض حلول التسوية السياسية معه وتمارس عملياً المقاومة المسلحة بأقوى صورها ضد الصهاينة، لا سيما وأن العامل الذي لا يزال يمنع حكومة شارون من شن حرب قاصمة على السلطة الفلسطينية هو التخوف من البديل المحتمل والأكثر شراسة ألا وهو حماس! ومن هذه الخلفية يبدو تحرك السلطة الفلسطينية بمثابة التهديد للكيان الصهيوني الذي يضعه أمام خيارات صعبة ويدفعه الى اعادة حساباته السياسية وفرملة خياراته العسكرية المتطرفة، خصوصاً أن السلطة الفلسطينية حفظت لنفسها مكانة قريبة من التنظيمات الفلسطينية عبر تنظيم فتح الذي شارك جناحه العسكري بفاعلية في المقاومة من خلال استهداف المستوطنين، وكذلك من خلال تجنب شن اعتقالات كبيرة في صفوف المقاومين إلا في أضيق الحدود. وهذا يعطي لتحرك السلطة الفلسطينية قوة حقيقية تتجاوز التلويح الاعلامي وبالونات الاختبار شريطة أن يتم بلورة هذا التحرك وصوغ تحرك ميداني يمتاز بالجدية. ولكن ما رشح حتى الآن لم يتجاوز حدود التحرك الاعلامي وتشكيل لجنة حوار وطني من بعض رموز السلطة الفلسطينية الذين دعا بعضهم لتشكيل حكومة وحدة وطنية من دون التطرق الى برنامج هذه الحكومة وكيف يمكنها تجاوز اتفاق أوسلو الذي يشكل السبب الأول للخلاف بين السلطة الفلسطينية وقوى المعارضة، وهل ستقيل هذه السلطة التنازل عن جزء من صلاحياتها لمصلحة أطراف اخرى بعد أن بذل اشخاصها مجهودات كبيرهة وقدموا تنازلات عدة من أجل الحصول على مواقع فيها! ومن زاوية اخرى فإن السلطة الفلسطينية تدرك تماماً أن تنصلها من اتفاقات اوسلو يعني انتهاء دورها الذي وجدت من أجله بالنسبة الى الصهاينة الذين قد يتخذون قراراً حاسماً في هذه الحال بتصفية هذه السلطة وانهائها، وربما يشكل هذا التخوف الدافع الأساس في اصرار رموز السلطة الفلسطينية على التمسك بخيار أوسلو لأنهم يرون انه ليس مجرد خيار سياسي بحت يمكن تغييره بل خيار وجودي لا بديل عنه. وفي المقابل فإن موقف المعارضة الفلسطينية وحتى الشق الأكبر من تنظيم فتح هو تجاوز هذا الاتفاق الذي تجاوزه العدو الصهيوني نفسه، وتحمل التبعات المترتبة على ذلك، والاندماج في برنامج المقاومة بنَفَس طويل لإجبار العدو على الانسحاب من الأراضي التي احتلها عام 1967 على الأقل. ويرى معظم القوى الفلسطينية الفاعلة ان أي تحرك سياسي حقيقي لتحقيق برنامج وطني فلسطيني موحد يجب أن يستند الى تبني برنامج المقاومة بعد أن تأكد بالدليل العملي انه البرنامج الوحيد القادر على انتزاع التنازلات من العدو، وبعد أن توحدت القوى السياسية الصهيونية مدعومة بتوجهات جماهيرية كاسحة خلف برنامج شارون الذي لا يؤمن باتفاق أوسلو. وهناك قناعة ترسخت خلال سنوات اتفاق اوسلو الماضية ان برنامج المقاومة هو برنامج نقيض لبرنامج التسوية السياسية الذي قام أصلاً على أساس ضرب المقاومة واعتبارها عقبة كأداء يجب ازالتها والتخلص منها قبل تطبيق اتفاقات التسوية السياسية! ومن هنا فلا توجد أوهام لدى غالبية هذه القوى باستحالة التوفيق بين هذين البرنامجين وان من يسعى الى استمالة القوى الفلسطينية الى القبول بمبدأ المزاوجة بين هذين الخيارين انما يحاول استمالة قوى الشعب الفلسطيني الى برنامج التسوية السياسية بطريقة ملتوية وليس التوصل الى قواسم مشتركة بين أبناء الشعب الفلسطيني. وفي ظل تمايز المواقف الفلسطينية تجاه شروط ومتطلبات حكومة الوحدة الوطنية ووجود طرف أساسي متحكم بنجاح هذا الخيار، فإن المطلوب حوار وطني فلسطيني معمق تشارك فيه السلطة الفلسطينية وليس فقط تنظيمها فتح، إضافة الى التنظيمات الفلسطينية المعارضة وعلى رأسها حماس التي تشكل العمود الفقري للمعارضة الفلسطينية. أما البرنامج السياسي الذي يمكن أن يستند اليه الحوار فهو بلا شك برنامج المقاومة وليس أي برنامج آخر، وهذا يتطلب من السلطة الفلسطينية أن تحسم خياراتها وأن تتوقف عن سياسة وضع رجل عند المقاومة وأخرى عند التسوية. وهناك ما يكفي من الاشارات والدلائل التي تؤكد ان الشق الرئيسي في السلطة الفلسطينية لا يزال يرفض تعديل مواقفه السياسية ويعول على انهيار حكومة شارون لاستئناف مسيرة التسوية السياسية، وذلك على رغم انسداد الأفق السياسي واندماج حزب العمل في تطبيق سياسات شارون، الأمر الذي يضع علامات استفهام كبرى حول امكان نجاح أي حوار وطني فلسطيني في هذه المرحلة في التوصل الى برنامج وطني فلسطيني موحد قاتم على أساس برنامج المقاومة. * كاتب فلسطيني.