بينما ينقسم الرأي العام الغربي، مواطنين وسياسيين وألسنة، في سياق الإعداد لحملة "النسر النبيل" التي يتوقع أن تطول "ست سنين، أو ثماني، أو عشراً"، على مسائل الحرب والسلم والمعالجة والوسائل والغايات، يكاد الرأي العام العربي، شارعاً ومنابر إعلام مأذونة أذنها الشارع وجماعاته أو أذنتها السياسات الحاكمة، يجمع على فكرتين أو ثلاث. وتحمِّل الفكرة الأولى المسؤولية والتبعة عن العمليات الإرهابية "العظيمة" الى الولاياتالمتحدة الأميركية نفسها، وإلى سياستها وقوتها، من طريق مباشرة او غير مباشرة. وتذهب الفكرة الثانية الى إنكار كل مسؤولية أو تبعة محلية، عربية أو إسلامية، عن العمليات الإرهابية ضد الولاياتالمتحدة. ولكنها لا تلبث ان تسوغ مثل هذه العمليات، وتجد كل العلل والذرائع لها، من طريق حملها على السياسات الأميركية العربية أو الأميركية الإسلامية، وردها الى هذه السياسات، وإلى ظلمها وتعسفها وانحيازها وكيلها بمكيالين في كل ما يعود الى البلدان العربية والإسلامية وشعوبها ومصالحها وقضاياها. اما الفكرة الثالثة فتستجمع ما يترتب على الفكرتين الأولين، وتصم السياسات الأميركية جملة، الديبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، بالإرهاب والعنف المادي والرمزي، والإفقار المتعمد، والتوحيد القسري للقيم والصور والكلمات الشعارات. وعلى هذا فأميركا هي "الشر المطلق"، على ما عنون احد المثقفين العرب كتاباً أخيراً له، فاسترجع ما سبق وقاله في "الربيبة" الأميركية عالم دين "كبير" وزعيم جماهيري بارز. وتترجح هذه الأفكار بحسب مستعملها، بين التزام جانب السياسة النسبية - المقتصدة في العداوة والنفي، ولو على مضض وكلاماً، والمستجلية لفظياً سبل معالجة عملية - وبين الأحكام المطلقة التي تسوقها إدانة وضغينة ثأريتان وأبديتان. ولما كان ما يجمع بين هذه الأفكار اكثر وأقوى مما يفرق بينها، لم يتح للرأي العام العربي ان ينقسم على نفسه انقساماً يمهد الطريق الى مناقشة حقيقية لسياسات قد تدعو إليها الحوادث الجسيمة المنصرمة والآتية. وعلى هذا يستحيل تدبر الانقسام، وتظهيره، والتفكير في اسبابه وعلله. ولكن إغفال الانقسام، والسعي في وأده وإسكاته، لا يميتانه ولا يقطعان دابره. فهو يبقى فاعلاً ومؤثراً شأن "الجثة في الدِّرج" على حسب صورة رائجة في القصص البوليسي. وتتشارك المناقشات هذه، إذا كانت التسمية ما زالت تصح فيها، مع شطر كبير من السياسات العربية و"الإسلامية" بحسب انتسابها، في نازع واحد يؤدي، في المطاف الأخير، الى الإرهاب. فما تتشارك فيه المناقشات والسياسات هذه هو تجنبها النظرَ في الحرب، وتناول الحرب، أو الحروب على أنواعها الكثيرة، على وجه المسألة والقضية. فسرعان ما تنسلّ الحرب، في السياسات والمقالات العربية، من خصوصيتها العنفية المعلنة والمقيدة بالغايات السياسية والأعراف، الى صور المنازعات والاختلاف الأخرى كلها. وعليه يتحول اللباس الأوروبي الى عنف صارخ، وتنقلب التجارة الى فتح بالقوة، وتستوي السفارات والبعثات الديبلوماسية احتلالاً فجاً، وتصبح الصور المتلفزة عدواناً غاشماً على العقول والعيون، الخ. فعلى زعم الرأي العام هذا، وهو محصلة متوسطة للسياسات والمقالات، لم يسبق للدول العربية، وجيوشها وشعوبها، ان خاضت حرباً من قبل. فالدول والجيش والشعوب كانت، على الدوام، ضحية خيانات قاتلة ومميتة وخلافات داخلية وأهلية مصطنعة، أو غلبها تضافرُ قوى عظيمة أجمعت عليها، أو حيل بينها بواسطة طبقاتها الحاكمة وأنظمتها "العميلة" أو المستبدة وبين امتلاك اسباب قوة كفيلة بالتصدي لعدو "غادر" و"مجرم" و"لئيم". و"الحروب" المعلنة، مثل 1948 أو 1956 أو 1980 - 1988 العراقية - الإيرانية أو 1990- 1991، حروب "مفروضة" استدرجت الدول والشعوب والجيوش إليها. وهي ليست، والحال هذه، الا الصورة الظاهرة والمرئية لفرض واستدراج دائمين يشملان السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، ولا يعفَّان عن وجه من وجوهها جميعاً. ويترتب على هذا أن "الحرب"، وهي على هذه الحال من التمويه والخفاء وملابسة الأفعال والأحوال، عامة ودائمة. ويترتب عليه أن غايتها الثابتة هي محق "الأمة"، وجوداً وقيماً وهوية. فأضعف الإيمان ان ترد الأمة على الحرب الشرسة و"الوجودية" التي تُصلاها عنوة وعدواناً، بحرب مثلها، وعلى مثال العدوان عليها، اي على مثال الصورة التي يتصور بها العدوان في الأذهان والكلام، ووجَبَ وحقَّ ان يكون الرد ماحقاً ولئيماً وكلياً. وهذا حق للأمة، ومقاومة مشروعة. فإذا سئلت "المقاومة" عن القيود على الحرب، مثل تجنب قتل المدنيين، وتمييز اهداف الحرب من المرافق المدنية، وقصر الحرب على سياسة العدو من دون "وجوده"... لم يتعذر عليها إبراز الحجج على مجازر العدو، القديمة الصليبية والمحدثة الأوبئة الحقيقية و"المعنوية"، وعلى قتله المدنيين، وضربه المرافق المدنية قبل العسكرية. وفي خضم الاحتجاج المسترسل لا إلى نهاية ولا إلى غاية، تنكمش الحروب الحقيقية - حروب القوات العسكرية التي تتوسل بها السياسة الى لجم العنف وإملاء شروط معقولة على العدو - وتتضاءل وتتلاشى. فلا يبقى إلا موج العنف المرئي وغير المرئي المتلاطم. وقد يكون إنكارُ الحرب، أي إنكار صورتها الخاصة وكيانها الاجتماعي والمادي المتميز والمحدود، بعض السبب في ضعف بلورة عربية للحرب وطرائقها ومناهجها. فحروب فلسطين، إذا جازت التسمية، وحروب الاستقلال الجزائر والحروب الإقليمية، والحروب الأهلية والداخلية، إذا استثنيت فصول قليلة منها في 1973 خصوصاً لم تنجب غير الاستنزاف استنزاف النفس اولاً، والمراوحة في المحل الواحد، وانفكاك مراحل الحرب الواحدة من الأخرى، وضعف التنسيق بين عواملها المتفرقة، وتآكل الإجماع الداخلي والإقليمي المفترض عليها. ومن الركام العسكري والمترامي هذا لم يبرز محارب أو جندي واحد. فيجمع المعركةَ والتخطيط لهاوإنفاذَ خطتها في سياق تاريخي، فلا تنجلي المعركة عن الدمار وحده بل تنجلي كذلك عن معنى، وتشق طريقاً الى موازنة مستقرة بين عوامل السياسة الكثيرة. فقادة الحرب، ومعظمهم قفز من قيادة الحرب الى قيادة الدول، انتصروا من قبل في حروب داخلية كان حظُّ السياسة منها قليلاً وضئيلاً. وبعضهم باشر القيادة السياسية على مثال الحرب. وهذا المثال لم يحفظ من الحرب إلا عنفها وقتلها ودمارها. فلم تجئ الحرب مجيء الاستمرار على السياسة بآلات العنف، وجاءت السياسة استمراراً على الحرب بآلات القسر في معظم الأحيان، وبصور السياسة والدولة احياناً، وشكلاً على الدوام. فازدوجت الدولة، حكماً. فهي دولة الجماعة المسيطرة والغالبة، المنتصرة في حرب لا تقر باسمها، وتنكر أشد الإنكار صفتها ووقائعها. وبعض الدساتير ينص على سيطرة الحزب الحاكم، وعلى انفراد زعيمه بقوة تشريع وتقرير لا قيد عليها ولا حسيب. وهي، من وجه آخر، دولة شعبها. وتشهد على هذا هيئات وإجراءات صورية تشبه ما ينبغي أن تكون عليه الهيئات الشعبية والديموقراطية. والدولة المزدوجة هذه انما تتستر على حرب بعض "المجتمع" أي الجماعات المنضوية في بلد واحد على بعضه الآخر. فتتوسل بعض الأجهزة بالقتل، أو الاعتقال، أو المنع، أو النفي، أو التخويف والتهديد أو بها جميعاً الى إضعاف القوى السياسية التي تحاربها، وإلى إسكاتها أو إحراجها. وتسدل الجماعة المسيطرة ستاراً صفيقاً على السياسة. فالقرار ليس منشأه، أو مصدره الهيئات التي ينيط بها شكلُ الدولة أي الانتخابات واستقلال السلطات ومسؤوليتها والفصل بين الإدارة والملكية القرارَ، إنشاءً وإنفاذاً. فإذا اضطرت مثل هذه الدولة الى الحرب آثرت ألا تحارب بقواتها تفادياً للحساب الذي ترتبه الحرب، ويترتب على الهزيمة فيها. فحاربت "الدولة" الجزائرية المغرب بالصحراويين، وحاربت ليبيا القذافية التشاد بالتشاديين وب"متطوعين" فلسطينيين ولبنانيين "تقدميين"، وحاربت القيادة السورية معظم الوقت إسرائيل والفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم بالفلسطينيين واللبنانيين و"الحزب" المسلح، وحاربت القيادة الصدامية إيران والأكراد وشطراً من العراقيين بقوات اهلية وضعت موارد الدولة في خدمتها وهي "تقاتل" اليوم بالأولاد والمرضى والجائعين العراقيين، وحاربت إيران الخمينية بالباسدران والباسيج ومن هؤلاء وأولئك خرجت قوى الوصاية والولاية على الإيرانيين، وحاربت القيادة الفلسطينية إسرائيل ولبنان بجماعات اهلية مسلحة أو بالأهالي انفسهم وتحارب بهم. وغلبة القوات غير النظامية على القوات العسكرية النظامية سمة ملازمة للحروب "العربية". فالقوة السياسية الغالبة على الدولة، والمنفردة بالسلطة ومواردها، المستترة بالدولة وحصانتها وسيادتها، تضع "الأمن" والأجهزة محل الحرب على نحو ما تضع الأمن والأجهزة محل السياسة وموضعها. ولعل الحرب الأهلية، أي التلويح بها والتهديد بوشكها ومباشرتها والتمثيل عليها بين الوقت والآخر، لعلها المؤسسة السياسية المركزية في هذه البلدان. وعلى خلاف الحرب الخارجية، المقيدة باستحالة إلغاء العدو مهما كان الانتصار عليه كاسحاً، لا قيد على سحق العدو الأهلي في الحرب الأهلية. وينجم عن هذه الحرب تدمير واسع وعميق للقوى السياسية والاجتماعية الأهلية والوطنية، وللعلاقات السياسية. وهي الحرب التي تؤْثرها السياسات المتسلطة والدولة المزدوجة، وتحلها المحل الأعلى، على ما تقدم للتو. وامتيازها، وهي الساعية في سحق العدو، هو إباحتها، في سبيل هذه الغاية، الاغتيال والترويع والتمثيل على مختلف صورها. ففي النظام الثنائي الذي ترسيه الحرب الأهلية وتُثبته وترثه الدولة المزدوجة، تحتسب كل خسارة تمنى بها جهة، ربحاً تجنيه الجهة الأخرى. فمقاتلو مثل هذه الحرب لا يحتاجون الى تبني عملياتهم، ولا إلى تسويغها، ولا إلى تقييدها. فالإغفال والإطلاق توقيعان كافيان، وتسويغهما من نفسهما. وهم، في كل الأحوال، يتنقلون بين مسرح الحرب الأهلية المحلية وبين مسرح الحرب الأهلية العالمية، وكأن المسرح واحد ومتصل. * كاتب لبناني.