إذا أراد رجل السياسة ومحترفها إثبات صفته السياسية، وإذا أراد من وجه آخر ملازم للأول إثبات جد السياسة وعظمة مكانتها، قرن حرفته وعمله ب"الصراع"، وأدار كلامه وخطابته على ضروب الصراع ومراحله وقواه. فالقرابة بين السياسة وبين الحرب، بحسب رجل السياسة هذا، وثيقة. وإذا استحالت الحرب على الخطيب السياسي "الصراعي"، لعلة أقوى منه هي ميزان القوى والصراع وإحجام شعبه أو أمته عن الحرب، ذهب السياسي الصراعي إلى أن الإعداد للحرب، الآتية لا محالة، وخوض الصراع بآلاته المناسبة إنما يبدآن منذ اليوم بتعريف السياسة بالحرب والصراع، وبتخليصها مما يلابسها من ترهات المسالمة والليبرالية. ويترتب على تعريف السياسة الكبيرة، أو العظيمة، بالصراع المعلن والمستتر الكامن إحصاءُ الأعداء والأصدقاء والحلفاء، من وجه، ثم إحصاء الموارد والطاقات، المرئية والمعنوية غير المرئية، من وجه آخر. فاستعارة الحرب، للكلام على السياسة، تنزع الى الشمول والاستيفاء. فلا تترك حيزاً أو مضماراً إلا وتضمه الى دائرتها، وتدخله تحت بابها العريض والكلي. وتبعث الاستعارة الصراعية أو الحربية أصحابها، والذين يأخذون بها، على تهمة من يحملون السياسة على الجزء وليس على الكل على الحياة كلها بالقصور عن السياسة وعن فهمها، وتالياً بالقصور عن مزاولتها. والمقصِّرون، على زعم الصراعيين و"الأقوياء في أنفسهم"، ضعفاء في أنفسهم، وينبغي تعهدهم بالوصاية. والحق أن ما يجري مجرى البدائة أو البداهات في كثير من المقالات السياسية، ويقوم مقام المعيار المضمر من كثرة أفعال السياسة، اليومية العادية أو الاستثنائية، يعود معظمه الى خطابة نهضوية عريقة. وتجددت الخطابة النهضوية هذه مع إنشاء الحركات السياسية، الدينية والقومية، منذ أواخر العقد الثالث وأوائل العقد الرابع من القرن العشرين.وكان إنشاء الحركات السياسية، أو المنظمات الحزبية العلنية أو السرية العسكرية والإرهابية، على ما روى جمال عبدالناصر في بعض ذكرياته، دليلاً ملموساً وظاهراً، على زعم أصحابه، على فعل النهوض والإحياء، وأثراً من آثارهما، وإيذاناً بانقلاب ميزان القوى المتوقع والمأمول. وليست غلبة المنظمات العسكرية على بدايات السياسات القومية، وعلى حركات النخب العربية المحلية، في عهد السلطنة العثمانية الأخير، شأن غلبة الصيغة العسكرية على المنظمات الحزبية التي خلفت الجماعات الأولى بين الحربين العالميتين، ليست الغلبة المزدوجة هذه إلا ترجمة مباشرة للخطابة الصراعية. أو هي الوجه السياسي العملي، والمعالجة السياسية العملية والتنظيمية لعلاقة المجتمعات العربية المحلية بالسياسة. ويشترك في هذه المعالجة العمل "الإخواني" المصري، والمنظمات "القومية - الاجتماعية" الشبابية على اختلاف مشاربها ونوازعها وطوائفها، والأحزاب الشيوعية السرية. واتفق هذا النازع، العملي والنظري، مع توحيد صياغة أوروبية كثيرة المصادر، السياسةَ بالصراع، وحملها الاثنين على واحد، وذلك على نحو معلن وصريح. فبين اختصار السياسة في صراع الطبقات الاجتماعية على صعيد وطني ومحلي، وعلى صعيد أممي وعالمي، وبين اختصارها في صراع الأمم والشعوب والدول وفي حروبها الإقليمية القارية والعالمية، توفرت علل كثيرة لتأبين السياسة الليبرالية والديموقراطية ووأد مزاعمها في تضمين العمل السياسي مشاغل اقتصادية واجتماعية وتربوية، على قول كارل شميت، الألماني وأحد كبار اصحاب هذا المذهب و"رفيق درب" الحزب القومي الاشتراكي أو الاجتماعي الهتلري الى حين انقلاب بعض قيادات الحزب عليه. وكتب كارل شميت - وهو تتلمذ على يد ماكس فيبير، دارس الاجتماعيات الكبير، وعرف بأعماله في الحق الدستوري وفي الحق الدولي وتاريخه وفلسفته - مقالة طويلة في تعريف السياسة وحدِّها وما ينبغي أن يُفهم بها، في 1928، ثم كتبها في حلة جديدة وأخيرة في 1932. واستعاد الكاتب مقالته القديمة في 1963، من غير تعديل. فأبقى على المقالة في "حدِّ السياسة" أو "حد ما ينبغي أن يفهم بالسياسة" إذا اضطر الناقل الى التطويل والإيضاح وزاد عليها مقدمة تستنتج مقالته المكتوبة قبل ثلاثة عقود ونصف العقد النتائجَ التي يدعو تغير الأحوال، غداة الحرب الثانية، الى استنتاجها في ضوء المقالة نفسها. وكانت المقالة تصدت لتناول مفهوم السياسة وماهيتها الفارقة على نحو جامع. واستبعدت حملَ السياسة على الدولة سبيلاً الى التعريف الجامع. فالدولة بدورها ينبغي تعريفها، على حين هي فرع على السياسة. فإذا قيل إن الدولة هي آلة في آلة السيطرة الماركسية ثم اللينينية، أو هي جسم عضوي وحي في التعريف المحافظ والتقليدي على مذهب بونالد أو جوزيف دو ميستر، أو قيل هي شخص على مذهب كانطي أو خلية على مذهب ماندفيل أو جملة إجرائية أساسية على المذهب الدستوري الأميركي، ذهبت هذه التعريفات مذاهب شتى في التأويل والدلالة والرمز، وأثقلت موضوعها بركام من الافتراضات والمصادرات. فلم يتيسر تخليص موضوع من ركام الأفكار السابقة ولا من حجاب المذاهب. وعلى هذا قد يكون من الأجدى، على ما يجزم الكاتب الألماني، قصد "الشيء في نفسه"، وعلى ما هو عليه بعد تعليق الأحكام. والدولة نفسها، من هذا الوجه، هي الحال الخاصة التي يوجد عليها شعب من الشعوب ويعود إليها الحكم النافذ في الأوقات الحاسمة والعصيبة. ولكن خصائص عبارة الدولة عن شعبها أو تمثيلها شعبها على معنى إخراج معانيه وقواه الى العلانية والفعل هذه الخصائص لا مناص من وصفها ب"السياسية". فإذا أضيفت السياسة الى الدولة، وحملت الدولة على السياسة، لم يخرج التعريف من الدور الذي يدور فيه. ولا يسهم قانون الجمعيات، حين يميز الجمعية السياسية من الجمعيات والروابط غير السياسية، في جلاء ما ينبغي أن يفهم بالسياسة، شأنه شأن الحق القانون الإداري الفرنسي حين ينزل أفعال الحكم، والداعي أو الباعث السياسي الذي يسوغها، منزلة غير منزلة أفعال الإدارة غير السياسية. فالقانونان يصدران عن افتراض إطار الدولة ودائرتها، ويفترضان هيئاتها الخاصة وتراثها الفقهي والاجتهادي. وتُعقل التعريفات والحدود هذه وتفهم على شرط قيام الدولة وكيانها المتميز والخاص بإزاء جماعات وشؤون ليست من متعلقات الدولة، ولا تدخل تالياً في باب السياسة. وهذه الحال تشترط بدورها تسلط الدولة وحدها على السياسة، على ما كان شأنها في القرن الثامن عشر الأوروبي القاري. فالدولة "المطلقة" لم تكن تقر للمجتمع بعد بدور الخصيم والضد "انتاغونيست"، وهو الدور الذي أقرت له به في وقت لاحق سُمِّي بالثورة الديموقراطية. والدولة إذا علت المجتمع، وانتصبت فوقه قوة متميزة ومنفصلة، على ما كان شأن الدولة بألمانيا طوال القرن التاسع عشر وشطر من القرن العشرين، وقفت السياسة حكراً عليها، ونفت منها المجتمع وهيئاته وأفعاله. فالحال تختلف اختلافاً قوياً إذا انتفى احتكار الدولة السياسة، وبطلت حيازتها لها حيازة مِلك ووقف. وإذا تشابكت شؤون الدولة وشؤون المجتمع، ودخل بعضها في بعض، وعادت أفعال الدولة على المجتمع بنتائج وتبعات متعاظمة، لم تصح مساواة السياسة بالدولة ولا معادلة السياسة بالدولة. فالطور الجديد من علاقة الدولة بالمجتمع أدى على نحو مشهود الى توسيع دائرة الشؤون العائدة الى الدولة أو الصادرة عنها. فلا تُختصر السياسة في ما كانت تباشره الدولة ولا في ما كانت تبادر إليه وتسوسه. فالكيان السياسي المؤتلف على مثال الديموقراطية ضم الى "السياسة" وأدخل فيها دوائر مثل الثقافة والتربية والاقتصاد والديانة. وكانت هذه الدوائر تتحصن من الدولة بحيادها أو بدخولها في عمل حرف وصناعات وأصناف، أو تحت معايير وموازين ليست من شأن الدولة ولا من شواغلها، على ما كانت الدولة تقر. ولكن المثال الديموقراطي أنشأ بين الدولة، المقرة باستقلال المجتمع وبندِّيَّته بإزائها، وبين هذه الدوائر والأنشطة علائق معقدة لا يختصرها الضم والإلحاق، ولا تقوم، من وجه آخر، على الانفصال. وعلى الضد من المثال الديموقراطي، وعلى خلاف الدولة المطلقة الأوروبية، نشأت مذاهب وحركات محدثة أوجبت وحدة الدولة والمجتمع في "الدولة الكلية"، على ما كان يكتب بعض الألمان في العقد الثالث وقبل شيوع صفة "الكليانية" التوتاليتارية وقبل دعوى موسوليني ثم هتلر في الصفة هذه. ويوم كتب كارل شميت مقالته كان الاتحاد السوفياتي، اللينيني والستاليني، المثال الأوحد لدولة تسوس قيادتها الحزبية والإيديولوجية الإدارة والاقتصاد والقوات المسلحة والتعليم والثقافة والعلاقات الخارجية والأسرة، بسياسة عامة واحدة تصدر عن موازين ومعايير مشتركة. ويذهب شميت، الحريص على نسبة الدولة الكلية" الألمانية، وهي جنين بعد، الى تاريخ أوروبي متصل ومتماسك الحلقات وهذا الحرص نازع من نازعين قوميين - اجتماعيين متدافعين، على ما ذهب إليه ارنست نولت، المؤرخ الألماني صاحب "الحرب الأهلية الأوروبية 1917 - 1945"، ومبتدئ "مشادة المؤرخين" الألمان، يذهب الى أن الديموقراطية ألغت كل الفروق بين الدوائر الاجتماعية التي أثبتتها الليبرالية في أثناء القرن التاسع عشر، ومحت مضادة الدولة والمجتمع وتقابلهما، وعادت عن إخراج دوائر التربية والاقتصاد والثقافة والحق من سلطان السياسة. وكان جاكوب بوركهارت، أحد كبار المؤرخين الألمان في القرن التاسع عشر وأعمقهم أثراً في ثقافة كتابه ومفكريه ومنهم نيتشه، ذهب في 1870 الى أن خاصية رؤيا العالم الديموقراطية هي نازعها أولاً الى تعظيم سلطان الدولة على الفرد. فلا يحجز حاجز بين الدولة، المتمادية في اضطلاعها بكل شأن من شؤون أفراد مجتمعها، وبين المجتمع الذي عَدِم أفرادَه وروابطَهم المستقلة. ويترتب على هذه الحال التي وصفها بوركهارت على نحو لن ينكره أمثال ميشال فوكو غداة قرن على وصفها، يترتب عليها "تناقض داخلي" ينهش الديموقراطية ودولتها الدستورية الليبرالية. فعلى الدولة، بحسب دستورها هذا، أن تنفذ خطط كل الأحزاب السياسية من غير أن تتخطى دورها غلافاً مرئياً للحياة البورجوازية، وعليها أن تضطلع بما لا يحصى من الشؤون والأعمال شريطة ألا تبادر الى أقل أمر وأصغره، ولو كان هذا الأمر هو دوامها على صورتها الدستورية. ف"الدولة الكلية"، في ضوء تشخيص المؤرخ الألماني، إنما هي تحقيق النازع الديموقراطي المناهض لليبرالية الفردية والاجتماعية، أو هي "تجاوز التناقض الداخلي" الديموقراطي الليبرالي. ولعل أول ما يترتب على التجاز المزعوم هذا هو إلغاء استقلال العمل الاقتصادي بنفسه وشؤونه عن الدولة والسياسة، وإلحاقه بالدولة وبسياستها الواحدة والجامعة، على ما كان يحصل، في 1928 - 1932، في المدن والأرياف الروسية تحت نظر بعض عالم أوروبي وأميركي غير مصدق هول ما يرى وفظاعته. ولا يتهيب الحقوقي الألماني الفظاعة والهول هذين بل يرفعهما الى مرتبة الأصول الخصوصية. فيرسي باب السياسة، وما يدخل تحت هذا الباب وفيه هو "السياسي"، على معايير تفرده من مضامير أخرى يُعمل البشر فيها فعلهم وفكرهم مثل "علم" أحكام العمل أو الأخلاق والجماليات علم أحكام الحس والذوق والاقتصاديات علم أحكام التدبير "المنزلي". وينبغي أن ينفرد باب السياسة بهذه المعايير، على ما سبق لميكيافيلي أن اشترط. فتُحمل أشياء الباب عليه من غير اشتباه ولا التباس. ويقوم التعريف أو الحد منها مقام هويتها، ومقام إثباتها على هذه الهوية. فلا تستنتج من أصل آخر. وليست نظير مضمار نشاط فريد وموقوف عليها يسبقها فتتوجه. والحق أن هذا التحوط المنهجي ليس نافلاً، بل يدعو إليه نقد كارل شميت "التناقض الداخلي" الديموقراطي، وحرصه على نسبة الدولة الكلية الى الديموقراطية المتحررة من "الجرثومة" الليبرالية والدستورية. فالحقوقي الألماني الكبير لا يعادي الديموقراطية، ولا يرى بينها وبين السلطان الشعبي والاجتماعي القوي نفوراً. فالسياقة الديموقراطية، على حسب ما يقرأ شميت التاريخ السياسي الألماني، هي سيرورة اندماج المجتمع المتفرق في دولة واحدة ومتماسكة. والمجتمع ينجز في الدولة دمجه أجزاءه بعضها في بعض، ويجلو نفسه واحداً كلاً في دولة. وتضطلع الدولة باستقطاب قوى المجتمع الحية وحشدها أو دمجها في "كل" الدولة، على قول هيغلي مشهور تناقله نقاد الليبرالية من ألمان وغير ألمان. فإذا سبقت الدولة المجتمع، أو انفصلت عنه وتعالت، على ما هي حال الدولة المطلقة، ولم تقر له بدور الخصيم والضد والند، قصرت عن الاضطلاع بالكل الاجتماعي والتاريخي، ونكصت عن دمج أجزائه وموارده وقواه، على ما تطمح، في كل مندمج ومتماسك. فسياسة الدولة الكلية المحدثة والمعاصرة ليست سياسة الدولة "الشرقية"، ولا شبه بين الاثنتين إلا خارجياً وعرضياً. وما يسعى فيه أنصار الدولة الكلية هو "تجاوز" الدولة الديموقراطية الأوروبية، ونسخها، على معنى تضمين الناسخ ِالمنسوخَ، وإتيان الناسخ بأحسن من المنسوخ. ولا يتم هذا بالعودة الى الحال التي كان عليها المجتمع والدولة قبل انتصاب الدولة الديموقراطية، على تأويل شميت وغيره، ولياً تاماً أو وليِّ عين، إذا جازت العبارة، وليس ولي كفاية على المجتمع، وإقرار المجتمع للدولة بالولاية. فينبغي، على هذا، أن تسبق السياسة الدولة، بحسب مراتب المعقولات والعلل، وأن يستقوي إنشاء الدولة بالسياسة، ويستظهر بعلو مرتبتها. وينبغي أن تسوغ السياسة نهج إنشاء الدولة. فلا يُحتج على السياسة بحجج خلقية أو جمالية أو اقتصادية نفعية أو بحجج عقلانية. وهذا مسوغ صدور حد السياسة عن معيار مستقل بنفسه، على ما يشترط شميت. وهو مسوغ اشتراط صاحب المقالة كذلك ألا تحمل السياسة على نظير تجريب مضمار من مضامير الفعل الانساني. فالحمل على التجريب والاختبار يبطله تناول التجريب والاختيار من وجه غير الذي حُمل عليه النظير الجامع في المرة الأولى. وهذا، أي الإبطال، هو ما يحاول شميت أن يعصم منه حدَّه السياسة وتعريفه إياها. يحدُّ شميت السياسة بتمييز الصديق من العدو، والفرق بينهما. ومعنى هذا التمييز هو الدلالة على قطبي الوحدة والفُرقة، وعلى بعد الشقة ما بينهما. ولا يستقوي التمييز السياسي المحض هذا لا بحكم خلقي، ولا بحكم جمالي أو نفعي واقتصادي. فقد يكون العدو حسن الخلق، و"جميلاً"، وقد يكون الاتجار معه مجدياً ونافعاً. ولكن "يقع أنه الغير، وأنه الأجنبي الغريب". وهو "في حد طبعه، وفي وجوده نفسه" هذا الكائن الآخر، وهذا الغريب. فإذا وقعت المنازعات معه لم تُحل لا من طريق معايير عامة معروفة من قبل، ولا من طريق حكم محكِّم متجرد ومحايد. فالمتنازعان العدوان قادران، وحدهما ودون غيرهما، على حسم مسألة تتناول نفي واحدهما الآخر، وتتناول تالياً إيجاب الواحد "صورة وجوده" بإزاء الآخر، وحفظه هذه الصورة التي يحيا كلا العدوين، كل على حدة، بموجبها. وينعي الحقوقي الألماني على الليبرالية حملها العداوة على المنافسة الاقتصادية، أو على المطارحة الفكرية. ولو كانت السياسة مزيجاً من المصالح الاقتصادية ومن الأحكام والآراء لاقتصرت على المنافسة، من وجه، وعلى المناقشة والمطارحة، من وجه آخر. ولارتفعت الحرب، وارتفع الصراع النازع، على وجه الاحتمال، الى الحرب. فالعدو إذاً هو جماعة من الأفراد الملتحمين في مقابلة جماعة أخرى من الطبيعة نفسها، وعلى أهبة خوض صراع محتمل ضدها ولعل هذا التعريف هو ما نقله انطون سعادة، "القومي - الاجتماعي" اللبناني، أي "السوري" على زعمه، بكلمة "المتحد" في العقد الرابع، عرفه من طريق شميت أم من طريق الخطب المشهورة السائرة. وقطبا الالتحام الداخلي والنفور الوجودي من الأجنبي يجعلان الحرب احتمالاً قائماً على الدوام. وما الصراع، والحال هذه، إلا الحرب بالقوة، وقبل اندلاعها بالفعل وانفجارها. وإذا مثَّل المفكر الألماني على علاقة عدوين فيما بينهما اختار علاقة المسيحية بالاسلام، أي علاقة المسيحيين الأوروبيين بالمسلمين الأتراك في قرون الحرب الطويلة بين "الأمتين" وبعض شعوبهما ودولهما. فنبّه الى أن المحبة، وهي ركن الاعتقاد المسيحي، لم تحمل الذين تهددتهم الفتوح العثمانية بالأسر والسبي وترك ما كانوا عليه، لم تحملهم على التخلي عن أوروبا الجنوبية والشرقية الى المحاربين الأتراك عوض الدفاع عنها. فلو حارب المسيحيون الأوروبيون المسلمين الأتراك على صفتهم الدينية، وعلى هدي من اعتقادهم وإيمانهم، وأفكارهم، لما قاتلوا ربما. ولما ماتوا في سبيل "الوطن" على قول مؤرخ ألماني كبير عاصر شميت، وكتب في الوقت نفسه، وأعجب به هتلر قبل أن يهاجر الى أميركا مع غيره من المثقفين اليهود، هو إرنست كانتوروفيكز، ولما وجدوا داعياً يدعوهم الى مثل هذا الموت، ويسوغ مثل هذا الموت. ويخلص صاحب "حد السياسة" من هذا الى ان الضدية السياسية هي الضدية "العليا" والعظمى. وتدنو المنازعة من السياسة، وتدخل في حدها وتعريفها على قدر ما تنزع الى الرسو على تقابل الصديق والعدو. ويعود الى الدولة، وهذا تعريفها السياسي على خلاف تعريفاتها من طريق الاستعارات الآلية والطبيعية، وهي الوحدة السياسية المؤتلفة ائتلافاً عضوياً في كل وجميع، يعود الى الدولة "البت في الصديق - العدو". والدولة هي مرجع السياسة وجسمها لأنها الحاكم والقاضي في "الصديق - العدو". ولا ينكر الحقوقي الألماني، على رغم هواه الوحدوي والدمجي، أن الدول لا تخلو من "بعض المناقضة" أو الضدية. فالدولة الواحدة تنطوي على أحزاب كثيرة أو قليلة. وعلى هذا فالضدية الداخلية، داخل الدولة، وجه لا ينفك من مفهوم السياسة. ولكن الإقرار بهذا الوجه، وبتلازمه ومفهوم السياسة، لا يعدم أن يؤدي الى الإقرار باضطراب "الحسم في الصديق - العدو"، وبجواز اشتباه مثل هذا الحسم. ويترتب على هذا تداعي حد السياسة وبطلانه، على المعنى الذي حدّه عليه كارل شميت. والحق أن شميت ليس مخيّراً في الإقرار باضطراب مقالته في وحدة الدولة وإرسائها على الصديق - العدو. فألمانيا المعاصرة، ألمانيا العقد الثالث من القرن العشرين، مسرح حرب أهلية بين الحزب الشيوعيبين الحزب القومي - الاشتراكي النازي آذنت بالحرب الأهلية الأوروبية، أو "حرب الثلاثين سنة" الجديدة 1914 - 1945 على ما سماها ديغول قبل إرنست نولت بعقود. ولم ينجم عن وحدة الدولة الألمانية الإجماع المفترض على تمييز العدو من الصديق. فذهب ثلث ألمانيا الشيوعي الى أن العدو هو العدو الأهلي، "طبقة" أصحاب الاحتكارات الصناعية الكبيرة وورثة الإقطاع العسكري البروسي. وذهب ثلثها "القومي - الاجتماعي" "الاشتراكي" الى أن العدو هو "البلاشفة اليهود" الذين استولوا على روسيا و"عملاؤهم" الألمان. فزعمُ شميت أن وحدة الدولة تقلل من خطر الانقسام الحزبي الداخلي، و"تجمع بين الأضداد"، زعم يداري ما كان ذهب اليه من تقدم السياسة على الدولة، وتقدم شرعية السياسة على شرعية الدولة. ويحتاج شميت، ومن على مذهبه "الصراعي"، الى تقديم شرعية الإنشاء السياسي، ولو خارجاً على الدولة ومنقلباً عليها ومستولياً، يحتاج الى تقديم الإنشاء على الدولة القائمة والحاصلة والمؤتلفة من "أحزاب" وأهواء وجماعات. وهو ينسب المنازعات السياسية الداخلية، التي يصفها بالخصومات والمكائد الثانوية، الى الصورة البدئية والأصلية التي يتصور بها الصديق - العدو. ولكن الإجماع على الفرق الأول والأصلي هذا تبدد في الأثناء، أو هو قد يتبدد. والسبب في تبدده إنما هو زعم شطر من "الدولة"، على معنى شميت، الاضطلاع وحده ب"السياسة"، وخارج هيئات الدولة الدستورية والليبرالية. فيسع رجل السياسة "الحق"، المرشد والقائد الملهم "الفوهرر"، اعتبار الدولة، الألمانية على سبيل المثال، غير مستوفية للأمة الألمانية، وغير مطابقة لها. فيجوز للسياسي المنشئ والصراعي أن يضم النمسا "الألمانية"، على رغم استقلال شعبها بدولة دستورية، الى ألمانيا الكبرى. ويجوز له أن يضم الجزء "الألماني" من تشيخيا السوديت، والجزء البولندي سيليزيا، الى الشعب - الأمة. فالدولة، على المذهب "القومي - الاجتماعي"، وكارل شميت أحد ألسنته المأذونة، عَرَض خارجي وسطحي للأمة. والأمة هي مناط السياسة الصراعية، وليس الدولة. فهذه موصومة دوماً بالليبرالية والسطحية والنفعية الاقتصادية والعقلانية. ورأس خطايا الدولة قبولها الانقسام والأحزاب والكتل، ورسو وجه منها على الأفراد وميولهم وأهوائهم ومصالحهم، ولو أدى اعتبار هذه الى اضعاف الدولة السياسية. فالأحزاب عرض من أعراض ضعف الدولة وتقدم المنازعات الداخلية على صراع الأمم. وتنشأ الأحزاب، على مذهب المفكر الحقوقي والسياسي الألماني، عن دبيب هذا الضعف في أوصال الدولة، وعن تقديم المواطنين، جماعات وأفراداً، منازعاتهم الداخلية على الصراع الخارجي و"الأممي". ولكن الحرب الأهلية سياسة، على هذا المذهب. وهي تتفق وتعريف كل إنسان بأنه "مقاتل" أو محارب، وتعريف الحياة بالصراع أو "وقفة العز فقط" على قول انطون سعادة كذلك. ويخلص شميت الى نعي السياسة ورثائها، وهو الشاهد على بلوغها ذروتها على مذهبه. ولكن لم يفت شميت. وهو عمَّر الى العقد الثامن من القرن، انتقال حد السياسة، على ما عرفه، الى مجتمعات غير أوروبية استعادت قولاً وفعلاً اختصار السياسة في الحرب، وما يترتب على هذا الاختصار من فروع جوهرية مثل تمييز الأمة من الدولة، وافتراض وحدة الأمة، وتقديم السياسة الخارجية على السياسة الداخلية وازدراء التحكيم الدولي بموجب حق عام. فإذا اجتمع هذا، أصولاً وفروعاً، الى العجز عن الحرب، وامتناعها على المجتمعات التي تطلبها وتنيط بها سياستها، نجم عنه خليط بائس لا خلقة له. * كاتب لبناني.