عندما نشر الكاتب الروسي الكبير نيقولاي غوغول، في مرحلة متأخرة من حياته القصيرة، الجزء الاول من روايته الطويلة "الارواح الميتة" اعلن امام الملأ ان هذا العمل "الذي سيكتمل في ثلاثة اجزاء، انما الهدف الاساس منه ان يكشف للقارئ، طبيعة الانسان الروسي في مجمله، الانسان الروسي في مزاياه وضروب تراثه الاخلاقي التي تجعل منه كائناً متفوقاً على كائنات الشعوب الاخرى، كما في سيئاته التي، هي ايضاً، تعطيه في هذا المجال تفوقاً، لا مراء فيه، على الآخرين". نعرف طبعاً ان غوغول لم ينشر من روايته سوى جزءيها الأولين أما الجزء الثالث فكتبه، كما يقول لنا كاتبو سيرته، لكنه، بعدما انتهى منه، مزقه وأخفاه تماماً حيث لم يعد له اي وجود. غوغول نشر الجزء الاول في العام 1842، اي قبل رحيله بعشرة اعوام، ونشر الجزء الثاني - الذي ظل غير مكتمل على أية حال - بعد ذلك بعامين او ثلاثة. وهو كانت لديه اعوام عدة كان يمكنه خلالها ان ينشر الجزء الثالث الموعود، لكنه - كما رأينا - لم يفعل. فإذا ادركنا ان الجزءين الاول والثاني تحدثا باسهاب عن عيوب الانسان الروسي ونواقصه، كما رآها غوغول، وفهمنا ان الثالث كان يجب ان يتحدث عن المحاسن والمزايا، هل يمكننا ان نستنتج ان غاية غوغول الاصلية لم تكن اكثر من كشف العيوب. وان الوعد بالحديث عن المزايا كان كذبة كبيرة؟ نقاد ومؤرخون كثر يميلون الى هذا الرأي. وبالنسبة الى هؤلاء لم يكن غوغول من النوع الذي يمكنه ان يعثر على اية مزايا لدى اي كان. كان الرجل سليط القلم، حاد الاحكام، كما يجدر بأي كات خلاق ان يكون ومن هنا لم يكن غريباً ان يقول دوستويفسكي في مجال الحديث عنه "أن الرواية الروسية كلها انما خرجت من معطف غوغول". ومن الواضح هنا ان دوستويفسكي كان يقصد المعنيين: "المعطف" الفعلي الذي يشكل عنوان وموضوع واحدة من اشهر قصص غوغول، والمعطف بالمعنى الرمزي للكلمة. وحتى وان كانت قصة "المعطف" والى جانبها قصة "الأنف" الأشهر بين اعمال غوغول التي لا تزال حية وتُقرأ وتترجم حتى اليوم، فإن "الارواح الميتة" هي الاقوى. ولعله من الاكثر صواباً ان نقول انها واحدة من اهم الاعمال في تاريخ الادب العالمي. الرواية التي اسست، وقلدت، واعتبرت، الى مزاياها الادبية والرؤيوية، صورة قاسية، وانما صادقة، لفئة من الناس البورجوازية الصغيرة حين لا يوقفها شيء، ولا حتى أي رادع اخلاقي، عن تحقيق مآربها. والحقيقة ان اكاكي اكاكيفتش، بطل "المعطف" الذي يواصل البحث عما سرق منه حتى بعد الموت، والماجور كوفالوف بطل "الأنف" الذي افاق يوماً ليجد انه فقد انفه، فيما الانف يرقد هانئاً داخل شطيرة يأكلها حلاقه، قبل ان تصبح له حياته الخاصة ويصل الى ان يصبح موظفاً - مستشاراً - في الدولة. الحقيقة ان هاتين الشخصيتين ستبدوان عاديتين، بل اقرب الى الملائكة. ان نحن قارناهما بالداهية تشيتشيكوف، بطل "الارواح الميتة". تشيتشيكوف، هو، كما سيتبين لنا عند امعاننا في قراءة "الارواح الميتة"، تجسيد حي للشيطان نفسه. فهو في الاصل ارستقراطي يقرر ذات يوم انه قد يجدر به، بدلاً من ان يضيع وقته في اللهو، ان يتحول الى مالك اراض. ومن اجل الوصول الى هذا نراه وقد تخلى عن وظيفته المتواضعة في مصلحة الجمارك، وراح يطوف الارياف والقرى والمدن الصغيرة ليشتري جثث الارقاء الميتين من اصحابها. لماذا؟ لأنه يريد ان يستفيد من اجراء رسمي يتيح له ان يقترض من المصارف اموالاً يكون حجمها على عدد ما عنده من ارقاء. لذلك فإن ما يشتريه - على الورق - انما هم الارقاء الذين ماتوا ودفنهم أسيادهم، من دون ان يُسجلوا في الاحصاءات الرسمية. بالنسبة الى الدولة هؤلاء الارقاء لا يزالون احياء. لذا ليس عليه الا ان يراكم جثثهم، ويقدم البيانات الى الدولة فيحصل على الاموال التي يريدها. اذاً، للتمكن من هذا يجول صاحبنا في الدساكر والارياف. وما نقرأه في الرواية انما هو حكاية تلك الجولات، لا اكثر. غير ان قلم غوغول، لا يتوقف عند طبيعة "المغامرة" التي يعيشها تشيتشيكوف، بل انه يتجاوز ذلك ليقدم من خلال حياة هذا الرجل وتصرفاته وصفقاته واتصالاته، صورة بانورامية هائلة ومرّة وثاقبة لمجتمع كان يعيش في تلك اللحظات مرحلة تحولاته الاجتماعية والاخلاقية الكبرى. فإذا اضفنا الى هذا ان ملاك الاراضي الذين كان تشيتشيكوف يلتقيهم، ليشتري ما لديهم من جثث، كانوا يعانون في تلك الفترة بالذات انتشار الاوبئة والمجاعة التي قضت على املاكهم ودمرت اوضاعهم الاقتصادية، يطالعنا كم ان هذا الدمار انعكس ايضاً على اخلاق المجتمع. ومن هنا، لا يعود وجود الشيطان/ تشيتشيكوف سبباً في تحريك الاطماع، بل يصبح هذا الوجود مجرد الكاشف الذي ينم عما يعتمل في اعماق طبقة بأسرها خلال مرحلة هبوطها الى القعر، الهبوط الذي يتحول هنا هبوطاً الى الجحيم. ان جولات تشيتشيكوف ولقاءاته، تتيح لغوغول، ان يتوقف مطولاً عند الكثير من النماذج الاجتماعية، التي ما ان تقترب الصورة منها حتى تنكشف ضارية جشعة متكالبة. عبر ذلك كله، من المؤكد ان غاية غوغول في هذا العمل، لم تكن ابداً - كما قد يخيل الى البعض عند القراءة السطحية ل"الارواح الميتة" - التنديد بنظام الرق. كانت غايته تتجاوز ذلك كثيراً لأن الرواية، كما سينظر اليها دارسون اكثر تدقيقاً، انما هي رواية البشرية بأسرها. فبالنسبة الى غوغول لا يقوم الامر على ان الانسان خيّر بطبعه، يفسده المجتمع، بل على العكس: الانسان في جوهره شرير، يضبطه المجتمع، وهكذا ما ان يفلت من عقاله والضوابط حتى يكشف ما عنده. وما عنده، كما تقول لنا "الارواح الميتة" انما يقدم صورة متشائمة للبشرية ومصيرها. عندما كتب غوغول الجزء الاول من "الارواح الميتة" ونشره، كان في الثالثة والثلاثين من عمره، وهو لم يعش على أية حال سوى ثلاث وأربعين سنة. غير ان تلك السنوات القليلة كانت كافية، بالنسبة اليه، لكي يقدم عملاً ادبياً استثنائياً، وضعه، خلال حياته، ثم خصوصاً بعد رحيله، ولا يزال حتى الآن، في الصف الاول من بين كبار المبدعين الروس في مجال الادب النثري حتى وان كان هو قد فضّل ان يعرف "الارواح الميتة" بأنها "قصيدة" كما نشر على غلافها وتحت عنوانها. وغوغول الذي ولد العام 1809، تحت اسم نيقولاي فاسيلفتش غوغول، ابن لعائلة من ملاك الاراضي في اوكرانيا، اتجه الى الادب والفن باكراً. لكنه بعد ان خاض تجربة مسرحية بائسة وهو خارج لتوه من سن المراهقة، التحق بوظيفة حكومية، ثم مارس التدريس. وفي العام 1831 نشر عمله المهم الاول "سهرة في مزرعة قرب ديكانكا" فلفت اليه الانظار. وشجعه ذلك على كتابة رواية "ناراس بولبا" التي حققت نجاحاً في العام 1834 فاق كل تصوراته. لكن صدور الرواية ادى الى طرده من التدريس الجامعي فتنفس الصعداء وقرر ان يكرس وقته كله للكتابة، خصوصاً انه كان بدأ يرى ان يمكنه عبر كتابته انه يقارع الشر والفساد لدى الفرد وفي المجتمع. وهكذا راح ينشر قصصاً ابطالها اشخاص تافهون لا معنى لهم، ولا يلتفت اليهم احد، ومن ابرز تلك القصص "المعطف" و"الانف" و"الصورة"، وخصوصاً "يوميات مجنون". ثم في "المفتش العام" 1836 تلك المسرحية الفذة، وصل الى شجب الاساليب الادارية والسخرية منها. وبعد ذلك كانت روايته الكبرى "الارواح الميتة" التي كرس لها 15 عاماً من حياته، وبدأ يصيغها بعد رحلة قام بها الى ايطاليا. لاحقاً، وبعد نشر جزءي الرواية حج غوغول الى القدس، وعاد وقد تملكته هواجس صوفية راح يمارسها فأخلت بتوازنه العقلي ودمرت صحته الجسدية، فمات شاباً وحيداً منعزلاً، غير قادر على الكتابة اكثر، ولا حتى على ان يحلم بغد الانسانية.