"إنها حداثة التخلف" هذا هو الوصف الذي أطلقه نيوكلاي غوغول عن المدينة وكم نحتاج لهذا الوصف الإنساني في عصرنا الحاضر لنقيم حضارة المدن المادية المتوحشة. غوغول في زاويتنا اليوم لأنه من الشخصيات الثقافية المهمة التي ولدت في مطلع ابريل والذي حدث بولادته الكثير لعالم الثقافة. يختصر هذا قول ديستوفسكي "ان الأدب الروسي كله خرج من معطف غوغول" يقصد قصة "المعطف" الشهيرة. اثر غوغول في الثقافة الروسية في حياته وبعد مماته والقصص الطريفة والغريبة في ان قصة تسبب بها بعد وفاته بعمر طويل حيث سطا لص على منحوتة مرمية دون ان يكون للأسباب المادية علاقة بموضوع السرقة فالمنحوتة استلهمها فنانها الروسي من قصة "الأنف" لغوغول والتي تحكي عن الرائد كوفاليف الذي تنتابه حالة من الهستيريا، وهو يبحث عن أنفه الذي اختفى في عاصمة القيصر بينما يعيش الأنف حياة خاصة به ويرتكب الحماقات. تمثل هذه القصة تحولاً في الأدب الروسي وبالطبع تحولاً في حياة اللص المتذوق للأدب! نستطيع تبين هذا المستوى من التأثير حين نقرأ رسالته إلى أمه وهو بعد طفل يقول فيها: "يعتبرني الجميع غريباً، لغزاً لم يستطع أحدهم فك رموزه. لك أن تسمينني كيفما تشائين. ولكن، ثقي ان المشاعر النبيلة تملأ دائماً كياني، وصدقي أنني سأبقى طول عمري نصيراً للخير". منذ هذه الرسالة وثمة إشارة قوية إلى منهجه اللاحق المتعاطف بشكل جلي وحاد مع هموم الإنسان البسيط الكادح ومحنه وآلامه. ومنذها أيضاً والغموض رمزية تعلقت به وبأشيائه. لا أدل على تعاطفه مع الطبقة الكادحة من قصة "المعطف" التي تذكر قصة أكاكي أكاكييفيتش العجوز الوحيد والحزين حين ينصحه صديقه بشراء معطف لأن منظره بمعطفه الباهت غير لائق يفكر العجوز في خياطة المعطف الجديد بضعة أشهر. وأخيراً يشتري قماشاً ليصبح انتظار خروج المعطف من آلة الخياطة سعادة كبيرة لا توصف بالنسبة إليه يخرج المعطف الجديد، ويخرج العجوز إلى عمله به ليبدأ زملاؤه بإغداق المديح على المعطف، فتغمره السعادة، ويصبح فجأة للحياة نكهة جديدة لم يعهدها. تملأ السعادة نفس أكاكي أكاكييفيتش حين يدعوه رئيسه إلى بيته للاحتفال بالمعطف الجديد لكن سعادة الرجل تقتل على أيدي سارقين تعرضوا له في الطريق واغتصبوا منه معطفه الجديد وبعد إلحاح على رؤسائه ورجال البوليس من أجل استرجاعه، يتيقن العجوز انهم لن يرجعوا إليه سعادته/ (أي معطفه المسروق) فيفهم أنه أصبح مدعاة للسخرية. لذلك لا تستطيع روحه تحمل هذه الاهانات فيموت!! هذه هي إنسانية غوغول التي جعلت من البسطاء أبطالاً فعبرت عن المأساة الإنسانية مازجة اياها بسخرية حادة ونقد لمجتمع روسيا القيصرية. في شبابه نشر ديواناً شعرياً باسم مستعار/ "ف.الوف" لم يستقبله النقاد بأدنى حفاوة، لذلك أخذ غوغول يجول في كل الأنحاء التي تبيع ديوانه ليشتري النسخ منها ويعمل على إتلافها بنفسه كتاباً كتاباً. لم يعترف غوغول بهذا إلا بعد رواج كتابه: (الأرواح الميتة) الكتاب الذي دفع الناقد غيرتسين للقول: "لقد زلزلت رواية الأنفس الميتة روسيا كلها" والذي عزز غموضه المشهور بارتكابات كبيرة فادحة تبدأ من إحراقه للجزء الثاني من الكتاب، ذلك الذي عكف على العمل عليه لمدة تقارب العشرة أعوام!! انتهاء بلغز أكثر غرابة. فرغم شدة اهتمام غوغول بالإصلاح الاجتماعي والوعظ الأخلاقي واحياء الأرواح الضالة الأمر الذي انعكس بالطبع على معالجته للجزء الثاني من روايته وعلى صياغته وأفكاره وأثر بالتالي على المحافظين الذين صاروا يتوددون إليه، والنقاد والكتاب الواقعيين أمثال "بيلينسكي" الذين سخطوا عليه وكونوا ضده جبهة حرب، إلا انه تأثر أيما تأثر بأحد رجال الدين المتعصبين الذين وقعت نسخة الرواية بين أيديهم فأقنعه بعدم جدواها للناس حداً جعله يتردد على الأماكن الدينية تحثه نزعة أرثوذكسية أودت به إلى الانهيار فاقدا الايمان بجدوى الكتابة "التي يمقتها الخالق" بحسب زعم الذي أقنعه بأن عليه اتلاف الجزء الثاني ليكفر عن إثم كتابة الجزء الأول. بين موقف النقاد وموقف الدين منه تمكنت فورة الغضب من غوغول فأحرق نسخة التممة الوحيدة، ثم حين استبد به قنوط وإحباط أرهق جسده بصيام طويل وبصلاة لا تنقطع أملاً في راحة البال والسكينة. قال غوغول في تلك الفترة: "أنا لم أولد لأنال شهرة في عالم الأدب فمهمتي بسيطة هي إنقاذ روحي، ولابد أن تصدر أعمالي عن وحي من ضميري ويجب أن اكتب ما يمليه عليّ ضميري وأحرق ما يجب حرقه وأنا لا أقدم على شيء قبل أن أصلي!". ربما هذا ما يفسر كلماته الأخيرة قبل الموت حين قال: "سُلم، اعطوني سلما!" وكأنه يعتقد ان روحه ستصعد إلى السماء عن طريق "سُلم روحي"! وذلك في 1852/2/21م في اليوم الذي انتهى فيه لغز الجزء الثاني من الرواية الأسطورية إلى الأبد.