ساعد السياح الأجانب في مدّ جسور المصالحة بين الحلبيين وحماماتهم التاريخية الذائعة الصيت، بعد قطيعة امتدت زهاء نصف قرن، بإزالة حال الجفاء التي ولّدتها مظاهر الحياة العصرية، بعدما كانت حمامات "السوق" حاجة ملحة ومتنفساً حقيقياً حتى منتصف الخمسينات من القرن الماضي. وأفسح الإعلام في المجال أمام عدسات الكاميرا لتصوير الكثير من البرامج التي كانت مادتها الرئيسة الحمامات. وثمة مسلسلات تلفزيونية استمدت من حلب مكانها وزمانها ولهجتها تركت صدى ايجابياً لدى مشاهدي الفضائيات، وتطرقت الى الدور المهم الذي لعبته الحمامات في الحياة العامة ومكانتها في الذاكرة الشعبية، ما لفت أنظار شريحة واسعة من المجتمع الى إحياء تقليد زيارة الحمام وأصبح "موضة" لدى الشبان في شكل خاص، يتيح الاستمتاع بأكثر مفردات التقليد الاجتماعي إلفة وحميمية. يقول أحمد سرميني، مدير حمام يلبغا الناصري اللبابيدي، الذي تستثمره الشركة العربية السورية للمنشآت السياحية فنادق الشام منذ العام 1985 ويعتبر من أجمل الحمامات إذ يتاخم القلعة وتربطه بها سراديب ويعود بناؤه الى سنة 1365م، ان ارتياد السياح الأجانب للحمامات القديمة أعاد اكتشاف هذه المنشآت الصحية والأثرية المهمة وأعاد دورها الاجتماعي "حتى أن بعض السياح يزور حلب بغية التعرف الى حماماتها". تدل على ذلك لائحة معلقة في مدخل الحمام بخط أحد السياح تقول: "جئت الى حلب لزيارة حماماتها ولم أجد متعة تقابل هذه المتعة". ويوضح سجل الزوار انطباع عدد كبير من الزوار والشخصيات المهمة لدى زيارتهم الحمام. بلغ عدد زوار حمام يلبغا الناصري العام الماضي 17 ألف زائر، شكل الفرنسيون والبريطانيون والاميركيون النسبة العظمى من الأجانب، وتعددت أغراض الزيارة بهدف التعرف على هذا الصرح الأثري أو إقامة الدعوات والحفلات. وعادة لا يختلط الجنسان إلا في القسم "البراني" ولا يسمح للسوريين بذلك، كما يحظر تناول المشروبات الروحية، ويحبذ السائح التدليك واستخدام كيس التفريك وارتداء المئزر وهو اللباس التقليدي الخاص بالحمام. يشير حسام زكريا الضرير دليل سياحي الى أن المكاتب السياحية وضعت زيارة الحمام في قمة لائحة برامجها السياحية "بعدما لوحظ مدى الاهتمام الذي أبداه السياح الأجانب حيال ذلك". مما انعكس على زيادة عدد السياح السوريين إذ يرى ممدوح عزيزي، الذي يواظب على زيارة الحمام اسبوعياً ان "الاجانب نبهوا ابناء البلد الى أهمية الحمام، إذ أصبحت زيارته صرعة ومناسبة للترويح عن النفس"، لافتاً الانتباه الى أن الزيارة لم تعد بمثابة العيد كما منذ قرن من الزمن بالاستيقاظ باكراً وتجهيز لوازم الزيارة يوم الخميس "والأمر الوحيد الذي لم يتبدل هو مهنة "الفتاحة" التي باستطاعة حدسها تمييز النساء الثريات لتبق صنبور الماء الساخن مفتوحاً أطول فترة ممكنة للحصول على الإكرامية". بحسب قوله. ومن القواعد أن يبلغ عدد مرات الاغتسال 48 مرة بالتناوب بين الصابون والبيلون مادة غضارية في كل "زوم" مما يستلزم بقاء بعض النساء من الساعة العاشرة صباحاً الى الخامسة مساء موعد انتهاء الفترة المخصصة للنساء، يلي ذلك فترة مخصصة للرجال تستمر الى بعد منتصف الليل، باستثناء بعض الحمامات المخصصة للنساء. ويكره التعري ولبس المايوه وقراءة القرآن في "الجواني". ضرورات الحمام يعدد محمد وليد الهيب، الباحث والمتخصص في التراث، الحالات التي تستدعي الذهاب الى الحمام في المجتمع الحلبي: "تزور المرأة الحامل في شهرها الأخير الحمام وتجلس مدة طويلة قرب بيت النار لتسهيل عملية الولادة وتعود بعد أربعين يوماً من الوضع لتدهن جسدها بمادة الشدود وهي خلطة مركبة من العسل والزنجبيل وحبة البركة وتفيد في شدّ الجلد المترهل نتيجة الوضع، كما تدعو العروس في الليلة التي تسبق ليلة الزفاف ليلة الحناء المقربات منها الى الحمام حيث تصبغ الكفوف بالحناء وتنقش رسوم جميلة على سائر الجسد، ويفضل العريس دعوة الأصدقاء والأقارب الى وليمة في الحمام صباحية، يصاحب ذلك حفلة غنائية يشارك فيها مطربون يجيدون ألوان الغناء من أدوار وموشحات وقدود حلبية". تقام حفلات خاصة بجميع المناسبات في "البراني" وتقدم في الحفل أصناف الطعام التي تشتهر بها حلب بخلاف الأكلات الشعبية المفضلة لدى زيارة الحمام قديماً مثل الكبة النيئة والمجدّرة مع مخلل اللفت، وفي شكل عام الأطعمة التي تفتقر الى الدسم كالحبوب والنباتات إضافة الى خضار الجزر والخس. يزيد السيد الهيب: "من أهم التقاليد الاجتماعية أن يدعو الرجل الذاهب الى الحج أو العمرة المقربين منه الى الحمام لتوديعه أو يقيم الحاج حفل استقبال في الحمام لتهنئته بالعودة سالماً من الديار المقدسة". ويرى ان تغير بعض ملامح زيارة الحمام افقده بعض نبضه وحميميته المعهودة "استبدلت المقاعد الخشب بالمصاطب الحجرية وخزن الأمانات بالصناديق وحلت الحقيبة اليدوية محل البقجة التي تحوي الألبسة الخاصة بالحمام والتي من أهمها المئزر المقصب وطاسة الحمام والقبقاب واللكن إناء لنقع البييلون، ولم تعد تستخدم الدريرة التي تكسب الجسد رائحة عطرية بحسب مكوناتها العطرية الطبيعية الداخلة في تركيبتها، كما حلّت المنظفات العصرية محل صابون الغار". يذكر ان عدد حمامات حلب بلغ 194 منتصف القرن 18م. وهو ما لم تستأثره أية مدينة في العالم، كما ذكر الباحث الفرنسي جان سوفاجيه في كتابه عن حلب، وانعكس ذلك على تحسن الصحة العامة لاكتساب الحمام وظيفة دينية الاغتسال اضافة الى وظيفته الترفيهية "في حين لم تعرف قصور ومنازل أوروبا الحمامات كما في قصر فرساي حتى القرن التاسع عشر" بحسب سوفاجيه. ولم يبق الآن سوى 18 حماماً أثرياً منها حمام النحاسين والبياضة وباب الأحمر والسلطان إضافة الى 33 حماماً جديداً. ويقسم الحمام الى 3 أقسام وفق الطراز المعماري القديم وهي "البراني" الذي يحوي مشالح التعرية ومشاجب ومصاطب للجلوس وبركة ماء تقام حولها الحفلات، ويصل "الوسطاني" بين البراني والجواني وتحيط به خلوات صغيرة تحتوي على صنبوري الماء البارد والساخن، أما القسم "الجواني" فيضم خلوات وإيوانات ليوانات وحمام السونا وبيت النار لذلك لا ينصح بالخروج مباشرة الى البراني من دون الاستراحة في الممر المؤدي اليه تجنباً للإصابة بالرشح والزكام.