العمل الحقوقي يقع في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. وتالياً نشير الى التباس التشابك المعقد بين الديموقراطي - الحقوقي من جهة والديموقراطي - السياسي من جهة أخرى. حيث ان الديموقراطي والحقوقي الديموقراطية وحقوق الإنسان متشابكان مع السياسي، لكننا نجد ان على الحقوقي الانفصال وابقاء مساحة كافية تقيه من الاختزال الذي يصيب الديموقراطي في ترابطه السابق. ان احد التجليات الأساسية للديموقراطية هو المساواة السياسية التي تعني التعددية الحزبية حرية تشكيل الأحزاب وتداول السلطة. هذا التجلي الذي يعني المجتمع السياسي فحسب وليس المجتمع ككل. وبالتالي فالعمل الحقوقي - كما عرفناه سابقاً - يمكنه ببساطة ان يدافع عن المساواة السياسية، عبر دفاعه عن حرية الرأي والتعبير بتجلياتها كافة من دون ان يكون معبراً عن المجتمع السياسي كطرف من ثنائية بل من موقعه كمعبر عن المجتمع. فالعمل الحقوقي كما نراه شاملاً بينما الديموقراطي جزئياً. وقد تفاجئ نتيجتنا هذه الكثيرين وتحديداً ممن ينتمون الى المجتمع السياسي. ان لهؤلاء الحق في اعتقادهم، فالديموقراطية كمفهوم شائع ومتداول يتسع ليشمل الحق الفردي والحق العام. غير انه في الممارسة والتطبيق يتقلص ليحتفظ بمعناه السياسي لأن الديموقراطية بالأساس ليست نمط حياة اجتماعية بل هي نمط حياة للمجتمع السياسي فحسب، ولأن الوعي الديموقراطي غائب عند العامة، والنخبة وحدها هي التي تمنح للديموقراطية معناها وتلبسها الأثواب التي تريد. وهذه النخبة المسيسة والمنتمية على الأغلب تحتفظ لنفسها بالحق في شكل استخدام المفهوم ضد الخصوم وذلك بدعوى اشراك الجمهور في لعب دوره وممارسته لحقوقه. ذلك الجمهور الغائب على الأغلب لأنه لا يمتلك الحد الأدنى من الوعي الديموقراطي الذي لا يمكنه الوجود إلا كنتيجة للانتماء الى جماعة، فالانتماء هو الشرط اللازم والضروري للوعي الديموقراطي. وهنا يجب التفريق والفصل بين انتماء فطري - غريزي وانتماء يجسد الحس بالمسؤولية والمواطنية. الديموقراطية بهذا المعنى نخبوية فهماً وممارسة. وهنا لن نستفيض في مناقشة وبحث وضعية موصوفة ومعروفة هي الفهم السطحي لمعنى الديموقراطية والجهل التام لدى الجمهور في ما يتعلق بموضوع حقوق الإنسان، ولدى النخبة أحياناً. والسطحية التي أعنيها هي تعبير عن الانقسام الحاصل في ثنائية "الحق - الواجب" وغياب القسم الثاني في الحياة اليومية على الدوام. ان غياب الواجب أمام طغيان الحق أمر طبيعي تماماً وله ما يبرره تاريخياً وسيكيولوجياً، لكن لا يمنحه الصحة أو الشرعية. فالحق كما نعرف جميعاً يرتبط في أغلبه بالأولويات الحياتية التي تشكل قاسماً مشتركاً بين كل شعوب الأرض ونقصد: حق العمل والحصول على لقمة العيش، حق التداوي والاستشفاء، حق التعلم، حق الانتقال... الخ. بينما يأتي الشعور بالواجب كحال تالية ليس فقط بالمعنى الشخصي بل بالمعنى التاريخي أيضاً. وهو توأم الثقافة وبالتالي وليد المراحل المتقدمة من الحضارة الانسانية. ان الخلل الذي يحكم ثنائية الحق والواجب ينعكس بالضرورة على الممارسة الديموقراطية ويمنحها سمتها. ومن هذه الزاوية تبدو الحكومات - في مجتمعاتنا العربية على الأقل - أكثر ديموقراطية من شعوبها ويعود السبب في ذلك الى أمرين، أحدهما خارجي فرضته العلاقات الدولية في ما مضى وتفرضه العولمة في الوقت الراهن. وثانيهما، داخلي لعب السياسيون واحزابهم دوراً كبيراً في تعزيزه وابرازه كمفارقة عبر تاريخنا الحديث وذلك بإزاحة الجماهير من ساحة الفعل الحقيقي الذي يؤكد وجودهم كمواطنين وليس كرعايا. فالأحزاب السياسية التي تتموضع، وتموضعت تاريخياً، خارج دائرة صنع القرار المعارضة حاولت على الدوام دفع جمهورها الى مقاعد الاحتياط واقناعه بلا جدوى أي نشاط أو تحرك من شأنه اشراكه في الايقاع العام للحركة الاجتماعية مع ان السلطات ما كانت ستسمح ولن تسمح بإشراكه إلا على طريقتها، لكن حال التسليم هذه وعبر عقود من الزمن شكلت ذهنية مشوهة ومريضة في ما يخص التعاطي مع معنى المواطنية والواجب وكأنما هناك تسليماً من قبل هذه الأحزاب بملكية السلطة للوطن لا بكونها مسؤولة عنه ان السلطات العربية تعاملت فعلاً مع أوطانها على انها شركات خاصة أو اقطاعيات في أحيان كثيرة ولكن بحث هذا الموضوع لا يندرج في اطار ما نناقشه الآن. وأصبح مطلب تداول السلطة الذي هو أحد أهم المطالب الديموقراطية ملغياً حتى على الصعيد النظري، وحل بديلاً منه نطق التناحر الذي لا يعني في لغتنا العربية سوى سفك الدماء. لسنا بصدد الدفاع عن أي شكل من أشكال السلطات التي حكمت مجتمعاتنا العربية كما اننا لسنا بصدد الادانة فهذا الأمر بعيد من بحثنا الآن والذي هدفنا اليه من استطراداتنا السابقة هو الوصول، والأصح محاولة الوصول الى أسباب الفهم القاصر في التعاطي مع الشأن العام وكأنه على الدوام فعل من أفعال السلطة ومسؤولية من مسؤولياتها فقط. لننتقل بعدها الى البحث في موضوعة الحق الفردي وآليات تحقيقه وتعزيزه، إذ لا حق فردياً من دون حياة ديموقراطية ولا حياة ديموقراطية من دون وعي هذا الحق. وحينما نتكلم عن حق فردي، نقصده مرتبطاً ومتلازماً مع الواجب الفردي وسنبدأ من الواجب لنعود الى الحق. في المجتمعات ذات النظم الديموقراطية يفوز الرئيس في الانتخابات إذا حصل على نسبة تزيد على 50 في المئة من مجموع أصوات الناخبين هذا يعني ان نصف الناخبين إلا قليلاً ليسوا موافقين على ان المنتخب يمثلهم لكن لا يعني انه لا يرأسهم، وان حزبه هو الحزب الحاكم الذي سيطبق برامجه السياسية والاقتصادية خلال فترة حكمه على الجميع، ولا يعني أيضاً انسحابهم من المشاركة الفاعلة في الحياة العامة لأن الشعور بالمواطنية كمسؤولية بالدرجة الأولى لا ينتهي ولا يتوقف عند كون الناجح هو مرشح الناخب أم لا، بل عند كون الوطن ما زال وطناً. فالوطن ليس ملكاً لأحد والنجاح مسؤولية لا امتياز. ما هدفنا اليه من المثال السابق هو مقاربة معنى المواطنية من دون مقارنة. والغاية من هذه المقاربة هو فتح باب التساؤل عن الامكانية في أن نبدأ بتعزيز معنى المواطنية ومعنى الانتماء من طريق الحق والواجب لا من طريق الشرط السياسي ونقصد بالضبط نشر ثقافة حقوق الانسان وتعميمها بشروط وآليات جديدة لا كهم سياسي تقوم به الأحزاب من منطلق تحريضي - تناحري هدفه اضعاف السلطة وحلمه اسقاطها، انما من زاوية اعداد المواطن ليكون شريكاً حقيقياً في صنع مستقبله وعندها يكون ارضاً خصبة حتى لعمل الأحزاب السياسية. لكن المؤسف ان الأحزاب السياسية في مثل هذه الحالات تقف ضد الجمعيات والمنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان التي تعمل في بلدانها. والسبب هو العقلية الغنائمية التي تحكم آليات عمل هذه الأحزاب والتنافس غير الشريف الممارس في تحزيب المواطنين. لذا تكثر مظاهر التخوين والاتهام بالعمالة والارتباط بجهات مشبوهة الى آخر هذه السلسلة من تجليات العقل الاستبدادي. وهنا لا بد من تسجيل نقطة ايجابية ل"لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في سورية" التي بدأت تتوجه نحو تعميق ثقافة حقوق الإنسان بين الجماهير عبر محاولة اقامة دورات تأهيلية وان لم تتم الدورة التي أزمعت اللجان اقامتها في الشهر الرابع من عام 2001 لعدم موافقة السلطات غير المقنعة أو المبررة على الاطلاق اضافة الى الدراسات والمقالات والمعلومات التي تنشر في مجلة "امارجي" الصادرة عن هذه "اللجان" التي من شأنها ان تعمق ثقافة حقوق الإنسان لدى الناشطين فيها ولدى المواطنين العاديين. ما قصدناه في حديثنا عن الواجب يعني ان انتماءنا الى الوطن وتأدية واجباتنا تجاهه كأفراد لا يتعلق أبداً بصفة الحكم ونوع السلطة بل يجب ان يحكمه الانتماء، الانتماء فحسب. وفي الانتقال الى الحق علينا العودة الى الاختزال السياسي الحاصل للديموقراطية وملاحظة ان حقوق الإنسان تنفصل عن متلازمة ديموقراطية حقوق الإنسان في أحيان كثيرة. إذ ان كل الأحزاب السياسية تطرح الديموقراطية كمطلب أساسي، لكن إذا اكتشفنا عمق هذا المطلب نجده يتناقض مع بعض حقوق الإنسان الأساسية. وحينما نتعمق أكثر لا بد من ان نكتشف ما يجعلنا نطرح سؤالاً على درجة كبيرة من الأهمية هل هذه الأحزاب ديموقراطية في علاقاتها الداخلية؟ وقبل الاجابة يتولد سؤال آخر كيف يمكن تفسير وجود ثلاثة أحزاب تتكئ على مرجعية واحدة؟ وحينما نبتعد قليلاً في دراسة المحمولات اللاسياسية للديموقراطية نكتشف ان بعض الأحزاب لا يعني لها الديموقراطية سوى الحق في تداول السلطة. فالأحزاب الدينية التي تطرح الهم الديموقراطي ومنه حقوق الإنسان لا بد من ان تقع في تناقض فاضح حتى قبل ان تكون في الحكم وانما في أي اختبار حقيقي لبرامجها السياسية والاقتصادية لأن هذا التناقض بنيوي محض وهو جزء من المرجعية الايديولوجية لهذه الأحزاب. إذ ان حرية الرأي وحرية المعتقد وحقوق المرأة على سبيل المثال لا الحصر هي مكونات أساسية لحقوق الإنسان لكن نجد انها تغيب تماماً مهما كانت المناورة عن روح الأحزاب الدينية ومنطلقاتها. فالاتهام بالالحاد والكفر ومعزوفة الارتداد الذي عقوبته القتل وايديولوجيا الكائن الناقص التي تحكم حياة المرأة، كلها مسائل من صلب طروحات الأحزاب الدينية حتى وهي لم تستول على السلطة بعد ومن أشد حالات حرمان الإنسان من حقوقه نصوعاً. وللتأكيد خطورة الاختزال السياسي للديموقراطية وحقوق الإنسان لا بد من التوقف عند جانب آخر من الحقوق التي يتمتع بها المواطن والتي يغامر بها في حمى المطالبة بالحق السياسي. الا وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فالديموقراطية بمعناها الاختزالي مشروطة باقتصاد السوق وبالتالي تحديد سلطة الدولة وتدخلها في تسيير اقتصاد البلد. الأمر الذي ان حدث سيحرم المواطن من كل شيء مجاني أو شبه مجاني وهنا سيكون الرابح اثنين: البورجوازي وقادة الأحزاب، الأول بسيادته المطلقة والثاني بتعاظم الأمل، وبينما سيقف المواطن الذي وجد نفسه محروماً من كل شيء ليقول: ألم يكن هناك من حل آخر؟ ان ما سبق لا يهدف الى ادانة أحد كما لا يهدف في الوقت ذاته الى تبرئة أحد. انه مدخل بسيط لطرح سؤال كبير ومعقد تحتاج الاجابة عليه كثير من الحوار والجدل والبحث في اطار من القيم والنيات الصادقة التي تنشد الاجابة فعلاً وليس تعقيد السؤال أكثر، أليس هناك من حل آخر. * باحث سوري.