يقول الفيلسوف الجزائري (مالك بن نبيّ): «الحق ليس هدية تُعطى، ولا غنيمة تُغتصب. وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب. فهما متلازمان. والشعب لا يُنشئ دستور حقوقه إلا إذا عدّل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي. (شروط النهضة – 1948). والحق مفهوم تشريعي وإداري واجتماعي، يمكن تفصيله أو تأويله حسب موقع الإنسان أو حسب السلطة أو القوة أو الضعف الذي يكون فيه الإنسان. والواجب أيضاً يتحدد ضمن أطر تبدو أحياناً واضحة -كما هو الحال في قوانين التوظيف والإدارة والعقود- لكنه أيضاً «يتأوّل» حسب ظروف البيئة والجوار السياسي والاجتماعي وحسب قوة السلطة. فالمواطنة حق! لكنها غير محددة؛ ليس في الأطر التشريعية فحسب، بل في الممارسة اليومية في الدوائر الرسمية وداخل العقول التنفيذية. فما يراهُ المواطن حقاً في ممارسة مواطنته يراهُ آخرون خروجاً على المألوف، ولربما «تحريضاً» ضد الصيرورة الحتمية التي قام عليها نظام المجتمع -غير المدني- ورتبّ أوضاعه التشريعية والمفاهيمية والاجتماعية عليها. كثيرون في العالم العربي ربطوا المواطنة بالوطنية! وخلطوا المفهومين لاعتبارات سياسية ومصالحية بحتة! ولترويض المجتمع. فجاءت الأهازيج «الوطنية» مرتبطة بالعَلَم أو الصورة أو النشيد الوطني. في الوقت الذي تم فيه تهميش المواطنة، التي أهم بكثير من الوطنية، فيما يتعلق بصيرورة الإنسان ومستقبله. تشير الموسوعة البريطانية إلى أن المواطنة (هي علاقة فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، فالمواطنة تتضمن مستوى من الحرية تصاحبها مسؤولية مناسبة). ولذلك يعرّف قاموس علم الاجتماع المواطنة -من الجانب الاجتماعي- بأنها مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدّم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق القانون. أما في الجانب النفسي فتُعرّف المواطنة بأنها الشعور بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية، التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسية وحماية الذات من الأخطار المصيرية (عيسى الشماس – المجتمع المدني -2008). وللأسف فإن أغلب دول العالم الثالث لم يهتم بالمواطنة قدر اهتمامه بالوطنية. وصار حقاً أن يتمسك ويتظاهر المواطن بوطنيته دون تركيز أو اهتمام بمواطنته. ولأن المواطنة (أو المواطنية) حق، فلقد تم تغييبهُ في عقول الشعوب، والحق -كما هو في مفهوم مالك بن نبي- ليس هدية تُعطى، فإن كثيراً من شعوب العالم الثالث انتظروا هذه الهدية طويلاً ولم تُعط لهم! وجانبُ (الواجب) في قضية المواطنة هو أن يمارس الإنسان (المواطن) مواطنيته بكل حرية ودون تفرقة بين مواطني البلد الواحد. ولقد قامت الثورات في أوروبا على ظلم الإقطاع وحكم الأباطرة نظراً للتفرقة بين المواطنين وعدم إعطائهم حقوقهم التي هي جزء من واجب المواطنة. ويُحذر فقهاء القانون -إشارة للتعريف السابق (الولاء والحماية – وقانون الدولة) من أن القانون يجب أن يشترك في صياغته المواطنون أو مندوبون عنهم، لا أن يُفرض عليهم من عَل. ذلك أن غياب تلك المشاركة (الحق) يعفيهم من الالتزام بالقيام ب(الواجب)، لأن كثيراً من مواد القانون يكون في صالح السلطة ضد المواطنين. كما أن كثيراً من تلك المواد يتعارض مع المواثيق الدولية، ولعل أهمها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادران عن الأممالمتحدة. فكما هو من حق الدولة التزام المواطن بالقوانين التي تُنظم حياة المجتمع، فإن من حق المواطن أن يتمتع بجميع حقوقه المتعلقة بسواسية المواطنية، والجنسية، والمسكن والسلامة الشخصية، والحريات العامة، والعدالة، والشخصية القانونية، واستقلال القضاء، والبراءة حتى تثبت الإدانة قانونياً، وعدم التدخل التعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو ممتلكاته أو شرفه. وأن تضمن له الدولة عملاً، وأن يختار حرية التنقل في أي مكان يشاء، وحق الزواج الاختياري، وإنشاء الجمعيات والاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده، وحق الحصول على راتب متساوٍ مع الآخرين الذين يقومون بنفس العمل، وحق الاشتراك في حياة المجتمع الثقافي والتمتع بنظام اجتماعي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.لكننا نلاحظ أن بعض القوانين يتعارض مع هذه القيم الواردة أعلاه، ومع المعاهدات الأخرى الضامنة لحقوق الإنسان، وهذا يتناقض مع مسألة الحق والواجب. من هنا قامت الثورات في أوروبا، ومن بعدها -ولو متأخراً- جاء الربيع العربي، لأن الحقوق لم يتحصل عليها المواطنون، ولم يحاولوا اغتصابها، لأن الشعوب لم تساهم في وضع الدساتير التي هي عادة ما تأتي بعد تعديل الأوضاع الاجتماعية، والتي لم تسمح الأنظمة بذلك. لذلك ساد الظلم والقهر والاستعباد، وغابت المساءلة -رغم وجود برلمانات صورية يسيطر عليها الرئيس وحزبه- وصودرت الحريات، وتم زج المواطنين المطالبين بالعدالة في السجون دون تهم، حيث غاب الحق وتلاشى الواجب، تماماً كما سيطرت الوطنية «الزائفة» على المواطنة الحقة.