في قريتي العالية، الحارات هي للنساء والساحات للرجال. هذه القسمة عامة وكلاسيكية: الرجال في المكان العام والنساء في البيوت وحولها... الذكر القوي في مركز القرية والأنثى الضعيفة في أطرافها المخفيّة. لكن هذه القسمة لا تبدو بالنسبة الى قريتي سوى تركيبة لا تتماسك إلاّ في الكتب والأبحاث المختصة بتحرير المرأة... ولا أعتقد ان ما يدفعني الى هذا الاستنتاج هو ما يُقال ويُروى عن قوة نساء قريتي التي تصل الأخبار فيها الى حدّ الخرافة، خصوصاً إذا ما جاءت الرواية من أهل القرى الأخرى، أكانت تلك القرى الصغيرة المجاورة لقريتنا والتي لا تطيق مفاخرتنا بمركزيتنا أو تلك التي تزايد على قريتنا بمفاخرتها بمركزيتها ولا تطيق المنافسة الجردية. كل هؤلاء يحاولون النيل من قوة نسائنا "وقبضنتهن" معتبرين ان هذه الخصال الحميدة لا تعود كذلك متى زادت عن حدّها... انه كلام الحاسدين، ونساؤنا غير معنيّات بسلطة الساحات وهنّ متّفقات مع رجالهن في ذلك. * * * عند ساعات الصباح الأولى تكرج "فلومينا" بالروب الزهري الى مدخل الكاراج وتدير الموتور، فالكهرباء مقطوعة. تكرج ثانية الى حيث لوحة المفاتيح وتتأكد من ان البيوت التي دفعت الاشتراك تتلقّى حصّتها. تقف قليلاً للتحدث الى الكبيرات في السن اللواتي استفقن باكراً ليكنسن حول البيوت. "لور" تعلن عن توجّهها القريب الى الساحة. فعلى التي تريد غرضاً عاجلاً لبداية النهار ان تطلبه فوراً، إذ ينبغي للور ان تعود، قبل ان تحمى الشمس، الى نزع الأعشاب الضّارة من حول شتلات البندورة، الآن وقد تشرّب تراب الجنينة جيداً بالمياه. يفسد مزاج "مارغو" فجأة وهي تشرب قهوتها على شرفتها الواسعة المزدانة بالورود. تقف وتصرخ ب"لور" بأن حقّها من مياه الريّ قد انتهى منذ أكثر من ساعة وبأن عليها أن "تكسر" المياه حالاً عن جنينتها. فنعمة، زوج مارغو، هو في بستانه ينتظر، ومارغو التي أرسلته منذ الفجر على مسؤوليتها هي الأعرف بتوزيع الساعات وحصص المياه، ولا يهون عليها ان يبهدل أحد نعمة الآدمي. لا تحبس الحارة أنفاسها طويلاً، فلور سترسل شتيمتين أو ثلاثاً حفظاً لماء الوجه، لكن ميزان القوى محسوم سلفاً لمصلحة مارغو التي، ولو انها ما زالت بثياب النوم، إلاّ ان المسدس الصغير لا يفارق "عبّها". صحيح انها لم تستعمله كثيراً، وغالباً على الأرجل فقط ونادراً على النساء إلا ان مزاجها يتعكر بسرعة عند الصباح وهي لم تحضر القداس بعد. الكبيرات يتوسطن لدى مارغو من أجل ان تترك لور تصل الى الساحة. ف"منتهى" لم تشرب قهوتها بعد إذ ليس لديها سيجارة واحدة والأولاد نائمون ولا من يشتري لها علبة دخان. تجلس مارغو على كرسيها وتعجّل لور بالصعود الى الساحة. تخرج "ليلى" الى الزقاق ويداها ملطختان بالشحم الأسود. تشتكي لجاراتها من انها لم تستطع نزع براغي المغسلة القديمة التي ما زالت معلّقة الى الحائط... لا تنفع معونة القديمات. تفتح "مادلين" صندوق سيارتها وتُخرج العدّة الجديدة فيفسحن لها. السبراي العجيب سيحلحل البراغي الصدئة... يصرخن جميعاً: يا جماعة التطوّر له حقّ. تهدأ الحارة قليلاً. انه وقت الطبيخ. يصرخ رامي عالياً من وجع ضرسه. تطل الرؤوس من الشبابيك. تنزل "منى" من بيتها على عجل. أهل رامي في بيروت وهو مع جدته التي تتألم من وركها منذ وقعت عن السلّم. تنتع منى رامي من يده وهو يجعر وتأخذه الى "كارلا" طبيبة الأسنان الشاطرة المتخرجة حديثاً، ولا تعود به إلاّ وهو يقضم المنقوشة راضياً. في مقابل هذه الخدمة سوف يُتاح لمنى ان تتشكّى طويلاً من ظلم حماتها وهي تدخّن بعصبية. وجدة رامي تستمع ساكتة وتطلب الى الله طول البال وانشغال الحماة حتى لا تشك الأخيرة بالجوّ التآمري. تخرج الفتيات الصغيرات بعرائسهن الى أعتاب البيوت. انه وقت القيلولة. "روز" ابنة مارغو لا تنام. انها تستفيد من نوم أمها لتضع الأغاني التي تحبّها في المسجّل. يملأ صوت نجوى كرم الهواء الراكد... "ريتني اقبرك يا روز" تصرخ مارغو قبل ان تستفيق من قيلولتها فيرسل المسجّل تراتيل دينيّة. لكن روز ليست بتلك السذاجة وقد توقظ أمها أحياناً على تراتيل يوم الجمعة العظيمة في عزّ شهر آب. يتجمّعن عصراً حول بائع البضاعة السورية الجوّال. يتبارين في خفض الأسعار وهو يغلظ القسم بالرسمال. ينفرط العقد حين تقوم واحدة لإعداد العشاء أو لاستقبال زائرة قدمت اليها من حارة أخرى، احياناً لواجب عزاء أو للترويج لزعيم محلّي على عتبة انتخابات ما. * * * حين يعود الرجال الى البيوت تسألهن النساء عمّا حدث نهاراً في الساحة... لا شيء، يقول الرجال وهم يتناولون العشاء ثم يرفعون الأرجل لكي تمرّ المكانس لرفع الفُتات. - سأطلع قليلاً الى الساحة أرى ما يجري، يقول الرجل، فلا تسمعه زوجته المستغرقة في متابعة المسلسل على التلفزيون...