الكتاب: ماركو بولو: هل وصل إلى الصين؟ الكاتبة: فرنسس وود. المترجم: فاضل جتكر. الناشر: قدمس للنشر والتوزيع. عاد ماركو بولو إلى البندقية مع أبيه وعمه بعد 26 عاماً من مغادرتها، يحملون متاعهم القليل على ظهورهم، ويلبسون أسمالاً بالية" بعد أن جابوا بحاراً مفعمة بالعواصف، وتسلقوا جبالاً وعرة، واجتازوا قفاراً ملأى باللصوص وقطاع الطرق، وبماء مرِّ المذاق، غير صالح للشرب" وصحاري لا شيء يدلهم الى الطريق فيها سوى عظام البشر أو الحيوانات وبعر الجمال. وكان الأكثر إثارة من هذه المخاطر كلها إقامتهم عشرين سنة في أرض الصين الشاسعة، وخدمتهم لملك عظيم حكم إمبراطورية تحتل أوسع رقعة على اليابسة، ويملك ثروة لا تضاهيها ثروة القارة الأوروبية. في أحاديثهم، أتوا على ذكر حجارة تتخذ للتدفئة، وورق يتعامل به الناس بدل الذهب، وأمم لا يتسامح الآباء والأزواج فيها ببكارة الفتاة، وأمم يقدم فيها المضيف لضيوفه أزواجه وبناته ليستمتعوا بهن وهن راضيات. وعلى رغم الجاذبية الطاغية لروايات القادمين الثلاثة، أو ربما بسببها، لم يصدقهم أهل البندقية. لم تحز رواية بولو على حظوة لدى أصحاب الشأن والرحالة والمستكشفين، لكن بعد سنين طار صيت ماركو بولو وصيت كتابه "وصف العالم" حتى أن كريستوف كولمبوس كان يحمل نسخة منه في رحلاته. يروي ماركو العجائب التي رآها على طول طريق الحرير، ولم تكن مشاهداته سوى مشاهدات متأخرة للطريق نفسه في أواخر عصوره الزاهية بعد الدمار الذي ألحقه به المغول الأوائل. هذا الطريق الذي سار فيه التجار والباحثون عن الثروة والحجاج والمغامرون والمهاجرون والممثلون الجوالون والمبشرون، وكان أيضاً طريق الأقمشة الصيفية الأرجوانية وعطور الجزيرة العربية والتوابل الهندية وجواهر آسيا الوسطى" وإذا كان قد سمي طريق الحرير فلأنه كان مصدراً للحرير الصيني الذي احتفظت الصين بسر إنتاجه مدة لا تقل عن ألفي سنة. قبل قيام الأخوين بولو برحلتهم الأولى إلى الشرق، وصل إلى قره قرم بعض المبشرين المسيحيين، مثل الراهب الفرنسيسكاني بلانو كاربيني، ووليم الرّبرُكي، كانت مهمتهما نقل رسائل مسيحية أو وعظ المغول وهدايتهم إلى تعاليم الإنجيل، أخفقا في الهداية والوعظ، لكن نجحا بإنجاز تمثل بوصف تفصيلي للحياة والعادات المغولية. أما جون المونتكورفينو الذي وصل إلى بكين في عام 1291 م، فقد قام ببناء الكنيسة الأولى كاملة مع برج الناقوس، ونظم كوارس من الصبية الصغار لتلاوة التراتيل على مسامع الخان. كذلك بتروس اللوكالونغوي الذي تبرع بالأموال للكنيسة الثانية في بكين، والطبيب الجراح اللومباردي الذي نشر آيات التجديف المعادية لكنيسة روما في أرجاء بكين. السؤال المطروح في الكتاب هو: هل وصل ماركو بولو إلى الصين فعلاً؟ أم أنه بقي يراوح مكانه في أقاليم آسيا الوسطى؟ يبدو كتاب بولو "وصف العالم" وكأنه عمل جغرافي تاريخي أكثر بكثير من كونه وصفاً شخصياً ملموساً ومعايناً لمدن وبشر وعادات وتقاليد وأشياء تمت رؤيتها. فمثلاً، لا يشير النص الذي يأتي بعد المدخل في الكتاب إلى دليل رحالة منطقي، وقد يكون سبب غياب الدليل حماسة مؤلف الروايات روستيتشيللو الذي كتب "وصف العالم" بعد أن أملاه عليه بولو وهو في الأسر، وبالتالي عمل الكاتب على توسيعه إلى ما هو أكثر من محض وصف رحلة، ليشمل تاريخاً عالمياً أكثر إجلالاً بإقحام كتابات وصفية جغرافية غير ذات علاقة، وعناصر ملحمية لا يستهان بها في الصور الوصفية المثيرة والمتحذلقة للمعارك الكبرى التي خاضها المغول. إضافة إلى أن رحلة الانتقال من الغرب إلى الشرق والعودة، لا تأتي على شكل يوميات أسفار بل وصفاً لكتل جغرافية من دون تسجيل كيفية الانتقال من مدينة إلى أخرى، وكأنما كان يتتبع المدن على الخريطة لا في الحقيقة. والأماكن توصف في رحلة بولو ليس بالتتابع المنطقي المألوف بل في إطار مجتمعات جغرافية فقط" ففي الجزء الخاص بفارس على سبيل المثال، توصف المدن وصفاً عاماً، على هذا النمط: "كوربينان، مدينة كبيرة... ويصنعون مرايا كبيرة جميلة، وكذلك مادة التتشيا الجيدة لعلاج أمراض العيون". هذا الانتقاد يؤيده رحالة مرموقون، اعترفوا بالاستحالة العملية لتعقب مسار رحلة بولو في ما وراء بلاد فارس. إضافة إلى رحالة حاولوا اتباع خطوات ماركو بولو، فاضطروا للتخلي عن مثل تلك المحاولة" فجون جوليوس نورويتش اعترف بعدم إمكانية اتباع المسار نفسه في إحدى بقاع فارس" وسفارة اللورد مكارتني وجدت نفسها محصورة في فرضية جغرافية حول السور العظيم" وكليرنس دالريمبل بروس عانى من الارتباك الشديد في الخليج الفارسي. عدا العثرات الجغرافية وعدم دقة بعض الأحداث التاريخية المرتكبة في "وصف العالم". كذلك تتفق المراجع الإسلامية وتواريخ السلالات الحاكمة الصينية على إغفال رحلة بولو وكأنها لم تكن. هذا عدا الانتقالات الفجائية بين الأمكنة المختلفة والوصف المفكك لبعض المشاهد الصينية، فمن وصف بكين إلى وصف الولائم ورحلات الصيد ثم استطراد عن قوبيلاي خان إلى تقرير عن النظام البريدي الصيني ! أما رحلة العودة في فريق مؤلف من 600 شخص، فقد كان جانبها المثير هو في اصطحابهم الأميرة المغولية الشابة من الصين إلى فارس كي تصل إلى زوجها المنتظر آرغون سيد الشرق الذي كان قد مات، وخلال الرحلة قضى 582 شخصاً نحبهم في البحر، بينما نجا 18شخصاً كان من بينهم عائلة بولو المؤلفة من ثلاثة أشخاص! القصة نفسها وردت في "تاريخ العالم" لرشيد الدين، وفي نص صيني رسمي أيضاً، وقد كان هذان الشاهدان سيشكلان دليلاً على مصداقية ماركو، لكن الروايتين تتفقان على عدم وجود إيطاليين برفقة الأميرة. وعلى رغم زعم ماركو بأنه حكم مدينة يانغجو ثلاث سنوات، لا تأتي سجلات يانغجو على أي ذكر لحاكمها الأوروبي ولا أي أثر لأفراد عائلة بولو، كذلك عدم ورود اسمه في المصادر الصينية والمغولية. عدا عن إخفاقه الواضح في التقاط بضعة أسماء أمكنة صينية أو مغولية خلال سنواته ال17 في الصين، وكأنما فضوله الظاهري في شأن الأماكن والأشياء التي رآها، لم يتسع ليشمل اللغات التي تُلفظ بها. فضلاً عن عدم إيراده بعض الخصوصيات الأكثر منزلية مثل استعمال الفحم، في حين أسهب في الحديث عن سلع الترف النادرة والمكلفة واهتم بما تساويه من مال، ثم ما ظهر من نواقص في حديثه عن النقد الورقي، ونظام الكتابة الصينية، وإغفاله لذكر الشاي على رغم اشتهار الصين بأنواع مختلفة من الشاي، بل وامتلاء المناطق التي زارها بولو ببيوت الشاي من جميع المستويات، كذلك لم ترد عادة ممارسة ربط الأقدام ولو بصورة عابرة في أي مكان في الكتاب، وما يحير أيضاً، إسقاطه لاستخدام العيدان في تناول الطعام. أما البورسلين" فهو إضافة إلى الشاي والأقدام المربوطة، أي الأشياء الثلاثة التي ترمز إلى الصين في الخيال الغربي، فقد سقطت جميعاً من نص يُزعم وبقوة أنه شعبي! يغرينا كتاب "فرنسس وود" بالإسهام من طرفنا، في الجدل الدائر حول وصول ماركو بولو إلى الصين، وقد لا نشاطر المؤلفة رأيها، إذ نعتقد من الحيثيات التي ذكرتها، بأننا نستطيع القول، بأنه ربما زار بولو الصين فعلاً، لكن ميله للمبالغة والإدعاء أسبغا على الحقيقة رداء فضفاضاً ومترهلاً من الكذب الصريح، سعياً وراء الشهرة، ولا ننسى إسهامات الروائي روستيتشيللو والجغرافي رموزيو، وتلك الطبعات المتعددة والمختلفة للكتاب والمواد التي أضافها نساخ وناشرون. الا ان المبالغة إذا كانت تلقي ظلالاً من الشك على رحلة بولو إلى الصين فهي لا تنفيها أو تلغيها. لماذا نريد من ماركو بولو في العصور الوسطى الكئيبة، ألا يحقن مغامرته بمقدار من الدجل والشعوذة، مثل: أحزمة الرهبان الشافية في سان بارسامو بتبريز، وزواج جنكيز خان من ابنة الأب يوحنا ألم تكن قصة الأب يوحنا شائعة في بلاطات أوروبا وبين قواد الحملة الصليبية، وعقد البابا ومعه الأباطرة الآمال على الأب يوحنا؟! والرسوم التي تصور عدداً من الحيوانات الخرافية كالرخ والغرفين ووحيد القرن، والبلاد المأهولة ببشر لا رؤوس لهم" هذه الرسوم والقصص سواء كان صاحبها بولو أو أحد كتاب الظل، تنبئنا عن خيال العصر الوسيط الأوروبي المتأخر في ذلك الحين وعن عدم جدية ما رافق رحلة الصين من تشويق، وكل هذا بهدف إرضاء فضول القراء. كذلك أيضاً الميل إلى مضاعفة بولو الأشياء التي يصفها عدة مرات، إذ تبدو وكأنها مضاعفة لا تتحرى الحقيقة بمقدار ما تتناسب مع الجهد الذي بذله والمسافات الشاسعة التي قطعها والمخاطر التي تنكبها" أما لماذا؟! فللهدف نفسه. لا يستعير بولو قصص الآخرين حصار كسينغينغ، حاكم ينغجو، مرافقة الأميرة من الصين إلى فارس وينسبها إلى نفسه، إلا لإضفاء مقدار من الإثارة لا غنى عنه، لجذب أنظار القراء؟! إن أحداً لا يستطيع إنكار جهود الباحثة العميقة والشاملة. وعلى رغم أننا لم نشاطر المؤلفة رأيها، لكننا على التأكيد نشاطرها جزءاً كبيراً من شكوكها، إن أردنا التأكد منها، أو إنصاف ماركو بولو، فلا بد من إعادة تركيب صين العصر الوسيط، بمعزل عن بولو نفسه، لأن الصين في ذلك الوقت، كما نعرفها، ما زال أجزاء منها مأخوذاً من كتابه وصف العالم. قد يكون الوقت مبكراً على إخراج بولو من الموسوعات أو طرده من التاريخ، ومع هذا فإن بولو بمكانته المقلقلة في العقود الأخيرة، يقدم مثالاً طريفاً على سهولة الدخول إلى التاريخ والموسوعات العالمية، وفي الآن نفسه صعوبة الخروج منها، وفي حال أصابته سهام النقد فسوف يكون نموذجاً على الخطأ البين أو الإجحاف الذي أصاب غيره" ومأثرة ناجحة، وإن تكن سيئة على هؤلاء المغامرين الذين يقتنصون جهود الآخرين المجهولين، الأحق بالتبجيل. ومهما يكن فإن ماركو بولو يبقى بنظر الصينيين أهم من لفت انتباه أوروبا القرن الرابع عشر إلى الصين انطلاقاً من تجربته الخاصة. وكما تقول مقدمة كتاب يو شكسينغ "إن ماركو بولو شخصية دولية. صحيح أنه ولد في إيطاليا ولكن أهم فعالياته تحققت في الصين. وكتابه يشكل إسهاماً في الثقافة العالمية، سِفراً تحبه شعوب العالم وتدرسه، كنزاً نادراً تتقاسمه شعوب الدنيا". قليلة هي الكتب التي نلمس فيها جهداً بحثياً شاقاً، جدلياً ومثيراً، بهذه الروح الطليقة من التعصب، وبهذا المستوى الشغوف والمدقق، الذي يرقى في أحيان كثيرة إلى مستوى إبداعي رفيع، يحفل بالمعرفة القيمة والنظرات الثاقبة واللمحات الذكية، كما لا يخلو من الشطح، إذ للخيال فيه لمسة، وفي بعض الأحيان حصة" لها نكهة الحقيقة القاطعة.