من المبكّر جداً توجيه أصابع الاتهام الى أية جهة ارهابية معينة قد تكون مسؤولة عن الرعب الذي عمّ الولاياتالمتحدة. لكن الأكيد ان عملاً، بهذا الحجم والنوعية، لا يمكن أن يكون من تخطيط أو تنفيذ مجموعة صغيرة لأنها فقط تكُنُّ العداء لواشنطن. لكن الصدمة الكبرى التي صعقت الاميركيين هي في أنهم لم يُهددوا قط على أرضهم. فهم محميون بمحيطين، الأطلسي والباسفيكي. ولم تدور اية حرب على ارضهم بعد معركة لكسنغتون مع الانكليز عام 1823. أما الحرب التي دارت عام 1861 فهي داخلية أهلية. وقد أعطى هذا الوضع الاميركيين الشعور بالتعالي والتفوق على الغير، فاعتبروا انفسهم انهم لا يقهرون Invincible، فهم خاضوا حروبهم الكبيرة على القارتين الأوروبية والآسيوية. وقد قال لنكولن في هذا المجال العام 1838: "... إن كل جيوش اوروبا مع كل كنوز العالم، ومع قائد مثل نابوليون، لا تستطيع بالقوة أخذ نقطة ماء من نهر أوهايو...". حفلت مسيرة الحرب الباردة بين الجبارين باطلاق الولاياتالمتحدة الكثير من العقائد الاستراتيجية. فكانت عقيدة ترومان، عقيدة كيندي، عقيدة كارتر وآخرها عقيدة كولن باول. لكن البارز في هذه المراحل كان في اعتماد الولاياتالمتحدة استراتيجية الاحتواء للاتحاد السوفياتي. ويذكر انه وعلى رغم سقوط الدب الروسي فإننا لا نزال نشهد استمرار هذا الاحتواء عبر توسيع الناتو شرقاً، كذلك الأمر تسعى الولاياتالمتحدة لإدراج الصين الصاعدة ضمن فكّ هذا الاحتواء، وذلك عبر مساعدة تايوان والتعهد بالدفاع عنها، وعبر تشجيع اليابان للعمل على المساهمة الأمنية في الباسفيك بعد تعديل المادة التاسعة من الدستور، كذلك الأمر العمل على السيطرة على الممرات التي تخنق البحرية الصينية وتمنعها من السيطرة على البحار. سقط الاتحاد السوفياتي، تغيّر الواقع الجيو - ستراتيجي، تبدلت المخاطر والتهديدات. ورأت أميركا انها في عالم خالٍ من المنافسين. فللمرة الأولى تسيطر دولة عظمى على مقدرات العالم. وانقسم العالم نتيجة لذلك بين قوى كبرى، كفرنسا، روسيا، الصين... الخ من جهة، ودولة عظمى وحيدة هي أميركا من جهة ثانية. إذاً كان لا بد للولايات المتحدة من تغيير الأهداف، وبالتالي تغيير الآليات والتركيبة العسكرية في شكل يتناسب مع الوضع الجديد. ويبدو ان أحد أهم المخاطر الجديدة والذي تعتبره الولاياتالمتحدة الخطر الجدي على أمنها القومي، يتمثل بتزاوج الارهاب مع انتشار اسلحة الدمار الشامل. فكان نتيجة لذلك مشروع الدرع الصاروخي لحماية الولاياتالمتحدة من صواريخ الدول المارقة، ومشروع انشاء قيادة جديدة لحماية امن الداخل. تتضمن القيادة الجديدة قسمين مهمين هما: قيادة الدفاع عن الداخل الأميركي، وقيادة ما يسمى بالدفاع المدني. تتلخص مهمة هذا الجهاز في شكل موجز بالأمور الآتية: درء، منع، ردع والدفاع ضد أي هجوم أو خطر يهدد ارض الولاياتالمتحدة، أو يهدد شعبها وبناها التحتية. كذلك مساعدة السلطات المدنية خلال حالات الطوارئ والتي قد تحصل من جراء كوارث قد تكون من صنع الانسان أو من صنع الطبيعة. شكّلت الحكومة الاميركية ثلاث لجان لدراسة موضوع الدفاع عن أمن الداخل وهي: لجنة غيلمور عام 1999، لجنة بريمر في حزيران/ يونيو عام 2000، ولجنة هارت - رودمان في كانون الثاني/ يناير من العام 2000. أتت نتيجة هذه اللجان تقريباً متشابهة وتضمنت كلها الأمور الآتية: ... أصبحت اميركا من دون شك معرضة للهجمات الارهابية أكثر من ذي قبل. العسكر الاميركي سوف لن يستطيع بالتأكيد الدفاع عنا... ان دولاً ومجموعات ارهابية سوف تحصل على أسلحة دمار شامل، وبعضهم سيستعملها ضدنا... أميركيون سيموتون على الأرض الاميركية من دون شك، وبأعداد كبيرة... توصّلت اللجان الى نقطة مشتركة أيضاً تقول ان أميركا ليست مهيأة أبداً لدرء، أو ردع هذه التهديدات. اذا وقع المحظور وحصل أكبر اعتداء على الأرض الأميركية. منهم من سماه بيرل هاربور ثانية، ومنهم من شبّهه بمفاجأة حرب تشرين عام 1973. أما الصحافة الأميركية عموماً فقد اطلقت الشعار الآتي: "إعلان حرب ارهابية على الولاياتالمتحدة". وبالفعل فقد صدقت توقعات اللجان المذكورة أعلاه. ما هي الاستنتاجات من هذا الحادث الفريد من نوعه: 1 - فشل استخباراتي: لا شك في ان هناك فشلاً استخباراتياً كبيراً على صعيد المؤسسات الأمنية الاميركية. فمن السي آي اي، التي تغطي العالم، الى الأف بي آي، التي تغطي الداخل، الى الNSA التي تتنصت على العالم، كل العالم، يضاف الى هذه الأجهزة الاستخباراتية أجهزة الأسلحة الجيش، البحرية... الخ، لم يكن هناك أي تدبير لدرء أي خطر ارهابي. هذا مع العلم ان التهديدات كانت مستمرة، ولدى الاميركيين تجارب داخلية في هذا الموضوع، كمحاولة تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993، وأوكلاهوما عام 1995. 2 - خطورة الارهاب: لا يمكن درء خطر الارهاب بالطرق التقليدية. فالارهاب كتكتيك يعيش كالفطر على حساب ما توصلت اليه المجتمعات. فمن الخنجر كوسيلة، الى المتفجرات، الى وسائل الاتصالات الحديثة، الى الانترنت... تبدو كلها وسائل مشروعة له. ونجاحه أكيد لأنه متطور لا يتقيد بالقيم الاجتماعية، وهو يقاتل عدواً لا يزال يُخطط لحروب المستقبل بعقلية الماضي. الارهاب يبتكر. فمن ظنّ مثلاً على الصعيد الرسمي الاميركي أو اعتقد بحصول السيناريو الذي شهدناه في نيويورك وواشنطن؟ بالفعل انها حرب التكنولوجية البدائية ضد التكنولوجية المتقدمة. 3 - سيناريو للمستقبل: تبدو العملية الأخيرة وكأنها سيناريو محتمل للحرب المستقبلية. فالابتكار الارهابي المستقبلي قد يتخطى ما حصل باستعمال أسلحة الدمار الشامل بدل الطائرات. وقد تبدو العملية الأخيرة وكأنها جزء بسيط من الحروب المستقبلية التي قد تخاض ضد الولاياتالمتحدة من جانب دولة عظمى أخرى. والهدف من هذا شل البلاد على صعيد القيادة حصل هذا بالفعل، زرع الخوف في المجتمع، وضع القيادة العسكرية بكل فروعها في شك رهيب حول أية عملية تتطلب اتخاذ قرار. إذ قد يُضاف الى هذه العملية الارهابية عمليات متعددة كالهجوم على الأقمار الاصطناعية لشلّ العمل القيادي، كذلك الأمر الهجوم على البنى التحتية التي تعتمد على الكومبيوتر Cyber warfare. 4 - المعضلة الأمنية: يقوم مفهوم المعضلة الأمنية على أنه كلما تسلّحت أكثر كلما زاد مستوى المعطوبية. وكلما أصبحت مجتمعاً متطوراً، كلما أصبحت سريع الانهيار. فها هي بورصة العالم تضرب بظرف ساعة واحدة. 5 - انتقاء الأهداف: تم انتقاء الأهداف بصورة مدروسة وذكية. فمركز التجارة العالمي يمثل القوة الاقتصادية لأميركا والعالم. والبنتاغون يمثل مركز قرار القوة العسكرية لروما العصر الحالي. وماذا لو تمت العملية كاملة بقصف البيت الأبيض وكامب دافيد؟ يُضاف الى كل هذا هدف إنزال الكثير من الخسائر البشرية. 6 - العامل الداخلي: إن الفشل الاستخباراتي، وحجم العملية وسرعتها ونجاحها هي اسباب تجعلنا لا نستبعد العامل الداخلي. فالعمل كبير وكبير جداً، يتطلّب تحضيراً وتنسيقاًً، وموارد لوجستية وبشرية مؤهلة وكفية لقيادة هذه الطائرات. كذلك يتطلب معرفة الأهداف وكيفية ضربها في المكان الموجع، وكيفية قيادة الطائرات اليها، ومعرفة مواعيد اقلاع الطائرات المنوي اختطافها وكيفية خرق الأمن في المطارات المقصودة. وما يعزز هذه المقاربة هو نفي كل المعنيين والممكن اتهامهم بالعملية أي تورط لهم فيها، وعلى رأسهم طالبان والقيادات الفلسطينية، بخاصة الاسلاميين. كيف ستبدو مرحلة ما بعد هذا الحادث؟ من المُبكر الحديث عن هذا الأمر، لكن يمكننا ان نحلل بعض الأمور على الشكل الآتي: أميركا بعد الحادث هي ليست نفسها قبل الحادث، وستحلّ القوة مكان الديبلوماسية كوسيلة اساسية لتحقيق الأهداف. ستعمل اميركا على استيعاب الضربة، وهنا يبدو التحدي فيما اذا كانت ستتخطاها. بعد الاستيعاب الداخلي لا بد من القيام برد فعل عسكري وبقوة ضد كل من يظهره التحقيق على انه متورط. قد يكون هناك ضربات "كفشّة خلق" ضد العراق، وضد افغانستان حتى اذا ما كانتا بعيدتين من العملية. قد يكون سبب التأديب تافهاً، لكن لا بد من استعادة الهيبة المفقودة. وهنا يدخل دور العسكر الاميركي في اتخاذ القرار والذين هم دائماً مع استعمال القوة العسكرية. كذلك الأمر ستكون الدول الموجودة على لائحة دعم الارهاب تحت ضغوط لا مثيل لها. اما اذا ما أثبت التحقيق تنفيذاً داخلياً للعملية فإن الأمر سيبدو أكثر احراجاً للولايات المتحدة. وقد يؤدي هذا الأمر الى مزيد من التشريعات والتدابير التي تحظّر الجمعيات الأصولية، والى مزيد من التشريع الذي يقيد حمل السلاح وما شابه، هذا عدا التشديد على سلامة الطيران المدني وأمنه. سوف تسقط رؤوس مسؤولة كبيرة، خصوصاً الأمنية، ومن يدري قد يكون وزير الدفاع، أو مستشارة الأمن القومي والتي ابتعدت كثيراً في ممارستها عن مهمتها الأساسية. لن يكون هناك ممانعة لزيادة الموازنة العسكرية كما كان يُعتقد. ستعزز الأجهزة الأمنية خصوصاً السي آي اي وستبدو مظلة الصواريخ أقرب الى التنفيذ والتمويل مما كان يعتقد. وستنشأ قيادة حماية أمن الداخل مع صلاحيات واسعة، وتمويل من دون حدود. اذا ما شكلت الضربات المحتملة ضد المتورطين المحتملين رداً على المدى الفوري، ستظهر في المستقبل تحالفات باتجاهين: الأول أوراسي يكون استكمالاً لمجموعة شانغهاي تشارك فيه الولاياتالمتحدة خصوصاً على صعيد مكافحة الارهاب، التي تضم روسياوالصين. الهدف منه ضرب الارهاب والحركات الاسلامية والتي تهدد كلاً من الصين في شقها الغربي، وروسيا في منطقتي الشيشان وآسيا الوسطى. وإذا ما حصل هذا الأمر فإنه سيشكل أحد فكّي الكماشة الشرقي والذي يهدف الى تطويق العالم الاسلامي ككل. أما التحالف الثاني فسيكون أوروبياً له أبعاد شرق أوسطية، هدفه أيضاً محاربة الارهاب وتشكيل فكّ الكماشة الغربي والذي يستكمل تطويق العالم الاسلامي. ان هذين التحالفين ضد الارهاب سوف يضغطان باتجاه الحد من انتشار اسلحة الدمار الشامل. وسوف يوقفان لفترة مشاريع التعاون العسكرية القائمة بين روسيا وايران، وبين الصين وباكستان. تبدو اسرائيل في المعادلة الشرق أوسطية حجر الأساس والحليف الوحيد للولايات المتحدة. فهي الموثوق فيها فقط. وهي ستكون رأس الحربة مستقبلاً. فلنتوقع المزيد من الغطرسة الاسرائيلية من دون رادع أو رقيب. ففي هذه المرحلة تبدو الأممالمتحدة رمزاً من دون مضمون، وأوروبا شعرت بالخطر الذي قد يطاولها، والصين بحاجة الى السوق الأميركية وهي معافاة، أما روسيا فهي أيضاً تعاني الإرهاب. في الختام لا بد من وعي دقة المرحلة، وما على العرب إلا أن ينخرطوا في المسيرة المنددة، وعكس ذلك يعني الانتحار. لكن ما نأمله هو ما قاله أحد الآباء المؤسسين الاميركيين وكاتب الدستور توماس جفرسون: "ليس في أيامنا، لكن ليس في وقت بعيد، قد نهزّ العصا فوق رؤوس الجميع فنجعل أقواهم يرتجف. لكنني آمل أن تكبر حِكمتنا مع قوتنا، لتعلمنا انه كلما استعملنا قوتنا أقل، كلما كانت هذه القوة أعظم". * كاتب لبناني، وعميد ركن متقاعد.