شهدت أكثر من مدينة ايطالية في الآونة الأخيرة احتفالات وبرامج تحية للانجاز الثقافي والسينمائي للمخرج الايطالي الكبير فرانشيسكو روزي المولود في مدينة نابولي في عام 1922. ومن بين هذه التظاهرات مهرجان كاستيلانيا في مدينة بيللينزونا الواقعة في الكانتون الايطالي من سويسرا، وهو مهرجان لسينما الشباب، والبرنامج الخاص الذي نظّمه متحف الفن السينمائي بمدينة تورينو الايطالية بعنوان "صورة لايطاليا - سينما فرانشيسكو روزي" إذ عرضت أهم أعماله السينمائية مثل "الأيدي فوق المدينة" الفائز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا 1963، و"سلفاتوري جوليانو"، و"قضية ماتيي" و"رجال الضد". وبينما كانت قاعة المسرح في مدينة تورينو مكتظة بالجمهور الغفير للقاء المخرج الكبير ألمت به وعكة صحية حالت دون وصوله الى مهرجان بيللينزونا. إلا انه أصر على لقاء الطلبة والشباب الذين احتشدوا في القاعة، وطلب من ادارة المهرجان تهيئة ظرف تقني يتيح فرصة الحديث معهم والاستماع الى آرائهم والرد على أسئلتهم. وكنت حاضراً ذلك الحوار الجميل وأسهمت في إدارته. وفي إمكاني القول إن ذلك اللقاء عبر الأثير كان الثالث بيني وبينه، إذ كان اللقاء الأول في منتصف الثمانينات في منزله بالقرب من ميدان "ساحة اسبانيا" الشهير في روما، والثاني في مدينة بولونيا عندما هيأ له "سينماتيك بولونيا" و"سينما لوميير" لقاء قدّم فيه درساً أكاديمياً عن عمله السينمائي الى طلبة كلية العروض في جامعة بولونيا العريقة. وكانت حصيلة اللقاءات الثلاثة هذا الحوار. فيسكونتي معلمي الأول يقول روزي: "كانت السينما الايطالية من أكثر السينمات في العالم في تقديم السينما التي تشاهد على الواقع. أنا لست صحافياً ولا عالم اجتماع، لكنني أعتبر نفسي شاهداً على ما حدث في بلادي وفي زمني. إن أفلامي عن ايطاليا ولدت من الشغف الكبير في مهمة اعتقد ان علينا الانتماء اليها جميعاً وتكون ملكاً لنا جميعاً: أي أن نعرف جيداً الزمن الذي نعيش فيه. لم أنجز الأفلام لمجرد توفير ساعتين من الإمتاع لمشاهديّ، بل لدفعهم الى التفكير والإمعان في الأشياء وإعادة النظر فيها". ويضيف: "كنت محظوظاً إذ عملت مساعداً للوكينو فيسكونتي في فيلمه "الأرض تهتز". كانت تلك التجربة اساسية لتكويني الفني في الزمن الذي كانت تولد فيه الواقعية الايطالية الجديدة. تلك الواقعية الخالصة التي لم تولد بسبب حاجة اسلوبية بل لأسباب اجتماعية وأخلاقية وسياسية. كان مرتجانا نحن المشاهدين الشباب ونحب الأفلام، ان نرى تلك التي أنجزها في الخمسينات مخرجون مثل إيليا كازان وجون هيوستن. كانت تلك الأفلام مختلفة عن سينمانا لأن شروط الانتاج كانت تشترط أن تحتوي القصة، تحت أي ظرف من الظروف، قدراً من مكونات الاستعراض. في المقابل كانت للسينما الايطالية سمات كثيرة افتقرت اليها السينما الاميركية. مثلاً، إن عملاً كبيراً مثل "سارقو الدراجات" ليفتوريو دي سيكا أصبح في يومنا هذا بمثابة الوثيقة التاريخية، وفي إمكانه أن يقدّم للجيل الجديد درساً في التاريخ والعادات، إضافة الى إثارته انفعالات المشاهد ومشاعره تجاه ما كان سائداً في تلك الفترة التاريخية. ينبغي على الفيلم، أي فيلم، أن يمتلك الطموح وأن يتوق في أن يكون عملاً كوني الطابع دائم التأثير". إذاً السينما هي التي علّمتك الالتزام الاجتماعي الذي برز في ما بعد في جميع أفلامك؟ - أدركت منذ وقت مبكر قدرة السينما الخارقة أداة لمعرفة المجتمع، وحاولت توجيه اهتمامي الى واقع بلادي وما يحيط بي، وأن أروي هذا الواقع ليس فقط في مفرداته ومظاهره الواضحة للعيان بل عبر كل ما هو خفي عن العيان من مفردات، من خلال الرؤية التي تربط أضواء هذه الأحداث بظلالها. كان اهتمامي الأساس متجهاً منذ اللحظة الأولى صوب التعرّف على المشكلات التي تحيط بنا، وكانت هذه المعرفة تغنيني أنا، في المقام الأول. ولمجرد انني كنت أتمكن من إدراك شيء أو التوصّل الى معرفة ما، كنت أحاول ايصاله الى الجمهور ليتعرف بنفسه على الأمور التي تعرض بمنطق جدلي غير محسوم وبديهي على الإطلاق. بل على العكس، فإن القضايا كانت تعرض الى الجمهور بكل مظاهرها وزوايا النظر المتباينة للمشكلات، وتثير النقاش. انت اقتربت من موضوع الارهاب ومسسته في العمق من خلال فيلمك "الأشقاء الثلاثة"... - أجل تناولت الموضوع بين عامي 1980 و1981 بفيلمي "الأشقاء الثلاثة"، وكان هناك بعض الأعمال الأخرى التي تناولته في الفترة نفسها مثل "الخلية صفر" لكالرلو ليتزاني، و"قضية مورو لجوزيبي فيرارا، و"التصويب الى القلب" لجاني آميليو، غير أن كل هذه الأعمال ظلت منفردة ومنعزلة ولم تترك البصمات. ماتيي اغتيل لصداقته مع العرب آلدو مورو وإنريكو ماتيي، شخصيتان ايطاليتان مهمتان في المشهد السياسي والاقتصادي للبلاد وكلاهما اغتيل في شكل عنيف، وقدما مشاريع ذات أهمية كبيرة للسياسة والاقتصاد الايطاليين... والاثنان كانا شخصيتين سينمائيتين لاحقاً... - على رغم أوجه الشبه بينهما كانا مختلفين في ما يسعيان اليه. كان مشروع آلدو مورو سياسياً بالدرجة الأساس، في حين كان مشروع إنريكو ماتيي اقتصادياً مئة في المئة. بدأ ماتيي مشروعه من منطلق ضمان مصدر استراتيجي وزهيد الثمن للطاقة لبلاده، وقد تمكن من ذلك لأنه تمكن من العثور على غاز الميثان في شمال ايطاليا، وهو مصدر الطاقة الذي ساعد في انطلاق الاقتصاد في سني ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. إذ من دون غاز الميثان الذي كان يغذي بالطاقة الكثير من المصانع في الشمال الايطالي لم يكن من الممكن للإعجاز الاقتصادي الايطالي من الانطلاق. في رأيي لم يكن مشروع ماتيي في منطلقه سياسياً، لكن بالطبع كانت لهذا المشروع تداخلات سياسية بسبب ارتباطاته. ولكي يتمكن ماتيي من اطلاق العنان لخطته الاستراتيجية احتاج الى استمالة الأحزاب السياسية التي كانت تقف حجر عثرة في طريق مشروعه. ليس هذا فحسب، بل عمد الى انشاء وتأسيس جريدة يومية كان يموهلها بأموال مؤسسة حكومية مثل ال"إيني" لأن جميع الصحف التي كانت تصدر آنذاك كانت معادية له ولمشروعه. ماتيي أزعج الكثر، وليس شركات البترول فحسب، لقد أزعج حال التوازن السياسي العالمية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لأن ماتيي كان يشتري البترول من الاتحاد السوفياتي ويدفع قيمته بثلاثين في المئة أقل مما كان سعر السوق العالمية للبترول آنذاك، وكان في المقابل يقدّم الى الاتحاد السوفياتي منتجات مصنّعة في ايطاليا. وكان هذا الأمر يزعج بالطبع كثيراً التوازن السياسي المرسوم في الأطلسي. وبما ان ماتيي كان يمتلك تأثيراً جيداً على السياسة الخارجية الايطالية فإنه كان في أحيان عدة يتخذ خطوات تتناقض مع ما كانت تقرره الحكومة الايطالية، أو على أية حال كانت قرارات تتناقض مع مصالح التحالف مع اميركا. لذا فإنه علينا أن نضع في حسباننا عندما نتحدث عن الدوافع المحتملة التي يمكن ان تكون قد كمنت وراء تصفيته فإنه ينبغي أن نضع مدى الإزعاج الذي كان يسببه ماتيي في التوازن السياسي الدولي. وينبغي أن نتذكر في هذا الصدد أنه في يوم 27 تشرين الأول اكتوبر 1962، أي في اليوم الذي سقطت فيه طائرة إنريكو ماتيي، والذي يبدو أنه لم يعد هناك أي مجال للشك في أن الطائرة سقطت بسبب انفجار عبوة ناسفة على متن الطائرة، في تلك الفترة، وفي تلك الأيام بالذات كان العالم يعيش احدى أخطر الأزمات السياسية بين الأميركيين والسوفيات. لكن ألا تعتقد بأن ماتيي صفّي أيضاً بسبب العلاقة الخاصة التي ربطته بالعالم العربي والاسلامي ولأنه كان يسير في اطار سياسة تنموية متوسطية؟ - أعتقد بأن هذه القراءة ممكنة أيضاً، بقدر ما يتعلق الأمر بأن ماتيي كان استنبط وطوّر نظم تحالفات وعلاقات ثنائية ما بين الدولة الايطالية، لأن مؤسسة "إيني" كانت تعني آنذاك الدولة الايطالية، والدول المتوسطية العربية المنتجة للنفط بالذات، كان بدأ بعلاقة مباشرة مع الجزائر ويقال إن مفاد هذه العلاقة ان ماتيي كان يوفر للمقاومة الجزائرية التمويل العسكري ويزودها بالسلاح، وكان عقد اتفاقات مع الحبيب بورقيبة واتفاقاً مع المملكة العربية السعودية. لذا فإن هذا الأمر أزعج شركات النفط، وبالذات الكبرى منها الاميركية والانكليزية والهولندية، والتي رضخت بعد موت ماتيي، وحتى خلال حياته، الى منطق الدول المنتجة للنفط ولمصالحها الوطنية والتي كان يختلف ويتناقض مع منطق الشركات النفطية الكبرى وبهذا تمكنت هذه الدول من وضع اليد على مخزونها من هذه الثروة الوطنية المهمة. لقد صوّرت في تونس وزرت عدداً من الدول العربية والاسلامة، ألم يستحثك كونك متوسطياً ومن نابولي المدينة الأكثر متوسطية من غيرها ان تصور يوماً ما فيلماً تدور أحداثه في بلد عربي أو مقتبس من قصة عربية؟ - ليس من السهل العثور على القصة المناسبة أو بالأحرى ليس من السهل أن تتناول قصة لا تنتمي اليك احداثها وشخوصها. ينبغي أن تنجز اعمالك ليس بعين السائح. بطبيعة الحال لو أتيحت لي الفرصة وعثرت على القصة المناسبة لن أتلكأ في انجازها وحتى تصويرها في بلد عربي. ان البلاد العربية مثيرة للدهشة وجميلة، وأنا دائم الدهشة أمام الثقافات المختلفة عن ثقافتي التي تكوّنت في ظلها، ثم إن الثقافة العربية بالنسبة الينا نحن الايطاليين هي جزء من تاريخنا، وهي ثقافة أساسية في بعض الأقاليم الايطالية مثل صقلية التي تجد العرب في كل زاوية من زواياها، كما في اسبانيا. إنها حضارة وثقافة كبيرتان. سؤال أخير، الآن وأنت في هذا العمر وفي هذه التجربة وكونك معلماً لجيل كبير من السينمائيين في جميع أنحاء العالم أسألك: قلت إنك ابن الواقعية الايطالية الجديدة من دون ان تنجز أفلاماً تنتمي الى سينما الواقعية الايطالية: فمن هم معلموك حقاً؟ - عملت مع لوكينو فيسكونتي وهو معلمي الأول في السينما. وعملت في المسرح مع مخرج كبير أعتبره معلمي في المسرح وهو المخرج المسرحي الكبير الراحل إيتوري جانيني. لقد عملت لسنتين في المسرح. معلمي الحقيقي في السينما هو لوكينو فيسكونتي.