البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    محترفات التنس عندنا في الرياض!    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"لا سكوت بعد اليوم" ... كتاب جديد من بول فندلي . الحضارة يهودية - مسيحية - اسلامية ولا تقتصر على ديانتين 1
نشر في الحياة يوم 01 - 09 - 2001

} يشكل كتاب بول فندلي: "لا سكوت بعد اليوم"، استمراراً للنهج الذي اتبعه، دفاعاً عن صورة العرب والاسلام في الولايات المتحدة، فهو يروي رحلته الاستكشافية في عالم الاسلام، التي قادته للتعرف الى ديانة، تقوم على التسامح واحترام قيمة الانسان وكرامته، يعتنقها مئات الملايين من البشر في انحاء العالم، واقلية نامية في الولايات المتحدة تواجه، يومياً، التحديات الناشئة عن التمييز والافكار المضللة التي تسود مجتمعاً تدين غالبيته الساحقة بالمسيحية. لقد جعلته تلك الرحلة الطويلة يعقد العزم على العمل لكسر حاجز الجهل بالاسلام والمسلمين، وتفنيد الأضاليل لتبديد سوء الفهم.
والكتاب ثمرة جهود سنوات يخاطب من خلاله، مواطنيه المسيحيين، كما يخاطب مواطنيه المسلمين ويحضهم على الانتقال الى موقع التصدي، والإقدام على الانخراط في العمل السياسي لتخطي الحواجز، واحتلال المكانة التي تليق بهم في المجتمع الاميركي. وفندلي كان عضواً في الكونغرس، ممثلاً لولاية ايلينوي لمدة عشرين سنة، حمل خلالها لواء الدفاع بجرأة كبيرة عن الحقوق العربية بعامة، والفلسطينية بخاصة. واجه، بشجاعة نادرة، الضغوط التي مارسها ضده اللوبي اليهودي. وبعد خروجه من الكونغرس عام 1982 واصل العمل لتنوير الرأي العام الاميركي حول حقيقة الصراع العربي الاسرائيلي، فأصدر كتاب "من يجرؤ على الكلام" الذي يلقي فيه اضواء كاشفة على القوى الصهيونية الضاغطة في الولايات المتحدة، ومدى تأثيرها في صناعة القرار وفي سياستها الخارجية. ثم اصدر كتابه الثاني "الخداع" الذي يفضح اساطير اليهود و الصهاينة ودعاياتهم، والاضرار التي تلحق بالولايات المتحدة بسبب انحيازها الى اسرائيل. ويشرح فندلي في هذه الحلقة الخلفية التي دفعته الى وضع كتابه هذا.
لا أكاد، في هذه الأيام، أصدّق أن استكشافي غير المخطّط لعالم الإسلام بدأ قبل ربع قرن، في بلد ناءٍ صغير، لم يزره أي مسؤول أميركي منذ سنين طويلة. ذهبت إلى هناك في مهمة إنقاذ، لا صلة لها بالإسلام، غير أنها متصلة تماماً بمحنة إيد فرانكلين، وهو ناخب في ولاية إيلينوي سجن بتهمة تجسّس ملفّقة. ففي عام 1974، منتصف فترة عملي التي استمرت 22 سنة، كنت فيها عضواً في مجلس النواب الأميركي، وجدت نفسي أسافر بمفردي إلى أعماق عالم غير مألوف هو الشرق الأوسط العربي، لأسعى إلى إطلاق سراح فرانكلين.
كان المكان، الذي قصدته، هو عدن، عاصمة الجمهورية اليمنية الديموقراطية الشعبية، وكانت، آنذاك، دولة ماركسية، تقع على بعد ثلث المسافة حول العالم في الطرف الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية. ولم تعد هذه الدولة على الخرائط الحالية، لأن حكومتها انهارت، وتوحّدت في عام 1990، مع جمهورية اليمن العربية.
عندما شرعت في رحلتي من أجل إطلاق سراح فرانكلين، كان قضى 16 شهراً في السجن الانفرادي، متحمّلاً، في تصوّري، ظروفاً بدائية قاسية. وكان أبواه القلقان، اللذان يسكنان قرب منزلي في إيلينوي الغربية، والواثقان أن ابنهما دين ظلماً، طلبا مني المساعدة في إطلاق سراحه. وكان فرانكلين أوضح، في رسالة بعثها من السجن، أن الطائرة التجارية التي كانت تقلّه إلى مقرّ عمله، كمدرّس في الكويت، أصيبت بعطل في المحرك، واضطرت للهبوط في عدن. وخلال انتظار إصلاح الطائرة، التقط فرانكلين صوراً للمطار والمرفأ القريب، من دون أن يدرك أن ذلك ينتهك الأنظمة الأمنية. فأوقفه رجال الشرطة المحلّيون الذين ساورتهم الشكوك باحتمال أن يكون البريطانيون يخططون لتنفيذ عملية كوماندوز، مثل العملية التي نفذوها قبل ذلك بستة أعوام. وبعد استجواب استمر أسابيع عدة، أصدرت المحكمة قراراً بسجنه خمس سنوات.
وكنت مثل معظم الأميركيين، حينذاك، أحمل عن الشرق الأوسط صورة كئيبة، ولم تفعل الحكومة الأميركية شيئاً لتبديد هواجسي، فقد اعتبرت وزارة الخارجية الأميركية الحكومة في عدن الأكثر تطرّفاً بين كلّ الأنظمة في العالم العربي. ولم يكن أي مسؤول أميركي دخلها منذ الحرب العربية الإسرائيلية في حزيران يونيو 1967. وهذا يعني أنني سأحرم من حماية الحكومة الأميركية والمساعدة الديبلوماسية لدى وصولي. وفيما كنت أحاول اتّخاذ قرار بشأن الرحلة، سألت ديبلوماسيّاً كبيراً عمّا ستفعله وزارة الخارجية إذا أودعني النظام اليمني الجنوبي السجن، فكان جوابه الذي يبعث على القلق: "سنحاول إيجاد عضو آخر في الكونغرس على استعداد للذهاب إلى هناك، ليحاول إخراجك من السجن".
أقنعتني اتصالاتي بوزارة الخارجية البريطانية التي كانت لها سفارة في عدن، انني أمثّل لإيد فرانكلين الأمل الوحيد في إطلاق سراحه. لذا، على رغم الخوف الشديد، أقلّتني الطائرة من واشنطن إلى نيويورك، ثم سافرت مباشرة الى بيروت، ومنها توجّهت إلى عدن. وراودتني، أثناء اقتراب الطائرة من عدن، تساؤلات عمّا ينتظرني: ربما عواقب مؤسفة تحلّ بي وبالعائلة التي تركتها ورائي، وحتى نتائج سلبية للسياسة الخارجية الأميركية. ماذا أفعل لو لم يقابلني أحد في المطار؟
وكم كانت دهشتي كبيرة، عندما رحّب وفد من مسؤولي حكومة عدن بوصولي، واصطُحبت إلى دار ضيافة رسمية، وزُوّدت بسيارة وسائق خلال إقامتي. وبعد ثلاثة أيام من المناقشات مع مسؤولين، والتجوّل لمشاهدة معالم العاصمة، والانتظار المشوب بالقلق، قابلت الرئيس سالم ربيع علي" وصادف ذلك مساء اليوم السابق لمغادرتي. تحدّث الرئيس بالتفصيل عن شكاوى عدن من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ثم أعلن خبراً جيداً، أن الناخب في دائرتي الانتخابية، الذي كان الرئيس علي يشير إليه بعبارة "السجين"، سيطلق سراحه، ويُعهد به إليّ تلك الليلة، ويُسمح له بمرافقتي لدى رحيلي في صباح اليوم التالي.
كانت رحلة إطلاق فرانكلين من السجن أكثر من مجرّد مثال غير عادي على خدمة الناخبين. لقد برهنت أنها مَعْلَم مهمّ في حياتي. إنني إذ أتذكّر، أدرك أن عدن كانت أول محطة لي في استكشاف العالم الإسلامي. وفي المحطات التالية التي توقفتُ فيها، فتحت عينيّ على ثقافة مستندة إلى الشرف والكرامة وقيمة كل إنسان، علاوة على التسامح وطلب العلم" وهي معايير، عرفت، في ما بعد، أنها متأصّلة عميقاً في الدين الإسلامي. إنها أهداف كانت ستلقى استحسان أجدادي المسيحيين.
وفي ذلك البلد النائي تعرّفت، للمرة الاولى، إلى ديانة يؤمن بها أكثر من بليون نسمة يشغلون أنحاء العالم كافة. إنهم جماعة دينية لا يفوقها عدداً سوى المسيحيين الذين يبلغ تعدادهم ما يزيد على بليوني نسمة. لم أكن أدرك، في حينه، أنهم كانوا في طور أن يصبحوا أقلّية كبيرة ومتنامية في أميركا. كما لم أدرك أن بينهم قادة في مجالات الأعمال والتجارة والعلوم والفنون والجامعات والمهن والرياضة. ولم أكن واعياً حقيقة فحواها أن الصور النمطية الشائعة الانتشار شوهت كثيراً تصوّرات الناس عن المسلمين، على رغم مساهماتهم المثيرة للإعجاب في المجتمع الأميركي" وجعلت طاقتهم الكامنة الكبيرة، المسخّرة للخدمة العامة، غير معترف بها، ولا يستفاد منها إلا لماماً.
دافع عنّي زملاء يهود ديمقراطيون وجمهوريون، وقفوا ضدّ ما اتّهمت به. إلا أن الوصمة كانت انتشرت على نطاق واسع، إلى حدّ جعلني أستنتج أنه يستحيل محوها. وحتى هذا اليوم عندما أقابل يهوديّاً، للمرة الاولى، أتساءل إن كان قد حكم عليّ مقدّماً على أساس صفة التعصّب المقيتة. لقد جعلتني هذه التجربة الشخصية مع الصور النمطية أصمّم بحزم على الاحتجاج، عندما يعاني آخرون تُلصق بهم صفات مضلّلة" وكانت أحد العوامل التي دفعتني الى تأليف هذا الكتاب.
لم يحدث اكتشافي للإسلام عبر إلهام مفاجئ، مثل اكتشاف صندوق كنوز في الزاوية المظلمة في العلّية، بل كان فهمي له كالدرر تتبدّى الواحدة بعد الأخرى مع مرور الزمن. وكان كلّ اكتشاف يثير فضولاً وأسئلة جديدة. لم تشتمل رحلتي على شكليات التعليم في غرفة الصف، أو الاطّلاع على الأدلّة الدراسية والقوائم بأسماء كتب للمطالعة، أو حتى، مع استثناءات قليلة، مناقشات مع علماء مسلمين معروفين. عرفت ما عرفته عن الإسلام من عشرات المسلمين العاديين الذين يعملون في مهن مختلفة، ويقطنون في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة وخارجها. إنني أقدّم الإسلام، في هذا الكتاب، كما يفهمه ويمارسه المسلمون العاديون. وفي حين أنني أعرض فيه نقاط اختلافهم في بعض مسائل العقيدة والممارسة، أعرض وحدتهم حول المبادئ الأساسية التي تتقدّم على كل ما عداها.
كنت، قبل بدء رحلتي، أحمل هموماً متّسمة بالتشاؤم عن صراع وشيك بين الحضارات، صراع بين الحضارات الشرقية والحضارات الغربية. سمعت الكثير عن الأخلاق اليهودية المسيحية" بيد أن أحداً لم يتحدّث عن الأخلاق اليهودية المسيحية الإسلامية. لقد أصبح الإسلام، في عملية الاستبعاد هذه، شيئاً غريباً وبعيداً ومثيراً للقلق في ذهني. وبسبب إحجام المسلمين، أو غيرهم، عن تصحيح هذا التصوّر، اعتقدت أن المسيحية واليهودية مرتبطتان معاً، وتشكّلان جبهة الغرب المتمدّن والتقدّمي، على الخط الفاصل العظيم الذي يقف على جبهته الأخرى الإسلام، الذي اعتبرته، خطأً، القوة المتخلّفة والخطرة في الشرق العربي. لقد انتشرت هذه الصور النمطية في الحياة اليومية في أميركا" وشكّلت نظرة إلى العالم أدرك، حالياً، أنها غير صحيحة وأنّها مضلّلة.
هذا لا يعني أنني، الآن، أنظر إلى كلّ المسلمين نظرتي إلى شخص كامل الصفات. فسوء تصرّف بعض المسلمين، شأنه شأن سوء تصرف بعض المسيحيين واليهود، ينتهك التزاماتهم الدينية. إنه نفاق ويستحقّ الشجب، وفقاً لأيّ مقياس. بيد أنني أجد معظم المسلمين طيّبين أرحّب بهم كجيران. إن الإسلام ليس شرقيّاً محضاً، كما أنه ليس عربيّاً في معظمه. ويفوق عدد المسلمين، في الولايات المتحدة اليوم، عدد اليهود. وهذا يعني أنه ينبغي اعتبار المسلمين، في المعنى الديموغرافي، أميركيين، شأنهم شأن اليهود.
اكتشفت، خلال زيارتي عدن، أن للإسلام واليهودية والمسيحية جذوراً مشتركة تتّصل بالنبي إبراهيم وأن هذه الديانات تشترك في معتقدات وتقاليد ومعايير سلوك مهمة.
وتعلّمت، في مراحل لاحقة من مسيرتي، أن الإسلام، مثل المسيحية واليهودية، متأصّل في السلام والانسجام والمسؤولية العائلية واحترام الأديان والتواضع والعدل لكلّ البشر، تحت رحمة إله واحد. إن الإسلام دين عالمي متعدّد الثقافات، ومتعدّد الأعراق، يدعو إلى الأخوّة والمساواة بين الناس جميعاً، بغضّ النظر عن العرق أو الجنسية أو العقيدة الدينية.
ومع هذه المعتقدات الأساسية والمشتركة، يواجه المسلمون مصاعب يومية في مجتمع أميركا المسيحيّ في غالبيته. إن معظم الأميركيين لا يعرفون أيّ مسلم" وما زالوا غافلين عن وجود المسلمين المتنامي بوتيرة سريعة في الولايات المتحدة. ولم يناقشوا يوماً الإسلام مع أي شخص مطّلع على هذا الدين. ولم يقرأوا يوماً آية واحدة من القرآن الكريم. وتنبع معظم تصوّراتهم عن الإسلام من الصور السلبية المزيّفة التي تظهرها التقارير الإخبارية، والأفلام والمسلسلات التلفزيونية، والحوارات في الإذاعة والتلفزيون.
كما أن معظم الأميركيين لا يتعمّد تجاهل المسلمين، أو حمل آراء معادية لممارساتهم الدينية وعاداتهم. إلا أن التحدّيات التي يواجهها المسلمون تماثل، في حدّها الأدنى، قساوة التمييز الذي لقيه اليهود في الولايات المتحدة، في الماضي القريب.
وأهدف من هذا الكتاب إلى التفاهم والتسامح والتعاون بين الأديان. أنا لست مبشّراً يحاول أن يهدي الكفّار إلى الدين الإسلامي. كما أنني لست حجّة في الإسلام، ولا أسعى إلاّ إلى تعزيز فهم الدين فهماً صحيحاً، وهو هدف يتطلّب قيادة كفوءة ومثابرة، ولا سيما من جانب المسلمين. وينبغي أن يتوفّر للقيادة مستوى في المجتمع ممثّلاً بالأسرة والمحلّة والمدرسة ووسائل الإعلام" والأهمّ من كلّ شيء في ميدان العمل السياسي. ولا بدّ أن يصبح المسلمون، بأعداد متزايدة، مشاركين فاعلين في الحلبة السياسية الأميركية.
زرت واشنطن العاصمة مراهقاً ووجدت العنصرية متفشّية على مسافة بضعة مبانٍ من قبة الكابيتول. وفي عصر يومٍ من أيّام تلك الزيارة، أقلّتني حافلة انتقلت بي عبر الجسر التذكاري. وعندما وصلت الحافلة إلى الجهة الأخرى، حيث تقع فرجينيا، توقّف السائق، ورفض مواصلة الرحلة إلاّ بعد انتقال الركاب الأميركيين الأفارقة إلى المقاعد الخلفية. شعرت بالانزعاج من هذا السلوك الذي كان من الآثار المهينة للعبودية.
وخلال أداء الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية، اكتشفت العنصرية المتأصّلة عميقاً في البحرية الأميركية. كان الأميركيون الأفارقة يُعزلون عن الآخرين، ويكلفون عادة مهامّ وضيعة. وكان الضباط جميعاً من البيض. وحيال ذلك، قرّرت أن أضع مسألة الارتقاء بحقوق الإنسان في جدول أعمالي بعد الحرب. وصمّمت على حتميّة اجتثاث العنصرية.
وفي 1944، اشتركت كتيبة سيبي، التي كنت أخدم فيها، في الغزو الضخم الذي حرّر جزيرة غوام من اليابانيين. وبعد خمسة عشر شهراً، وعقب استسلام اليابان، اشتركت كتيبتي في احتلالها. وبُعيدَ الإنزال، قدت سيارة جيب إلى مدينة ناغازاكي المجاورة، حيث قَتلت قنبلة ذرية أميركية واحدة أكثر من ستين ألف مدني قبل وصولي ببضعة أسابيع" وأرغمت اليابان على إنهاء الأعمال الحربية. استكشفت دائرة الركام، التي بلغ قطرها أكثر من ميلين، وكانت هي كل ما بقي من تلك المدينة الصناعية الكبيرة، بعد انفجار القنبلة. وتأمّلت في القوة المخيفة للذرّة.
وأقنعتني زيارتي ناغازاكي أنه، إذا نشبت حرب ذرية في المستقبل، فقد تؤدّي إلى تدمير البشرية كافة. وارتأيت أن هؤلاء الذين كافحوا منّا بنجاح ضد قوات أدولف هتلر والطغمة العسكرية اليابانية، ملزمون أخلاقيّاً باستثمار النهج المتواصل نفسه من أجل نظام دولي جديد يضمن السلام العالمي الدائم. وتذكّرت أن الحرب العالمية الأولى كانت تسمى أحياناً "الحرب لإنهاء الحروب كافة". إلا أنها بدلاً من ذلك كانت مقدّمة لحرب أخرى أكثر تدميراً. وخشيت أن تكون الحرب التالية أسوأ" فأضفت، إلى جدول أعمالي لما بعد الحرب، هدفاً آخر، هو وجوب ذهاب الحرب، أيضاً، إلى غير رجعة.
اقتنعت بأن من الممكن تجنّب حرب أخرى، اذا شكّلت الدول الديموقراطية المتمرّسة اتّحاداً فيديرالياً، كالذي اقترحه كلارنس ستريت، مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" للشؤون الخارجية، في كتابه "الاتحاد الآن". فقد اقترح ستريت تشكيل حكومة جديدة عظمى، تحوّل الدول الصناعية المستقلّة الرئيسة، هي الولايات المتحدة وأربع عشرة دولة ديموقراطية أخرى، إلى اتّحاد كبير يبلغ من القوّة ما يكفي، في رأيه، لردع العدوان في أيّ مكان من العالم. وفي الوقت نفسه، يصون الحريات الفردية الأساسية في كل مكان. كنت أتبادل الرسائل مع ستريت أثناء السنوات التي قضيتُها في البحرية" وساعدته، عقب الحرب، على إصدار مجلّة شهرية في العاصمة واشنطن في عنوان "الحرية والاتحاد"" إلا أنها لم تعمّر.
وبعد 18 شهراً من ذلك، اتّخذت الخطوة التي مهّدت لي، في النهاية، الطريق إلى تولّي مناصبي التمثيلية، من طريق الانتخابات" إذ أصبحت محرّراً وشريكاً في ملكية صحيفة أسبوعية صغيرة في ريف إيلينوي. فقد زوّدني هذا المنصب بوسيلة كانت متنفّساً لآرائي السياسية" كما ساعدني في إقامة أواصر متينة مع معارف لي في أنحاء غرب إيلينوي الوسطى، أثبتت أنها رصيد مهم جدّاً، عندما خضت حملة انتخابية ناجحة لعضوية الكونغرس في 1960.
وعندما أقسمت اليمين، بصفتي عضواً في مجلس النواب الأميركي في كانون الثاني يناير 1961، لم تكن أي من المسائل التي شعرت بضرورة الاهتمام بها، تخصّ المسلمين أو الشرق الأوسط. إذ لم تكن لديّ، في حينه، أي فكرة عمّا تعنيه كلمتا الإسلام والمسلمين. ولو أن أحداً طلب مني أن أُسمّي أقطار الشرق الأوسط حينذاك، لما استطعت ذكر سوى القليل. لم أكن أعي المسائل المعقّدة والمصالح الضخمة التي تتركز في تلك المنطقة. وكانت انطباعاتي القليلة عن الإسلام والشرق الأوسط غير دقيقة. وكنت في ذلك شريكاً لمعظم زملائي في مبنى الكابيتول الذين كانوا على مستوى مشابه من الجهل واللامبالاة بالعالم الإسلامي.
بيد أن أهدافي نشأت من نزعة مثالية على نطاق كبير. أردت المساعدة في سن قوانين ترتقي بحقوق الإنسان، ولا سيما حقوق الأميركيين الأفارقة، وتشجّع على قيام مؤسّسة دولية جديدة تمنع الحرب. وعملت بحماسة لسنّ قوانين الحقوق المدنية في الستينات، على رغم علمي أنني كنت أصوّت تأييداً لمقترحات مرفوضة من عامّة الناس في المنطقة التي أمثّلها. وعندما أتذكّر تلك الحقبة، يبرز اقتراعي، تأييداً لتلك التشريعات، بوصفه الإنجاز الأكثر بعثاً على الرضى في مسيرتي في الكونغرس.
شرعتُ، عام 1963، في العمل لتحسين علاقات الولايات المتحدة المتوتّرة مع فرنسا، الحليف الرئيسي في منظمة حلف شمال الأطلسي. وتسبّبت في إثارة عاصفة صغيرة، عام 1965، في مبنى الكابيتول، وفي منطقتي، عندما قدت مجموعة صغيرة من الزملاء الجمهوريين في بعثة إلى باريس لتقصّي الحقائق، استغرقت أسبوعاً واحداً، وكانت مثيرة للجدل. كما تسببتُ في احتجاج أوسع عام 1966، عندما دعوت، في خطاب ألقيته في جامعة هارفرد، إلى تطبيع العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية.
وفي 1967، خلال سنتي السابعة في الكونغرس، عيّنت عضواً في لجنة الشؤون الخارجية. وفي وقت لاحق من تلك السنة، وبمساعدة تحالف موقت بين الحزبين، شهدت تقدّماً في ما يتعلق بمشروع قرار تشكيل الاتحاد الأطلسي، المُستلهم من اقتراح كلارنس ستريت. وعلى رغم أن مشروع القرار هذا دين بوصفه مناقضاً للمصالح الأميركية، دانته مجموعات سمّيتها المواطنين المضللين، إلا أنه أُقرّ في لجنتَيْ الشؤون الخارجية والقوانين، في مجلس النواب. ومع التأييد القوي الذي ناله في المناظرات، ومع مصادقة عضوي الكونغرس جون أندرسن عن ولاية إيلينوي، وموريس أودال، عن ولاية أريزونا اللذين ترشّحا في ما بعد لمنصب الرئاسة، فإن مشروع القرار هُزِم بفارق 18 صوتاً.
ولا بد أن أنوّه بمناقب أودال واندرسن الفذّة: فهما يتحلّيان بالشجاعة وروح الدعابة المبهجة والبصيرة السياسية. فبعد سنوات، وتحديداً في ربيع 1976، أثار أودال عاصفة من الضحك، عندما عقّب على فشله في نيل ترشيح الحزب الديموقراطي له للرئاسة، بقوله للصحافيين: "لقد نطق الناس، الأوغاد الأغبياء".
ولا شك في أن ردة فعله كانت مماثلة قبل سبع سنوات من ذلك، أي عام 1973، عندما قرّرت مجموعتنا، التي ضمت أعضاء من الحزبين، أن تضع حلم الاتحاد على الرفّ. فعلى رغم الدعم الإضافي الذي قدّمه بول سايمون، عضو الكونغرس عن إيلينوي، والذي بدوره ترشّح في ما بعد لمنصب الرئاسة، فإن "الوطنيين المضلّلين" نجحوا في إضعاف قاعدة دعمنا للمشروع، فأسقط بفارق أكبر من السابق.
ربما جعلتني الخلافات، التي أحاطت بتلك المبادرات التشريعية المبكرة، في وضع مهيّأ للتحديات التي واجهتني، عندما سعيت من أجل تبنّي سياسة أميركية متوازنة في الشرق الأوسط، تنصف العرب والإسرائيليين. أصبحت عضواً في لجنة الشؤون الخارجية قبل بضعة أشهر من نشوب الحرب العربية الإسرائيلية في حزيران يونيو 1967. ولم تكن لديّ صلة معروفة بأيّ مسلم في ذلك الوقت. ولم يحصل ذلك إلا بعد 3 سنوات، وحتى هذا لم يكن سوى تجربة عابرة.
وخلال محادثة مع السفير المصري أشرف غربال، الذي نمت بيني وبينه صداقة متينة، سألته عرَضاً إن كان مسلماً" فرمقني بنظرة تنم عن الدهشة" إلا أنه أكّد ذلك بودّ. كنت آنذاك، في الحادية والخمسين من العمر. وحتى ذلك الوقت لم يكن للمسلمين أي وجود في حياتي. ولم يكن هناك مسلمون في بلدتي، إيلينوي. ولم يكن هناك أي مسلم بين الطلبة أو الأساتذة في الكلية التي درست فيها. وخلال سنواتي الثلاث التي قضيتها في البحرية أخوض غمار الحرب العالمية الثانية، وفي الأعوام الثلاثة عشر التي عملت خلالها رئيساً لتحرير صحيفة أسبوعية، لم أصادف مسلماً واحداً.
وفي 1972، وجّه إلينا غربال دعوة لزيارة مصر، شملت دعوته زوجتي لوسيل وولدينا ديان وكريغ. لبّينا الدعوة في تموز يوليو 1972، وقضينا أسبوعاً مثيراً هناك، شاهدنا خلاله آثار مصر الرائعة، واستوقفتنا مشاكلها الأمنية الراهنة. وقوبلنا بالترحاب في البيوت والمكاتب، وقابلنا عدداً من المسلمين. غير أن الأحاديث كافة تمحورت، بلا شك، حول الحياة السياسية وخطر نشوب الحرب، ولم تتناول الدين.
في ذلك الوقت، كانت تنتشر في القاهرة معالم تذكّر بالحرب العربية الإسرائيلية التي نشبت عام 1967، وتكبّدت مصر فيها خسائر جسيمة. فما انتشر في أنحاء المدينة من مبانٍ حيوية، فضلاً عن كنوز المتاحف، وضعت عنده الحكومة المصرية أكياس الرمل الواقية تخوّفاً من احتمال استئناف إسرائيل غاراتها الجوية. لم تكن أعيدت العلاقات الدبيلوماسية الكاملة بين مصر والولايات المتحدة، بعدما قطعت بسبب الحرب الحاصلة قبل خمس سنوات. وكانت القوات الإسرائيلية لا تزال تحتل شبه جزيرة سيناء ...
اشتملت مهمة الإنقاذ، التي قادتني إلى الجمهورية اليمنية الديموقراطية الشعبية عام 1974، على التوقف في محطتين، تمثّلتا ببلدين إسلاميين آخرين، هما لبنان وسورية. وفي المناقشات التي أجريتها في بيروت ودمشق، وكذلك في عدن، تسنّى لي، للمرة الأولى، أن أطّلع على حقيقة الشكاوى العربية من السياسة الأميركية، وتوسّع فهمي للصراع العربي الإسرائيلي1.
تلت هذه التجربة الطويلة القاسية، على خط النار السياسي للشرق الأوسط، سنتان من البحث المجهد، جمعتُ خلالهما المعلومات، وألّفت كتاباً في عنوان "من يجرؤ على الكلام". وكان مثار دهشة لي ما لقيه الكتاب من رواج واسع فور صدوره" فقد تجاوزت المبيعات 300 ألف نسخة. وتدفقت من القرّاء رسائل متّسمة بالحماسة. كذلك تلقيت أكثر من تسعمِئة رسالة خلال الأشهر القليلة الأولى من صدوره. وأجريت معي، ابتداء من صيف 1985، أكثر من أربعين مقابلة، أجْرتها وسائل الإعلام، على الساحلين الشرقي والغربي وفي المدن الكبيرة الواقعة بينهما. ولبّيت، خلال فترة ثلاثة أعوام، دعوات كثيرة لإلقاء محاضرات في الكلّيات والجامعات الأميركية، نظّمتها مجموعات طلابية عربية. كما أنني، في مناسبات شتى، حاضرت في كندا واليمن والأردن والإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية والعراق وإنكلترا ومصر. ومن جرّاء هذه المحاضرات، شاركت في تجمّعات كثيرة كبيرة وصغيرة. واستمعت، خلال المناقشات غير الرسمية التي أجريتها في مدن عدة، إلى مواطنين من أصل عربي، شرحوا لي المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يواجهونها في الحياة اليومية.
أحدث الكتاب تغييرات عميقة في حياتي، وفتح أمامي أبواباً جديدة مثيرة. فهو أسهم في مجيء المسلمين إليّ، وذهابي إليهم. وفي عام 1989، شكّلت الحماسة لفكرة كتابي حافزاً لمجموعة من الرجال والنساء، اندفعوا إلى مساعدتي على تأسيس مجلس المصالح القومية CNI، وهو منظّمة مقرّها في واشنطن، وتضم زهاء خمسة آلاف أميركي يسعون إلى تبنّي سياسات أميركية متوازنة في الشرق الأوسط. وساعد عدد من المسلمين، إضافة إلى مسيحيين ويهود، على عقد الاجتماع التنظيمي للمجلس. وما زالوا أعضاء بارزين في قيادته. كما وفّروا الدعم له. ويترأّس المجلس جين بيرد، وهو من قدامى موظّفي وزارة الخارجية الأميركية. وفي وقت لاحق تلك السنة، أرسل طالب مسلم شريط فيديو، يضمّ محاضرة ألقيتها في جامعة ولاية كنساس، إلى مركز الانتشار الإسلامي الدولي في مدينة دوربان في جنوب إفريقيا، وهو منظمة توزّع وثائق وأشرطة فيديو إسلامية في أنحاء العالم.
وفي أيار مايو 1989، وصلتني رسالة من أحمد ديدات، رئيس المركز، دعاني فيها، مع زوجتي لوسيل، لزيارة كيب تاون، حيث أراد مني أن أشاركه في مخاطبة تجمّع عام. قبلنا الدعوة، وقطعنا نصف الطريق حول العالم إلى جنوب إفريقيا. وكانت تلك الرحلة واحدة من رحلات عدة شاركتني فيها لوسيل، على طريق استكشاف الإسلام. وهذه تجربة أثرَت حياتنا، أكثر ممّا أثراه زواجنا المختلط" وعقدنا خلالها صداقات مع ناس ينتمون إلى أديان أخرى. فلوسيل نشأت كاثوليكية، يتحدر والدها من أجداد فرنسيين، ووالدتها من أسلاف إيرلنديين. أما جذوري المشيخية البروتستانتية، فتعود إلى اسكتلندا. بيد أن الصداقات الوثيقة، التي عقدناها في السنوات الأخيرة مع جيران لنا من الهندوس، عائلة برابهاكار وعائلة أياغاري، ساهمت في توسيع أفقنا الديني أكثر من ذي قبل، وجعلتنا نشعر بالارتياح الى صحبة ناس من عقائد دينية أخرى، ونعزف عن الادعاء بأننا، في ديانتنا، أقوم أخلاقاً من الآخرين.
دفعتني تلك التجارب إلى الاحتجاج على التحيّز ضد العرب في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، عندما عدت إلى مبنى الكابيتول من اليمن. انتقدت فشل حكومتنا في إعادة العلاقات الديبلوماسية مع حكومة عدن ودول عربية أخرى، كانت قطعت علاقاتها مع واشنطن إبّان حرب حزيران يونيو 1967. وطالبت الحكومة الأميركية بإلحاح، بوقف تقديم المساعدات كافّة إلى إسرائيل، حتى تكفّ عن انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، وتوقف الهجمات العسكرية ضد لبنان. وكانت حجتي أن الانحياز ضد العرب، في المدى البعيد، محفوف بالمخاطر، يلحق الضرر بمصالح الولايات المتحدة ومصالح إسرائيل أيضاً.
استغرقت حملة الاحتجاج ضد هذا التحيّز ثمانية أعوام، واجهت خلالها معارضة متصاعدة. كنت وحدي الذي يناصر اتّباع سياسة متوازنة، وهو موقف كان يلقى معارضة قوية في مبنى الكابيتول، وفي ولاية إيلينوي. وأصبحت الحملة، في النهاية عاملاً رئيسياً من العوامل التي أدّت إلى هزيمتي يوم الانتخابات في تشرين الثاني نوفمبر 1982.
كانت لقاءاتي مع ديدات ومساعديه تجربة في المعرفة، اكتسبت جانباً كبيراً من الأهمية. وكنت، خلال محاضرات ومناسبات نُظّمت من أجل الترويج للكتاب، تحدثت مع عدد من المسلمين في الولايات المتحدة. إلا أنني، حتى إجراء مناقشاتي في جنوب إفريقيا، لم أكن أدرك مدى زيف الصور النمطية عن الإسلام. كما أنني لم أكن أعي النمو السريع للسكان المسلمين في الولايات المتحدة. فعلى رغم استغراقي العميق المتواصل في السياسة العربية الأميركية وسياسة الشرق الأوسط، فإنني أغفلت هذه التطوّرات.
كان الحوار في دوربان متّصلاً بالممارسات الإسلامية والمبادئ الإسلامية أيضاً. وخلال مناقشة من المناقشات، بذل أحد مساعدي ديدات جهده لتصحيح طريقة لفظي كلمة مسلم. ومنذ ذلك الحين، وأنا أشجّع الآخرين على لفظ الكلمة لفظاً صحيحاً. قد يبدو هذا الأمر تافهاً" ولكنني تعلمت، منذ زمن طويل، أن اللفظ الصحيح للأسماء يوحي بالاحترام لهوية الشخص، ويستتبع ذلك وجوب احترام هوية المرء الدينية ولفظها لفظاً صحيحاً.
تركّزت معظم المناقشات، في جنوب إفريقيا، على ما لدى المسيحيين من أفكار خاطئة عن الإسلام. ومن الصور النمطية الكثيرة التي جرى تناولها، برزت خمسٌ اعتُبرت العائق الأكبر أمام الانسجام والتعاون بين الديانات والثقافات. فهي تربط الإسلام بالإرهاب والتعصّب واستعباد المرأة وانعدام التسامح تجاه غير المسلمين والعداء للديموقراطية وعبادة إله غريب وانتقامي.
وسوف أوضح في الصفحات التالية هذه الصور النمطية، المأخوذة في معظمها، من تجاربي الشخصية. وأقدّم لمحة، مجرّد لمحة، عمّا يجري عمله لتعزيز الفهم الدقيق للإسلام. فهذا الكتاب، في ناحية من نواحيه، مفكّرة لرحلتي الاستكشافية التي صحّحت، خلالها، صوراً نمطية حملتها طويلاً. ولكنه أكثر من ذلك: إنه سجّل جهود متواصلة بذلها مسلمون ومسيحيون ويهود أيضاً، هم رواد شجعان يشكّلون الطليعة في قضية مهمة، ولكنّها مُهملة منذ وقت طويل. وأنا واثق أن هناك الآلاف غيري من الذين لهم في هذا المجال أعمال مهمّة، إلا أنني لم أعلم بها.
إن أتباع الديانة الإسلامية، بما يمتلكون من معرفة وتجارب وحوافز، هم الأقدر على الدفع قدماً بعملية التصحيح. ولحسن الحظ، كان انهماك المسلمين المباشر في هذه القضية مهمّاً ومتنامياً. ولكن من المؤسف ألا يشارك معظم المسلمين فيها. وبإمكاننا أن نفهم تردّدهم، إذ إن الكثير من المهاجرين قادمون من بلدان ينعدم فيها النشاط السياسي، أو ينحصر في حدود ضيقة. وهم يتردّدون في ولوج مجال يبدو لهم بلا قواعد ولا ضوابط، وينذر بسوء العواقب، وغالباً ما يورِّط المرشحين في عمليات الرشق بالتهم والتهمِ المضادة.
ثمة حقيقة أخرى مثبطة للهمم، هي الجانب القذر والجانب الأسوأ وغير الجذّاب للسياسة والسياسيين، الذي يسود التقارير الإخبارية في الولايات المتحدة. وأعرف، من خبرة سنوات طويلة في الحياة السياسية، أن معظم المسؤولين المنتخبين صادقون مجتهدون في عملهم" غير أن وسائل الإعلام تركّز على الذنوب ولو كانت نادرة. ويبدو الفساد، على الدوام، كامناً عند حافة السياسة" وأحياناً، مندسّاً في وسطها. ولكن هذه الحقائق الكئيبة ينبغي ألا تثبط همم الطيبين من الناس، خصوصاً أولئك الذين تدعوهم عقيدتهم الدينية إلى الحياة القويمة" وألاّ تثنيهم عن الانضمام إلى الروّاد. عليهم أن يقبلوا مسؤولية المشاركة في العملية التي تقرّر في النهاية ماهية السياسات التي سينتهجها الحكم، ومن سينفّذها.
إن الانخراط في النشاط السياسي ينطوي، في رأيي، على ضمانٍ بالفوز لكل من يشارك فيه. فعندما يشارك فيه المسلمون، يوسّعون نطاق التعارف بين الأديان ويعزّزون احترامها. وعندما ينضمّ غير المسلمين إلى هذه النشاطات، فإن قضيتهم المشتركة ولقاءاتهم الشخصية مع معتنقي الإسلام، ستبدّد الأفكار الخاطئة التي تشوّه الرؤية الأميركية لهذه العقيدة الدينية، وتخفّف من كرب المسلمين، وهو الحصيلة المحتومة لتكوين الصور والأفكار النمطية. وستعزّز هذه الجهود، مع الوقت، نوعية حياة المسلمين في بلادهم وخارجها، وتعزّز، سجلّ أميركا، بصفتها بلاد العدل والتسامح.
أصبح دوري، كعامل تغيير في هذه العملية، موضوعاً لمناقشة جرت بعدما ألقيت، في أيلول سبتمبر 1999، محاضرة أمام تجمّع إسلامي في بومونا في كاليفورنيا. فقد سمعت ملاحظاتي طبيبة الأسنان الشابة، نازحق، التي تقدّم خدماتها في مستوصف قريب ساعدت على تأسيسه للأطفال الفقراء" فجاءتني لتطرح عليّ هذا السؤال: "بصفتي مسلمة، أرغب في معرفة السبب الذي دفعك كمسيحي أن تصبح شديد الاهتمام بالانطباعات الخاطئة عن الإسلام. هل هو شخص أم حدث معيّن؟".
لم يسبق أن وجّه إلي أحد هذا السؤال. توقفت برهة لكي أستجمع أفكاري، ثم قلت لها إن السبب كان عملية تراكمية" فقد اقتنعت، بمرور السنين، بأن تصحيح هذه الأفكار الخاطئة خطوة مهمّة نحو سلام عادل في الشرق الأوسط، بل خطوة جوهرية. ولم يكن من الصعب أن أفهم لماذا استجابت لهذا التصريح بنظرة متّسمة بالحيرة.
ولحسن الحظ، منحتني بعض الوقت لأشرح أن الصور النمطية عن الإسلام مؤذية، في رأيي، للأميركيين جميعاً، وليس للمسلمين وحدهم. فهي تشكّل، في نطاق الأحياء السكنية، عقبة في وجه التسامح والانسجام بين الأديان، إذ تسبب الانزعاج والارتياب والقلق وحتى الخوف، وتؤدّي إلى العنف أحياناً. أما في واشنطن، فإنها تخلق مناخاً غير ملائم، تُسنّ فيه القوانين التي تلحق الضرر بالحريات المدنية، مثل القانون الذي يسمح بتبنّي الأدلّة السرية في المحاكمات التي تنظر في قضايا طرد الأجانب. وعلى مستوى أعلى، تقوّي هذه الصور النمطية عن الإسلام الانحياز في السياسة الخارجية" وتلحق الأذى بسمعة أميركا، وتعيق، على نحو خطير، قدرة بلدنا على النهوض بأعباء القيادة الدولية الفعّالة لحقوق الإنسان، وليس لحقوق المسلمين وحدهم.
وقبل أن أغادر القاعة، خاطبت نازحق لكي أضيف بعض الأفكار. قلت لها إنني لست راضياً عن الجواب الذي أعطيته، لأنني أغفلت شرح كيفية إزالة الصور النمطية بأسرع طريقة ممكنة. فإزالتها تتطلّب العمل السياسي، أي السياسة بمعناها الأوسع. والأميركيون جميعاً، من مسيحيين مثلي ومسلمين، يتحمّلون مسؤولية العمل. واعترفت لها بأن عملها يساعد الأطفال الفقراء. لكنني طلبت منها بإلحاحٍ تولّي مسؤولية كبيرة في الميدان السياسي. فالصور النمطية عن المسلمين تنبغي إزالتها، وإزالتها بسرعة. وقلت إن قبول المسؤولية في هذه القضية ينبغي ألا يؤثّر في خدماتها للأطفال. فأداء دور بنّاء في الميدان السياسي هو، في الواقع، خدمة للأميركيين من الأعمار كافة.
قالت مبتسمة: "سأفكّر في الأمر".
وربما فعل القارئ أيضاً الشيء نفسه.
هوامش
1 They Dare to Speak Out, pp.1-12.
* يصدر الكتاب عن شركة المطبوعات في بيروت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.