"طرق والدي باب غرفتي في وقت متأخر من الليل ولم أفتح له. كنت في الثالثة عشرة من العمر، أي في أولى سنين المراهقة ولم أكن أتمتع بسعة صدر لأتحدث معه. استيقظت في اليوم التالي ووجدته ميتاً. أشعر اليوم بندم كبير لأنني لم أفتح له الباب في تلك الليلة، لأنني لو فعلت ذلك لكان على الأرجح اليوم على قيد الحياة. لا أعرف إذا كان يريد ان يودعني للمرة الأخيرة أم أنه كان سيطلب مني المساعدة". هكذا تكتب فتاة يابانية شهادتها عن انتحار والدها وهي صغيرة. اختارت ان تخرج الآن عن صمتها لتشارك في كتاب شهادات أطفال انتحر أهلهم وتركوهم يتصارعون مع سبب الرحيل عن الحياة. الكتاب أصدرته أخيراً جمعية اشيناغا اكويكاي اليابانية التي تعمل منذ العام 1960 على مساعدة الأطفال الذين خسروا أحد والديهم في حادث انتحار. وبحسب دراسات مطولة أجرتها الجمعية عن حالات انتحار الأب في المجتمع الياباني، تبين ان اليابان تحتل المراتب الأولى في العالم بنسبة الانتحار، إذ سُجلت في العام 1990 عشرون ألف حالة انتحار وارتفعت النسبة الى ثلاثين ألفاً في العام 2000. وتظهر الدراسات ان معظم المنتحرين رجال في الخمسين من العمر لهم أسرة، خسروا مراكز عملهم أو كان ضغط العمل عليهم أقوى من طاقتهم فلم يتحملوه وانتحروا. والمعروف ان المجتمع الياباني من أكثر المجتمعات المحافظة في العالم إذ يقع الدور الأساس في تأمين غطاء مالي يكفي العائلة، على عاتق الرجل. ولكن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها اليابان أوجدت بطالة عالية كما انها أفقدت عدداً كبيراً من أفراد الشريحة المتوسطة مراكز عملهم ودفعتهم الى اتباع المقولة الشهيرة "الموت أشرف بكثير من العيش من دون كرامة". إلا ان مشكلة الانتحار في اليابان كانت دائماً لا تؤخذ على محمل الجد لأنها وبحسب العادات تدخل في نطاق الخصوصيات العائلية. وهذا دفع الدولة الى اتخاذ موقع المراقب السلبي من دون التدخل لمعالجة المسألة. ولكن حال اللامبالاة بدأت تتلاشى بعد ارتفاع عدد المنتحرين في السنوات الأخيرة. وتقوم منظمات انسانية ودينية بمساعدة أطفال من أقدموا على الانتحار وينشرون حملة توعية بين أفراد الشعب الياباني لمعالجة المشاكل الاجتماعية التي تواجه اليابانيين. ويأتي اصدار كتاب شهادات اطفال الآباء المنتحرين الذي حظي بإعجاب كبير من قبل القراء في اليابان في هذا الإطار. ويشرح كويو أوغاوا الذي ساهم في اصدار الكتاب ان "مشروع التوعية الذي نقوم على نشره من خلال شهادات حية، لاقى نجاحاً كبيراً لم نكن نتوقعه. وحصلنا على اتصالات كثيرة من قبل أشخاص كانوا على وشك الانتحار ثم عدلوا عن ذلك، من بينهم رجل قال ان "الكتاب أصبح كنزاً لي أحمله معي أينما ذهبت" هذا الرجل كان يريد ان ينتحر لأنه فشل تجارياً الا ان شهادات الأطفال المحزنة ردعته عن ذلك". ويشرح اوغاوا: "ان هناك نوعين من الرجال يقدمون على الانتحار: الأول من خسر عمله بعد أكثر من ثلاثين سنة ولم يتحمل ان يستيقظ في اليوم التالي ليجد نفسه عاطلاً عن العمل فاختار الانتحار، أما النوع الثاني فهم رجال يعملون أكثر من طاقاتهم لئلا يخسروا وظائفهم، وهذا الضغط الكبير يصل بهم الى مرحلة يستسلمون فيها وينتحرون. ويقول ان السلطات اليابانية لا تفعل أي شيء لمحاربة هذه الحالة لأنها ترى ان الانتحار حالة شخصية خاصة ولا دخل للمجتمع بها. ولكن بعد تلك الأرقام التي توصلنا اليها والتي تظهر ان أعداداً كبيرة من الرجال ينتحرون، يجب على الدولة أن تنظر الى المسألة في شكل أوسع لأنها تتعلق بكل المجتمع". منظمة الناشط الديني أوغاوا تعمل منذ سنة 1960 مع الأطفال الذين خسروا أهلهم. كان عمل المنظمة يقتصر على الاهتمام بالأطفال الذين خسروا أهلهم في حوادث سير، ويشرح أوغاوا انه في "الستينات كان يموت نحو 20 ألف شخص سنوياً في حوادث السير ولكن بعدما قامت الدولة بحملات توعية واسعة في كل البلاد انخفض الرقم ليصبح عشرة آلاف ضحية في السنة. ووجدنا ان حالات الانتحار أصبحت أكثر من الذين يموتون بحوادث السير، فاخترنا ان نركز عملنا على مسألة الانتحار. توصلنا في دراساتنا الى ان هناك نحو 12 ألف طفل يصبحون يتامى كل سنة بسبب الانتحار". ويضيف: "انه كما نجحت الدولة في خفض أعداد قتلى حوادث السير من خلال حملات توعية واسعة يمكنها ان تعمل في الأسلوب نفسه لتخفض حالات الانتحار". ويضرب أوغاوا مثلاً عن مدينة اكيتا اليابانية حيث قرر السكان بالتعاون مع سلطات البلدية القيام بحملة توعية للوصول الى الأشخاص الذين يقعون في دائرة خطر الانتحار. أجرت بلدية مدينة اكيتا دراسات حول الأسباب التي تكمن وراء الانتحار وتم التوصل الى ان جزءاً كبيراً من المنتحرين يعانون من مرض ياباني نفسي منتشر في المجتمع منذ أجيال ويطلق عليه "جمود الروح". لا يحبذ اليابانيون فكرة التخلص من تلك المشكلة النفسية عبر الذهاب الى اطباء ومختصين بل يؤمنون بأن هكذا حالة تختفي وحدها كما تقول التقاليد اليابانية. انه من العيب الذهاب الى طبيب نفساني لأن "المجانين" فقط يحتاجون الى الأطباء النفسيين. الموت بصمت وأظهرت الدراسات ان 10 في المئة من الذين يقدمون على الانتحار يتصلون بطبيب نفسي، أما البقية فيموتون بصمت من دون ان يعرف أو يشعر من حولهم انهم يعانون من أزمة نفسية. ولكن تبين في السنوات الأخيرة ان انتشار الجمعيات الخيرية التي تساعد من يعاني من أمراض نفسية ساهم في كسر دائرة الخجل، اذ يقوم الكثير من هؤلاء بالاتصال بجمعيات انسانية طلباً للمساعدة، مثل المنظمة المسيحية التي تعمل في الليل على تلقي اتصالات من أشخاص في حدود الخطر والتي يشرح مسؤولها وكيكو نيشيهارا انه "من الصعب جداً معرفة ما إذا كان الشخص سيقوم بالانتحار في المجتمع الياباني، لأن البشر هنا معتادون على الاحتفاظ بمشاعرهم"، ويروي حادثة عن طفلة في سن المراهقة اتصلت به ليلاً من مكان قرب جبل فوجي حيث تحصل الكثير من حالات الانتحار. كانت الفتاة على وشك الانتحار إلا انه بعد محادثة طويلة معها عدلت عن رأيها وعادت الى أهلها. ويقول: "بعد الحادثة بأيام قليلة أتت الفتاة مع والديها الى الكنيسة وتحدثوا معي. استغربت كثيراً عندما قال لي والداها انهما لم يشعرا للحظة واحدة ان ابنتهما تعاني من مشكلات نفسية". ويضيف ان حالات الانتحار تضرب الآن الشباب الذين يشعرون انهم يفتقدون الى علاقة صريحة مع أهلهم ما يخلق هوة واسعة بينهم. كما ان النظام المدرسي الصارم يشكل ضغطاً اضافياً عليهم ويسبب لهم المشاكل الكثيرة. ويقول ان المدارس لا تفعل الكثير لقديم المساعدة الى الطلاب الذين يعانون من مشاكل اجتماعية كما انها لا تلقي الضوء على الذين يحاولون الانتحار أو الذين فقدوا أهلهم بالانتحار. أكثر ادارة رسمية ساهمت في مكافحة الانتحار في اليابان، هي ادارة السكك الحديد التي سيجت أكثر الضواحي عرضة لعمليات الانتحار على طول خطوط سكك الحديد. مع ان الهدف الأساس من نشاط الادارة في هذه المسألة كان تقنياً، وحرصاً منها على ألا تعرض مواصلاتها للتأخير بسبب رمي شخص نفسه تحت القطار. وهناك أسباب تاريخية للانتحار في اليابان، منها ان الساموراي ينتحر بطريقة مشرّفة معروفة باسم "هاراكيري" ويطلق عليها اليابانيون اسم "سوبيوكي" إذ يقوم الشخص بغرز سكين في أسفل بطنه قرب الحوض ويسحب الأمعاء الى الخارج. والشائع في العادات اليابانية القديمة انه من الأفضل الانتحار على العيش من دون كرامة، كما ان من العيب ان يقتل الإنسان على يد شخص آخر، لذا يعد الانتحار عملاً أخلاقياً رفيع المستوى يتسم بالشجاعة. والجدير ذكره انه بعد ان استسلمت اليابان في الحرب العالمية الثانية سنة 1945 قام الكثير من اليابانيين الذين شاركوا في الحرب بالانتحار على طريقة هاراكيري قرب قصر القيصر. وبعدما اعتقد بعضهم ان أسلوب هاراكيري انقرض عاد أحد أشهر الشخصيات الأدبية في الياباني الكاتب الياببلني ميشيما ليثبت العكس عندما انتحر سنة 1970 احتجاجاً على تدخل أميركا العسكري الواسع في اليابان. تبعه بعد ذلك الكثير من عمليات الانتحار بين شخصيات مصرفية وتجارية وجدوا انها الطريقة الوحيدة للتخلص من مشكلاتهم المالية بطريقة مشرّفة وتحملوا بذلك مسؤولية أخطاء الجماعة لخسارة مالية حصلت أو للإفلاس على رغم المنتحر ليس دائماً هو من يتسبب بالخسارة. ومن الحالات الشهيرة التي حصلت في اليابان أخيراً انتحار مدير احدى شركات الطيران المحلية بعدما تحطمت طائرة من طاقم الشركة فوجد الانتحار الطريقة الأفضل لتقديم اعتذار لأهل الضحايا وكتب في وصيته "الموت أفضل من الحياة من دون شرف". وما تزال تلك الجملة تتردد حتى الآن إذ يقول نيشيهارا ان "خسارة المرء لشرفه تعني العيش بخجل أبدي، وهذه أتعس حالة يصل اليها الياباني". ويضيف ان خسارة العمل هي أيضاً من الكبائر في المجتمع الياباني لأن الأب مسؤول عن اعانة العائلة مادياً. ومن المعروف انه من الصعب على الفرد الياباني ان يثبت فرديته أمام الجماعة، فالمجتمع يفرض ألا يصبح الفرد عبئاً على أحد لذا عندما يخطئ أحد في عمله أو في عائلته أو مع محيطه فيصبح عبئاً عليهم يشعر بالخجل ومن السهل الإقدام على الانتحار للتخلص من ذلك. الانتحار خطيئة ولكن على رغم انتشار هذه الأعراف في اليابان هناك اختلاف عليها بين شرائح المجتمع الدينية، إذ تعمل الكنيسة على محاربة الانتحار من خلال وصفه بالخطيئة إلا ان البوذية لا تنظر اليه بهذا الشكل. ويعتقد نيشيهارا "ان الإنسان يحق له ان يقدم على الانتحار في حال وجد ذلك حلاً مناسباً له، ولكنني أستغرب بشدة الموقف الياباني الذي يفرض على الإنسان أن يكون دائماً قوياً حتى ولو تعرض لمصاعب مختلفة، ولكن من الواضح ان عادة الساموراي لا تزال تحتل نفوس كثيرين في مجتمعنا". تختلف النظرة البوذية عن المسيحية في قضية ما بعد الموت إذ يعتقد البوذيون ان المنتحر لا يصعد مباشرة الى السماء بل يبقى لفترة طويلة بين أهله. ويضع أهل المنتحر صورة له يقدمون لها طعاماً وشموعاً ما يجعل قضية الموت أقل مأساوية. ويطغى على المجتمع الياباني نوع من سحر الموت إذ ينظر الكثير اليه كحالة برّاقة لأن الحياة قصيرة وغير دائمة. ولكن هذه النظريات لا تنفع في تخفيف حرقة قلب طفل خسر والده. يكتب ذلك الطفل في كتاب الشهادات الذي أصدرته منظمة اشيناغا اكويكاي التي تعنى بشؤون الأطفال الذين انتحر أهلهم: "منح والدي حياته للعائلة ولكنه احتفظ في كل المشاكل لنفسه. اختار ألا يزعج أحداً بمصاعب الحياة التي واجهها ومات وحيداً. أشياء كثيرة كنت أريد القيام بها مع والدي ولم أتمكن. كنت أحلم ان اخرج معه في مشواري الأول الى الحانة لاحتساء أول كأس في حياتي، ولكن الحلم يبقى حلماً ولم يتحقق أبداً".