لاحظتُ كما لاحظ غيري بروز مظاهر إعجاب مفاجئة بالمجتمع الياباني فور انتهاء برنامج خواطر الرائع (الذي قدمه الاستاذ أحمد الشقيري في رمضان الماضي عن التربية والتعليم في اليابان).. ولكن في المقابل لا ننسى أن في الثقافة اليابانية جانبا مظلما يشجع على "الانتحار" وإزهاق النفس بدافع الاحترام والشرف واستدراك الخطأ .. فقبل أيام فقط قرأت في هذه الصحيفة أن عدد المنتحرين هناك تجاوز حاجز الثلاثين ألفاً (للعام الثاني عشر على التوالي) دون احتساب خمسة أضعاف هذا الرقم تم تراجعهم أو استدراكهم "في آخر لحظة" .. وتفيد الاحصائيات أن هناك في المتوسط 90 حالة انتحار في اليوم وقرابة ألف شخص على حافة الانتحار في أي يوم من أيام العام.. وبطبيعة الحال هناك أسباب كثيرة لانتحار اليابانيين كالأسباب الاقتصادية والصحية والعاطفية ولكن يبقى الأهم والأبرز هو الانتحار بسبب الفشل والخجل من مواجهة المجتمع.. فالثقافة اليابانية تحث على الانتحار في حالة الفشل والهزيمة وعدم القدرة على أداء الواجب وهو ما يفسر انتحار كثير من الطلاب بعد انتهاء الامتحانات وكثير من الجنود بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية.. وفي حين تنظر كافة المجتمعات للانتحار (كمأساة شخصية) ينظر اليابانيون للانتحار بسبب التقصير وارتكاب خطأ كوسيلة اعتذار وتكفير واستعادة الاحترام .. وتعود هذه النظرة إلى عشرات القرون وتم تطبيقها على نطاق جماعي واسع خلال الحرب العالمية الثانية .. فرغم أن هزيمة اليابان باتت مؤكدة في نهاية الحرب لم تتوقف هجمات الطيارين الانتحاريين "الكاميكازي" على السفن الأمريكية " ليس على أمل تغيير مجرى الحرب" بل تكفير عن فشلهم في صد الهجوم وتقديم واجب الاعتذارللشعب الياباني.. أما على الأرض فبدأت سلسلة انتحارات صامته بدأت برئيس الوزراء وقادة الجيش والمسؤوليين السياسيين بطريقة الهاراكيري الشهيرة (فاليابانيون هم الشعب الوحيد الذي يملك طقسا مقدسا للانتحار يدعى هاراكيري يتطلب جلوس الضحية على ركبتيه وامساك سيف خاص يغرسه أسفل بطنه ثم يرتفع به الى زاوية الرئتين ويظل على هذه الوضعية حتى يتصفى دمه تماما)!! ورغم اعترافي بوجود دول تفوق اليابان في نسبة الانتحار والمنتحرين (مثل روسيا ودول البلطيق) إلا أن أيا من هذه الدول لا تماثل المجتمع الياباني في النظر للانتحار كوسيلة للتكفير واستعادة الشرف .. فجميع المجتمعات البشرية تعارض فكرة الانتحار بأي عذر وسبب وتحاول مقاومتها بشتى الوسائل والطرق.. أما اليابان فتظل الوحيدة التي يعد فيها الانتحار بسبب الفشل أو ارتكاب خطأ وعدم تأدية واجب بمثابة اعتذار وتكفير ومحاولة أخيرة لاستعادة احترام المجتمع.. وثقافة كهذه هي ما يجعل من انتحار السياسيين والمسؤوليين بعد أي فضيحة أمرا متوقعا وحدثا غير مستغرب في نظر المواطنين وعائلات الضحايا أنفسهم !! ... وفي المقابل لاحظ غفر الله لك وللجميع أن ما يحدث في اليابان يختلف تماما عما يحدث في مجتمعنا المحلي بعد أي فضيحة أو تقصير في أداء الواجب .. فمن منكم مثلا سمع بمسئؤول انتحر أو اعتذر أو استقال أو اختفى خجلا أو حتى "غرق" !!؟ ... ولا يخبرني أحد بأنهم لا يفعلون ذلك خوفاً من الله ...