الروائية إيمان حميدان يونس تخرج في "توت بري" من دائرة الحرب الى موضوع آخر. تختار الكاتبة لعملها مكاناً افتراضياً او واقعياً، فهذا ليس مهماً، ولم تكن العناية بالمكان الا من قبيل ابراز الحس الانثوي في ترتيب مشاهد الطبيعة الجميلة. "عين الطاحون" التي تقع على طرف الوادي الذي يوازي البحر. "اركض على البساط الرطب الملون الذي شق الارض وطلع في اوائل شهر آذار مارس، انني حرة كماء مندلق على ارض ملساء ساخنة". وها هي تصل الى بيتهم، البيت الذي لا نساء له ولكنه يعج بهن، كثيرات يرحن ويجئن و"أبي رجل تجاوز الستين ولا امرأة له وله كل النساء، حين يحل الليل لا يبقى سوى عمتي وأنا ... وفي آخر الليل تُسمع خطوات ابي تقترب من البوابة الخارجية، بوابة حديد سوداء ترتفع بقسوة قرب شجرة جوز معمرة...". في هذا السرد غير المسهب تضعنا الكاتبة امام الشخصيات التي ستدير العمل في المكان المخصص لها. في حكايات وقعت احداثها في عين الطاحون. تبدأ الحكاية: "تأتيني امي في المنام، الوجه نفسه والثياب نفسها التي تبدو فيها في الصورة... خرجت ولم اتجاوز سن الثالثة بعد، نسيت كل شيء عنها، بنيت ذاكرة من كلام مشتت اسمعه من عمتي مع الجارات والقريبات، كيف كانت وكيف اختفت، اثنتا عشرة سنة مضت وما زال الكلام يجري على كل لسان". نحن اذاً امام ام هاربة او اختفت وتركت طفلتها وهي في الثالثة ولم يبق من هذه الأم سوى ذاكرة هشة مأخوذة عن صورة ومن كلام الآخرين عنها... اما الاسئلة عن الاسباب التي ادت الى ذلك فسوف تكوّن المشهد الأفقي للمعمار الروائي. تجري الاحداث قبل الحرب العالمية الاولى بقليل، عندما جاء رجل من الارجنتين هو جد الراوية يفتش عن جذور عائلته التي تركت البلدة خلال حوادث 1860 ولم يجد احداً من افرادها سوى ابراهيم الذي يمت اليه بصلة قرابة بعيدة، وكان ينوي العودة الى الارجنتين لكن اندلاع الحرب اجبره على البقاء، اشترى الحارات وحقول الوادي وبدأ يزرعها بمساعدة ابراهيم بنباتات غريبة حمل بذارها معه "ولم يصادق احداً سوى ابي الذي صار حاميه ومدخله الى سكان البلدة". وهذا الأب هو احد القبضايات في المنطقة وسيكون محور العمل الروائي، لأنه سيدير الاحداث كلاعب شطرنج، ينتصر دائماً بدهاء وينفذ كالشعرة من العجين وهو يتفرج على ضحاياه وهم ينسحقون امامه. يموت القادم من الارجنتين وكان الأب القبضاي قد تزوج ابنته وأنجبت له ابنة، عمرها الآن شهران، وذلك بعد ان طلق زوجته الاولى وكان له منها ولد كبير لم ينتقل الى الحارة الا بعد اختفاء الأم. حبكة الحكاية ستكون في عملية البحث عن الأم، او معرفة سبب اختفائها، فمثل هذا الامر لا يمكن ان يمرره هذا القبضاي بسهولة، فلماذا لم يبحث عنها؟ ولم يكن لديه اي رد فعل تجاه هذا الموضوع. بهذه الاسئلة وغيرها والاجابات الغامضة والمبتسرة تنجز الكاتبة عملها، بعدما تكون تعرضت الى مصائر الناس وحيواتهم ومعاشهم، احلامهم وانكساراتهم وخيباتهم من خلال الدائرة التي يطوفهم بها الأب قبضاي ذلك الزمان. استولى على املاك زوجته ووقعها على سندات وصكوك بالتنازل عن كل شيء من حصتها، وربما يكون هذا هو السبب الذي دعاها الى الهروب، لأنها كانت تظن بأنها توقع على وثائق طلاقها منه وهي لا تتقن اللغة العربية. وها هو الآن تجاوز الستين، يعيش مع ابنته سارة، وأخته شمس وابنه من زوجته الاولى الذي يغيب اياماً ثم يعود ليتشاجر مع ابيه ويكرر سيرته السابقة. يعمل سكان عين الطاحون في صناعة الحرير الطبيعي، ويبدأ الأب، ككل عام، بضمان حقول التوت الابيض في القرى المحيطة وتتحول الحارات الى ورشة كبيرة لمدة شهرين، وخلال الموسم نتابع عمل هذه الورشة الكبيرة في فرش البذور على اطباق القش وتدفئتها الى ان تفقس وتنمو ومن ثم تفرم اوراق التوت لاطعام الدود الجائع ويشرع ابراهيم بنقل الدود الصغير من الاطباق الى اماكن مرتفعة جهزت على سيب من الخشب ومن أغصان الاشجار التي توزعت في صالات الحارة وغرفها. اما ابراهيم فيظل يعمل بصمت والشيخ يعده بحصة كبيرة من هذا الموسم، يفتح فيها بيتاً ويتزوج من شمس... كلام اعتاد عليه كل سنة ولم يتحقق: حصته من الموسم والزواج من العمة التي تجاوزت الثلاثين. قصص كثيرة تروى، اثناء عمل النساء، او اثناء استراحتهن، تحكي تاريخ المنطقة وما مر عليها من حوادث، "شاكي" الارمنية وما لاقته من اهوال، حتى استطاعت ان تنجو من المذابح، ولم يبق لها احد من اسرتها سوى ابنها، الفرنسيون ودخولهم الى لبنان وسورية والثورات ضدهم، حكايات مطيعة التي سكنت في الحارة مع زوجها مدرس اللغة العربية في مدرسة الانكليز...". في "توت بري" سنعاين عن قرب سطوة الشيخ الستيني وهيمنته على اقرب المقربين اليه، لم يكن يكرههم، ولكنه لم يكن يحبهم ايضاً... شخصيات معطوبة، مقهورة، محكومة بدورة الزمن وبقسوة الشيخ الذي كان يقتل فيها انسانيتها لتظل الى جانبه، ابنه الذي اقام علاقة مع مسز "دكستر" مديرة المدرسة الانكليزية املاً منه في السفر والهجرة إن تزوجها وعندما تذهب في العطلة الصيفية الى انكلترا تستأمنه على حراسة المدرسة. لكن اشجار الحديقة تقطع بفعل فاعل، مما اساء الى سمعة المديرة ولم يتم التعاقد معها للعام المقبل. شمس الموعودة بالزواج من ابراهيم في كل موسم، تجاوزت الثلاثين ولم تعد ترغب به صارت تميل لأن تكون شيخة، لكن سيرة الاسرة تحرمها من ذلك، كما يخبرها الشيخ من وراء الستار. الارساليات التبشيرية تتوافد على المنطقة، تتسابق على جذب اكبر عدد من المؤمنين اليها، جاء بهم كريم البروتسنتي والذي سيتزوج من الراوية سارة، من دون موافقة اهلها، مما سيحرمها من الميراث وصارت كافرة وملعونة بنظر العمة والطائفة، فقد قضي على آخر امل لها في المشيخة، وبعد ان يئس الأخ من الهجرة يتزوج ضحى رفيقة اخته سارة، تلك التي تعرفت على انوثتها من خلال رائحة قمصانه، ثم نسي قضية السفر والهجرة وتفرغ لانجاب الاولاد. لا تبدو شخصية الأب مخيفة الى هذا الحد، بل على العكس من ذلك سنجدها شخصية بسيطة، مراوغة، حذرة، انه لا يريد لأحد ان يخرج عن سطوته، يحبهم ويريدهم حوله، وهنا تكمن المأساة، انه يريدهم كما يرغب هو لهم، يخاف من ابتعادهم منه، لذلك كان لا بد من ان يبقى كل شيء على ما هو عليه... تجده يحب الحياة ويتمسك بها. يحب غناء المواويل والعتابا والميجنا ويشعر انها تقربه الى الله اكثر من رجال الدين، يتوقف الزمن عند ارادته ولا يرغب بالتقدم منه خطوة واحدة، الناس صارت تقتلع اشجار التوت وتزرع محلها اشجار الكرمة والزيتون وهو يصر على الاستمرار في زراعة اشجار التوت. تقول له شمس: "إن الحرير صار برخص التراب" فلا ينصت اليها. في رحلة البحث عن الصورة/ الأم، ما بين عين الطاحون وساوث هامبتون في انكلترا، حيث تتابع سارة رحلة البحث عن العائلة الانكليزية التي كانت تربطها علاقة صداقة مع امها، وعلى رغم تشتت ذاكرة الزوجة، تتعرف على سارة وتظنها امها بسبب الشبه الكبير بينهما تقول لها ان ابنها كان سيتزوج منها لو لم يغرق في البحر... وفي طريق العودة تتناوشها الاسئلة، فهل هي حمل سفاح من ابن العائلة الانكليزية الذي غرق في البحر؟ ومن الذي اغرقه؟ وهل زوّج الجد ابنته الى القبضاي خوف الفضيحة؟ ربما تكون الأم هربت الى الارجنتين او الى اي مكان آخر... وربما يكون قتلها وألقى جثتها في بئر بعد ان عرف علاقتها بالشاب الانكليزي. كل هذه الاسئلة مشروعة، خصوصاً ان الشهود خرجوا من الذاكرة او الحياة وها هو الشيخ الذي كان يملك كل تلك الاراضي يستلقي على سرير الموت، تقف امامه سارة لتقول: "وأنا لا ادري ما اقول، احببتك؟ كرهتك؟ فتشت عنك ولم اجدك وكان هذا كافياً كي اكرهك الى الابد". عند عودة سارة الى عين الطاحون، تكون خيوط الرواية انحلت والشخصيات انتهت الى مصائرها. غاب الأب وصارت العمة كشجرة يبست جذورها وبقيت معلقة في التربة، لم تعط ثمراً ولم تورق، جذع يابس هش مشقق وجاف، وتستعيض ضحى عن الحب الذي حرمها اياه الأخ بأخذ مقتنيات البيت وأثاثه، بينما ينشغل كريم عن زوجته بالبحث عن الذهب الاسود في الصحراء... فرغ البيت من اهله كشجرة الجوز التي "كانت اقوى شجرة، بدأت باليباس، تفسخت قشرة جذعها، بدأ جوفها يفرغ سنة بعد اخرى، انشق جذعها كمغارة مظلمة فارغة... كمخبأ اطفال، لكنها ليست ملجأ ولا عزاء...". * توت بري، دار المسار، بيروت 2001.