بعد الريادة الروائية في سورية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والتي كانت لصدقي إسماعيل وفارس زرزور وحنا مينه، تعمق الحفر وتواصل بقوة طوال العقدين الماضيين في الفضاء "الشامي" غالباً سورية ولبنان والاردن وفلسطين، والعراقي أحياناً، وصولاً الى منتصف القرن الماضي. هكذا توالت في سورية روايات هاني الراهب وخيري الذهبي وناديا خوست وفواز حداد ونهاد سيريس وهلال الراهب وممدوح عزام وكاتب هذه السطور. ومن هؤلاء من اشتغل على الجذر الصهيوني في فلسطين وخارجها هاني الراهب، ناديا خوست، نبيل سليمان وهو ما تتوج برواية "أعدائي" لممدوح عدوان منشورات رياض الريس - 2000. ولئن كان ذلك الدفق الروائي قد جدد، وربما عقد - سؤال الرواية والتاريخ كيلا أقول: سؤال الرواية التاريخية، فانفردت منه رواية "أعدائي" إذ جعلت الجذر الصهيوني وحده وكدها، مثيرة سؤال الرواية البوليسية. ولتبيان ذلك، وهو ما يعني بيان الأساس في اشتغال هذه الرواية، قد يكون الأَوْلى أن يبدأ المرء بسمات أو علاقات الشخصيات، وأولها: عارف الابراهيم، المسكون ببطل تغريبة بني هلال دياب بن غانم، والمسكون بمطاردة الجواسيس، اليهود والأغراب منهم، والمواطنين: "هذه هي معركته الدائمة، لكنه يخسرها شيئاً فشيئاً". تلخص هذه العبارة سيرة بطل الرواية هذا، وتلخص الرواية، إن جاز التلخيص. إنه الموظف المستعصي على فساد الدولة العثمانية وهي تلفظ أنفاسها. ولئن كان قد ظفر من قبل بالجاسوس فايمان بري، فالرواية تقوم على مطاردته للجاسوس اليهودي ألتر ليفي المقرب من جمال باشا، منذ أرسله في مهمة سرية الى الاميركيين لفك الحصار عن السواحل، ومنذ أوقف ليفي الحملة الصحافية في مصر ضد السفاح، بفضل يهود الاسكندرية. في فندق دوتشرهوف في بيروت ظفر الابراهيم بليفي. لكن جمال باشا يعاقب الصياد بنقله الى القدس، ويصير ليفي مطارداً. ومن جديد يظفر الصياد بالطير الحرّ الذي يفر من السجن، فتتجدد المطاردة حتى الظفر الأخير من احتلال اللنبي للقدس. وعندما يصل الصياد بصيده الى الشام يكون اللنبي وفيصل قد سبقاه اليها، فتكتمل خسارته لمعركته التي تتعدد عناصرها وتتعقد طوال المطاردة كما سنرى. تحف ببطلنا شخصيات روائية كثيرة من معارف ذلك الزمن ومن نكراته، من العرب واليهود، فضلاً عن شخصية جمال باشا. وقد رسم الكاتب الشخصيات بمهارة. بيد أن صورة جمال باشا كررت ما هو متداول بذيء - سكير - وحش - نسونجي، على أن الأهم هو تلك التناظرات التي تواترت بين عدد من الشخصيات العربية واليهودية، فنالت من ثراء بعضها ومن قدرتها على الاقناع. فنهال حامد التي قتل اليهود زوجها الضابط جزاء مساعدته سكان حيفا ويافا في مقاومتهم بيع الأراضي لليهود، نهال التي درست القانون في باريس، وتحكي أربع لغات، تعمل في استدراج الجواسيس، وتعاني من الاستعلاء الأخلاقي الذكوري لمن حولها من العرب. وكما يسرت القبض على جاسوس فرنسي، ستيسر القبض على الجاسوس الألماني غوتر، وأثناء ذلك يستميلها مساعدها الملازم عبدالسلام العبدلي، لكنها تحرمه جسدها. وكما تسند رأسه الى صدرها ليبكي الشهداء الذين أعدمهم السفاح، تفعل الجاسوسة الألمانية آنا ليستر.وكما تقتل نهال وجواد أتلخان اسرائيل جيب - بالحبْل - في نفق قرب هرتزليا، ستُقتل هي بالحبْل أيضاً، في القطار، وتروح أصداؤها تردد: "اليهود يستخدمون نساءهم وأموالهم، ونحن لماذا لا؟" و"ما شأنكم أنتم بجسدي؟" و"أنا لدي قضية". وفي المقابل هي ذي اليهودية ليديا التي جاءت من روسيا، لتغدو عاهرة، فإذا بألتر ليفي يحولها الى مناضلة: "أنا أوظف جسدي من أجل قضية". وها هي سارة آرونسون التي تعلمت اللغات من المستوطنين العجائز في زخرون ياغوف، والتي سافرت الى أوروبا، تقود بعد تركها لزوجها في استنبول، عصبة تجسس للانكليز، ولا تفتأ تصد العاشق القديم ألتر، وتتوسل جسدها من أجل قضيتها، فتلتقي ليديا لتشبع فضولها في معرفة عاهرة - ولا يبدو ذلك مقنعاً في الرواية - وتخوض التجربة مع ضابط ألماني في القدس، قبل أن تنضم الى نساء جمال باشا. بيد أن سارة التي ستقضي انتحاراً إثر القبض على العصبة، تكرر في أمر الجسد والقضية ما كان من ليديا التي تنتحر أيضاً، وما كان من نهال، وإن كانت وطأة التكرار ستخف مع سارة، بفعل دورها الروائي المركزي الذي أفسح للكتابة أن تضيء مكنونها وتعرجاتها، من عشقها لأفشالوم الى تأثرها بمذابح الأرض وإعدام الشهداء العرب، الى علاقتها بشقيقها آرون، الى تبدل نظرتها لألتر، لكنها - مثل نهال مع عبدالسلام - تحرمه جسدها. من التناظرات الناتئة بين الشخصيات أيضاً يأتي الشعر. فأفشالوم الخيّال الذي يجيد العربية ويغني أغاني البدو، والذي درس في فرنسا وكان أول من اقترح على آرون التجسس للانكليز، وسمى العصبة بمنظمة "نيلي" وقضى أثناء تسلله الى مصر في الصحراء، أفشالوم الذي عاش مسكوناً بالفشل، ليس شاعراً وحسب، بل يرى الشعر في كل شيء وفي كل أمر. وقد أحبت هذا الشاعر سارة وشقيقتها رفقة التي دمرها توقف عمل العصبة، كما دمرها اكتشافها حب أفشالوم لسارة، حتى اذا تركت سارة زوجها، وأعلن أفشالوم وسارة الحب، تراجع هو عن الجنس الذي تبادره به. وفي المقابل نرى شخصية ليوفا الفوضوي المعني بتدمير الحاضر فقط، والذي لا يريد أن يموت، ولا أن يتسبب لأحد بالموت، ولا يريد أن يبني دولة يهودية أو اسلامية او مسيحية أو عربية على أنقاض الدولة العثمانية. ليوفا هذا يرى أن قصيدة واحدة أفضل من كل ما تفعله العصبة في الزراعة والتجسس، فهذا كله زائل والشعر وحده باق، وليوفا لا يصلح لغير الشعر. وها هو ذا إبراهيم الذي يدرس في دمشق، وصار رجلاً في غفلة من أبيه عارف الابراهيم، لا يرى في عمل نهال حامد ما يهين، عكس أبيه وعبدالسلام. ولا يرى الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا جواسيس، عكس أبيه. وسيدفع بإبراهيم وصديقه سميح الى التخفي زمناً في الغوطة، ثم الانتقال بين سجن وسجن، الى القدس، ليقيم مع أبيه في جيرة بهيجة. لكن هذا المراهق الذي يعشق ظل جارته في دمشق، سيتراجع عن جسد بهيجة، ليس تحت وطأة صورة زوجها وأبيه هو فقط، بل لأن الشعر يستبطنه ويجعله رجل حلم كالشاعر أفشالوم. يطارد ابراهيم، كما يبوح لأبيه، احساس دائم أنه معرض للموت. ويوسف اليهودي العائد سالماً من الصحراء التي قتلت أفشالوم، يبوح لسارة: "قلبي يحدثني انني عائد لأموت". ويوسف يحس أنه نكرة كما يحس ابراهيم. ويوسف إذ يرافق سارة يحس أنه قواد مثلما أحس عارف الابراهيم وعبدالسلام في رفقتهما لنهال. وبالعودة الى الشعر من بين هذه التناظرات سنرى آرون يخاطب أفشالوم والعصبة: كلكم شعراء، ورفقة تقول لألتر: أفشالوم عملنا كلنا شعراء، وسنرى سارة تصف اعدام الشهداء بالمشهد الشعري، ورحلة أفشالوم الى مصر: شعر... وسيكون على المرء أن يتساءل عما إذا كان السر في ذلك كله ان كاتب الرواية شاعر أولاً. وهو من سبق له أن كتب رواية قصيرة الأبتر. وإذا كان ضغط الشعر قد آذى بناء بعض شخصيات أعدائي فالأهم هو أن هذه الرواية نجت من الأذى الأكبر للشعر في الرواية، مما نرى في أعمال تتبرج بالحداثة. وإذا كان ذلك علامة بارزة لروائية أعدائي فثمة علامات روائية أخرى تتضاعف أهميتها وهي تقلب سؤال الرواية والتاريخ وسؤال الرواية البوليسية. وأول ذلك مخاطبة تغريبة بني هلال، حيث افتتحت متناصات منها الرواية واختتمتها. طرائف التاريخ في مثل هذا التناص تنازع المعلومة عادة فن الرواية، ويتجلى ذلك في الإقبال على غرائب وطرائف المرحلة التاريخية المعنية، أو في تكديس الوقائع، أو في وهم العرض التنكري للتاريخ... وقد تبدى بعض ذلك، وبتفاوت، في رواية "أعدائي"، فكانت الوقفات السردية التلخيصية الكثيرة والطويلة، في افتتاح الفصول 16 - 17 - 24 - 27 - 29 - 30، أو في ثنايا السرد، كما في تولي السارد لتحليل سياسة جمال باشا بعد إعدام الشهداء، أو عرض أمر المدارس الفرنسية والتعليم، أو انقلاب الاتحاديين أو تهريب الحنطة أو بعثة أتنوتزنجن أو زحف اللنبي الى القدس أو تلخيص آرون للموقف على الجبهة بعد إعدام الشهداء... وسوى ذلك مما كان يمكن تحويله الى مشهد، أو الاستعانة بالحوار على وطأته السردية، كما فعلت الرواية بمتناصات كثيرة. واللافت هنا هو احتشاد المتناصات الشعرية في الرواية، من شعر شعبي يتابع كالمواويل مهمة مخاطبة التغريبة، ومن شعر عمودي ومترجم لفارس الخوري والرصافي والشيخ كامل يوسف الخطيب وبايرون ولوسيان سيوتو وماضي أبو حديفة وأحمد شوقي... كذلك احتشاد المتناصات الوثائقية من مروج الذهب الى مراسلات مكماهون وأبو الهدى الصيادي والسلطان عبدالحميد والشريف حسين.... ولعل ضغط هذا الاحتشاد هو ما جعل طالباً مراهقاً ابراهيم يتعالم ببايرون وقاسم أمين، أو ما جعل أفشالوم يشرح لسارة معنى الدونمة، وهي المثقفة التي تزوجت في استمبول، فكيف يستقيم جهلها الدونمة؟ إزاء ذلك يبدو أن الحوار هو الحامل الأكبر للرواية، سواء في تقديم المعلومات أو القصص الفرعية، أو في مساعدة الاسترجاع على تقديم حيوات الشخصيات قصة سارة وزوجها حاييم - العملة الورقية - قصة الأذربيجاني اليهودي - طفولة سارة - زواج نهاد.... وإذا كان الطول هنا علامة بارزة، فقد عمد الكاتب مراراً وتكراراً الى مداواة الطول بالتقطيع وبالملاعبة البديعة للضمائر الثلاثة - وهو ما فعله أيضاً بالمونولوغات - كأن يتوقف السارد فجأة، وينتقل الى مستوى آخر، ثم يعود بعد حين يطول أو يقصر، ليكمل ما تقدم. وعلى المرء هنا أن يذكّر بخبرة ممدوح عدوان المسرحية، حيث يتأسس امتياز الحوار في "أعدائي" بالشفاهي، والشفاهة - كما يعبر إبراهيم محمود - طاقة قول ولحظة عري مفاجئة وإشغال للآخر بموضوع معين. والشفاهة أيضاً تستدعي اللامتوقع والمصيري. وقد استثمرت رواية "أعدائي" ذلك بلطافة وبراعة في السرد أيضاً. وليس في الحوار فقط، فتضاعف التعدد اللغوي والصوتي: من الوثيقة الى الشعر، ومن العاهرة الى العاشق، ومن الضابط الى الجاسوسة... الى الشعبي خصوصاً، والذي رمى بمئات المفردات والتعابير المتصلة بالجسد جنساً وغذاءً، مما ينتهك النفاق الأخلاقي والسلوكي التعبيري، ويوفر للرواية تلك النكهة الحريفة. هكذا حفر ممدوح عدوان في ذلك الزمن المصيري والمؤسس - من منتصف الحرب العالمية الأولى الى نهايتها - وفي فضاء يصخب بين بيروت والشام والقدس والمستوطنات الصهيونية الأولى. ولأن غرض الحفر الروائي هو يومنا وغدنا، تتوالى خصوصاً الفصول الأخيرة التي يمضي فيها الصياد عارف الابراهيم بالطير الحر ألتر ليفي من القدس الى دمشق، في رحلة تراجيدية، يوحد فيها الصراع على البقاء، مصير الرجلين، منادياً المستقبل. من أجل ذلك علينا أن نعود الى المختبر الزراعي الذي أسسه آرون، وصار وكر التجسس الذي تقوده سارة، مثله مثل خمارة نعمان بلكند. ففي 2/8/2000 تردد خبر اكتشاف مختبر في نابلس، يعود لحماس. وفي رواية نعمة خالد البلد - 1999 تقيم بطلة الرواية الفلسطينية مختبراً للمتفجرات في مخيم عين الحلوة إبان حرب 1982. ويلعب هذا المختبر في هذه الرواية مثل الدور الروائي الحاسم الذي لعبه مختبر عتليت في رواية "أعدائي". بين مطلع القرنين العشرين والحادي والعشرين، يقوم المختبران الصهيوني والفلسطيني كعلامتين على مشروعين متناحرين. غير أن ألتر ليفي في رواية "أعدائي"، يخاطب عراف الابراهيم: "نحن نسعى لتأسيس وطن، وأنتم تسعون لاسترداد وطن" ثم يقرأ له المستقبل العربي لأكثر من مئة سنة: "سيكون عليكم التخلص من الانكليز والفرنسيين، ثم من تخلفكم، ثم من حكامكم الذين سيورثكم إياهم الانكليز ولن يصعب علينا شراءهم... خلال ذلك سنكون قد حققنا ما نريد". مقابل هذا المشروع الصهيوني الصريح نرى عارف الابراهيم، ينقلب بمشروعه ليصير واحداً من دعاة السلام اليوم، فيخاطب عدوه: "عندكم المال والعلم ونحن عندنا الأرض لماذا لا نتعاون؟ أنتم تريدون مكاناً يحميكم ونحن نريد مكاناً يحمينا. أنتم مظلومون ونحن مظلومون. أنتم خائفون من العالم كله ونحن صرنا خائفين من العالم كله، وصار العالم كله أعداءنا". نجا ألتر من صياده في نهاية الرواية، وأقعى الصياد يتجرع هزيمته كما يتجرع فقد ولده. لكن ذلك الخطاب الروائي الذي أطلقه في رحلته التراجيدية مع ألتر، يأتي على "دلالة" العجوز الذي صادفاه يبكي قبراً في القدس. وللسؤال إذاً أن يتفجر عما إذا كان كل ذلك الحفر الروائي في التاريخ من أجل مثل هذه الدعوة السلمية، وخصوصاً أن اليهودي في الرواية مسكون بالعداء العربي، ولا فسحة فيها لعيش مشترك منذ ذلك الزمن - هل كان الأمر كذلك حقاً - على رغم تعالق مصالح العلية العربية واليهودية، وعلى رغم الاشارة العابرة لجيرة والد أفشالوم الحسنة مع العرب. لا شك في أن رواية "أعدائي" عمل إشكالي، بالغ الثراء والتعقيد، يجعل قارئه يعيش قلق أو لذة اختلاف القراءة بتعددها. وبسبب من طبيعة الخطاب الروائي، وما انتهى اليه، مما يعني حاضر أو مستقبل الصراع الصهيوني - الاسرائيلي العربي، فإنني أؤكد على أهمية السياسي في قراءة "أعدائي"، متذرعاً بما توطد من أهلية النقد الأدبي السياسي، ووصلها ما تقطع منذ روزا لوكسمبورغ الى فريدريك جيمسون وتيري إيجلتون. وهي الأهلية التي تلتفت عمن يتباكون على الجمالي كي يخفوا السياسي، وعمن تعقدهم الايديولوجيا أو يسيّدون المصلحة على الفن، فيوحدون - مثلاً - بين الشخصية الروائية وكاتبها، مما تمور به دنيا العرب منذ حين.