لم تنفق أمة عبر تاريخ الانسان كله بهذا القدر الذي انفقناه من الكلام ولم يجفف أناس هذا القدر الذي جففناه من الأقلام في شأن قضية فلسطين، ولا أظن أحداً بحاجة الى اثبات ان كل ذلك كان بلا جدوى. والغريب انه لن يجد في أي مراجع لأرشيفات القضية المقدسة في جملة مخازن الأمة العربية شيئاً يزيد على تكديس الأدلة على عدالتها وعلى عدالة مطالبنا إزاء دولة اليهود مع شروح لما يجب ان تكون عليه الأمور من زوال كلي أو جزئي للدولة العبرية ومشاريع لنقل سكانها فيما بعد ان تزول. والحق ان وجهة الفكر في معظم ما نكتب وما نقول تظهرنا وكأننا قوم هاجروا من الموضوعية الى الخيال بحيث بدا تناولهم لقضاياهم المزمنة وعلى رأسها قضية فلسطين ساذجاً لا يكلف المتناولين جهد العقل ولا عناء المعرفة، فما أيسر على المرء ان يكتب ويقول عما يجب ان يكون عليه أفضل حل لأية مشكلة معفياً بذلك نفسه من البحث والتفكير وقد نأى بها عن الدراسة الواقعية والتمحيص. ان مهمة مفكرينا ومن قبلهم سياسيينا يجدر بها ان لا تكون الحديث عما يجب ان تكون عليه حلول مشاكلنا فهذه مهمة الفلاسفة والشعراء، وانما عليهم حين يقررون التصدي لما يحل بنا من مشكلات أن يفكروا فيما يمكن القيام به إزاءها وفقاً لما هم ونحن عليه من أحوال، فنحن كان علينا ساسة ومفكرين ان نتعامل مع قضيتنا الكبرى ومنذ بروزها الملموس بإعلان قيام اسرائيل على اساس: ما الذي يمكن لنا ان نفعله؟ وليس الذي يجب فعله. لكننا توقفنا بدلاً من ذلك عند حاجز ما يجب وتجاهلنا أمر ما يمكن، والحق اننا ما زلنا نتصرف إزاء القضية الخالدة بالقدر نفسه من السذاجة والسطحية، وبالطبع فإن المرء لا يقدر على اتهام الجميع بعدم الإدراك، لكن اذ يتساوى المدركون منا وغير المدركين فيما نتخذ من مواقف وما نقرر من سياسات تظل النتائج التي يتوصل اليها الفريقان بالغة التطابق والاستواء. لقد دخلت جيوش العرب حرباً ضد اليهود منذ بداية قيام دولتهم على الأرض العربية وجرت قيادة شعوبنا تحت لواء التحرير الكامل الى ما يجب ان يكون من دون ان يسمح لها بالتوقف لتفكر فيما هي مؤهلة لتحصيله بحكم قواها وعلاقاتها الدولية، أي انها دفعت فاندفعت الى ما يجب ان يكون من دون ان تنشغل بما يمكن ان يكون. وهكذا رفضنا قرار التقسيم بكل إباء وشهم وكبرياء. بعد ذلك، وقبل ان يمضي زمن طويل توالت علينا حركات، احتوى البيان الأول لها على تبرير قيامها بالعمل على تحرير فلسطين، وان أضاف بعضها الى ذلك محاربة الامبريالية والقضاء على الفساد، وبغض النظر عن مدى صدق هؤلاء وأولئك، لم يخرج أصحاب السلطة الجدد أو من والاهم من أصحاب الفكر والسياسة عن دائرة التوجهات المعتادة، فقد واصلوا المطالبة بما يجب ان تكون عليه الأمور وذلك من دون محاولة لكسب الأسباب التي تؤدي بنا الى الحصول حتى على ما يمكن الحصول عليه، وهكذا كان ان تحركت بنا رحلة التراجعات. لقد كنا في زمن التهديد بالحرب، وخصوصاً أيام ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، لا نفعل شيئاً في سبيل تغيير واقعنا حتى نقدر على جعل الأمور كما يجب ان تكون عليه الأمور واستعذبنا القفز الى مطالب لا نستطيع ولا نفكر حقاً في الحصول عليها منصرفين في ذلك الوقت حكاماً ومفكرين عن مشقة البحث فيما يمكن ان تكون عليه علاقتنا مع دولة اليهود وفقاً لواقعنا الذي نعيشه. هكذا تواصلت مسيرة التراجعات من رفض للتقسيم واصرار على إلقاء اليهود في البحر وحتى عندما دفعتنا الظروف الى القبول بالتفاوض واعلان اختيار السلام لم نهجر فلسفة ما يجب ان يكون وتصورنا بسذاجة بالغة انه يمكن لنا ان نحقق كل ما نريد بأن نجعل الامور كما يجب ان تكون عليه عن طريق المفاوضات، غافلين عن ان المهزوم الجالس الى مائدة التفاوض مع خصم لا يقدر حتى على تهديده لن يحصد ما يحصده المنتصرون، وعليه ان فقد الصبر ان يقنع بما يرغب خصمه في ان يتنازل له عنه فهذا هو شأن ما يمكن ان تكون عليه الأمور. إنني لا أغرب هنا في الدعوة الى ان يقبل العرب بكل ما تفرضه علينا اسرائيل وربما فضلت تجميد الأوضاع معها سلمياً والانصراف الى كسب مؤهلات صراع قد ينتهي بالانتصار فذلك أجدى من التذاكي بالمفاوضات والاعتماد من فراغ على عون قد لا نستحقه من العلي القدير، فالله عزّ وجل قد لا يناصر أناساً يحترفون ظلم بعضهم البعض واعتادوا إذلال أصحاب الرأي واستساغوا التآمر على من بينهم من المعتدلين. ان على صاحب الحق اما ان يساوم على حقه فيأخذ منه ما يستطيع، واما ان يتذرع بالصبر الى حين امتلاكه أسباب الحصول على ما يريد، أي لا بد له من الاختيار بين الصمت حتى يصبح مؤهلاً لإنجاز ما يجب ان تكون عليه الأمور أو ان يقنع بما يمكن ان تكون عليه، والواقع ان جميع العرب المنشغلين مباشرة بحل قضية فلسطين، كما غالب الفلسطينيين أعلنوا كلاماً عن اعتمادهم فلسفة ما يمكن ان يكون، ظلوا يعتنقون في سلوكهم فلسفة ما يجب، فلا هم مارسوا مرونة القانعين ولا هم انصرفوا الى كسب مؤهلات انجاز ما يجب ان يكون. ولعل هذا السلوك العربي يبدو اكثر وضوحاً في قبول فلسطينيين لمنهج السعي الى ما يمكن سرعان ما تغير الحال عندما شرعت جماعات ودول عربية في وضع العصي في عجلات السلطة الوليدة فبدت وكأنها عادت الى المطالبة بما يجب ان تكون عليه الأمور، ولعل هذا ما أربك المراقبين وشوش رؤية أولئك الذين يرغبون في تقديم يد العون. ان المرء لا يعطي نفسه حق اتهام السلطة الفلسطينية ولا حتى إدانة العرب الذين يتفرجون ويطالبون وكأنهم نظارة في ملعب لكرة القدم، لكن لا بد لنا من ابداء الدهشة من أناس وان كانوا أصحاب حق إلا أنهم يتصرفون إزاءه بقدر مشهود من الحيرة والارتباك فلا هم واقعين يقبلون بما يمكن لهم الحصول عليه وفقاً لمؤهلاتهم ولا هم ذوو صبر واصرار وإرادة للسعي الى ان يكونوا جديرين بالوصول بالأمر الى ما يجب ان يكون. وهكذا لا تصعب رؤيتهم وهم يتصرفون كتلميذ مقبل على المشاركة في امتحان للشهادة الابتدائية ويتوقع ان يخرج منه مباشرة بشهادة الدكتوراه. اننا لم نوفق سواء فيما بيننا أو حتى في تواصلنا مع دول وشعوب اخرى على رغم مما كدسناه من ورق مكتوب وما راكمنا من كلام الا في ان نجعل من قضية فلسطين الواضحة قضية بالغة الغموض في افهامنا كما في أفهام الآخرين، وبالطبع فإن ذلك عائد الى حيرتنا في التعامل معها بين فلسفة ما يمكن وما يجب ان يكون. وهكذا، لم نصبح فقط عاجزين عن الانجاز بل أصبنا بالحيرة ايضاً أولئك الذين يفكرون في تقديم يد المساعدة الينا. ودعوني أقول انني لا أرغب من وراء هذا الذي اكتبه أن أوجه نصيحة الى الفلسطينيين ولا للعرب بأن يتوجهوا الى ما يمكن ان يكون أو ان يتمسكوا بما يجب ان تكون عليه الأمور، وانما أريد فقط ان أشرح الحالة وأشخص علة الحيرة والارتباك من دون ان أدعي القدرة على وصف ما لا يستسيغونه من علاج. ان الحيرة بين ما يجب وما يمكن هي التي قادتنا وتقودنا الى مواصلة التراجعات، الأمر الذي يذكرني بحالة جماعة في أحد المعتقلات العربية اذ كانوا يطالبون بالحرية الكاملة والإفراج، لكن سرعان ما تنحصر مطالب بعضهم حين يؤخذ الى زنزالة الانفراد في العودة الى العنبر الجماعي للاعتقال، حتى اذا ما أخذوه بعدها الى غرفة الاستنطاق توقفت أمانيه عند العودة الى زنزانة الانفراد. * كاتب، رئيس الوزراء الليبي سابقاً.