لا بد للواحد منا عند الحديث عن اية قضية عربية وطنية كانت او قومية من ان يذكّر بأمرين. أولهما اننا غالباً ما نكتب عن إلهام وليس عن دراسة فعالمنا العربي يفتقر الى مؤسسات البحث وهي حين توجد لا تتعدى مجموعة من الموظفين ملزمين القبول بنتيجة معينة للبحث وينحصر نشاطهم في أقامة الدليل على سلامتها مع إلباس ذلك النشاط ثوب الدراسة العلمية، هذا اول الأمرين، اما ثانيهما فهو ضعف اهتمامنا حتى بتلك النتيجة التي قاولنا الباحثين على إنجازها. بالطبع تبقى الآراء والدراساشت الفردية الحرّة ولكنها تلقى لدينا مصير دراسات المقاولات نفسها. ودعونا حتى لا يشتت الاستطراد وجهة مقالنا نحاول قصر حديثنا على قضية فلسطين فهي بالإضافة الى انها ظلت تشكل وتلوّن حياتنا لأكثر من نصف قرن من الزمان ولعلها ستظل تشكل فينا وتلوّن الى أمد غير محسوب. وهي تبقى المثل الواضح على الفراق بيننا وبين الدراسة والبحث ومثلاً أوضح لانقطاع الصلة عندنا بين البحث والقرار. نحن نجد عند القيام بمراجعة مفردات قضية فلسطين ان معظم قراراتنا بشأنها كانت ولا تزال تصدر اعتماداً على حصيلة معلومات يتعذر على الناس معرفتها، كما ان معظم ما نقرأ وما سنقرأ من دراسات وأبحاث هو في الواقع إما مرافعات للدفاع عن موقف جرى اتخاذه قبل البحث او أحاديث إلهامية تبدو كأنها قصائد نثر لها صلة مقطوعة بالبحث والدراسة. هكذا تعاملنا ونتعامل مع قضية فلسطين. فمنذ ان أثمرت جهود الحركة الصهيونية قيام دولة اسرائيل بقرار التقسيم الشهير الذى صدر عن الاممالمتحدة ونحن نعاصر سياسات نقرأ ونسمع عن فريق من مفكرين يباركها وآخر يعارضها. وكل فريق ينفق الوقت والجهد في مقاتلة الفريق الآخر. اما القلة التي ركنت الى الدراسة فقد انتهى الأمر ببعضها الى اليأس وبالبعض الآخر الى النسيان. لكل ذلك، كان لا بد للعامل الرسمي الذي يتخذ القرار من ان يتعامل مع القضية الكبيرة بأسلوب الحيرة والعجز عن الاختيار، فبعدما رفض جميع العرب قرار التقسيم قاموا بإنكار قيام دولة اليهود وبعثوا بجيوشهم الى ارض فلسطين لتحريرها، ومن منا لا يعلم عن تنافس القوات العربية آنذاك وارتباكها الأمر الذي سهّل على اليهود واصحاب المصلحة من الدول الغربية مهمة غرس الدولة العتيدة حيث كانوا يشاؤون. حقاً كان على حكومات العرب ان تتعامل مع قضية فلسطين منذ ان كانت مشكلة يهودية ووعداً غربياً لكن من الإنصاف ان نعطيهم العذر اذ لم يفعلوا فقد كانت دولهم المستقلة قليلة العدد مهيضة الجناح وتفتقر الى الخبرة المطلوبة. ومع ذلك لا يسع المرء الا ان يعترف لحكّامنا في ذلك الزمان بفضل استغلالهم لعلاقاتهم مع الغرب وتدبيرهم الحصول على غزة والضفة الغربية ونصف القدس. على كل حال، فشلت دول العرب عام 1948 في مواجهة الموقف الذي خلقته ولادة اسرائيل ولكنها مع ذلك نجحت في تحجيمها وفي التقليل من الآثار الضارة لقيام دولة اليهود، ونحن لا بد لنا حال المقارنة بين وضع القضية في اعقاب اعلان دولة اسرائيل وبين وضعها الراهن من ان نشعر بالحسرة والاكتئاب، ذلك اننا كنا وحتى منتصف الخمسينات من القرن الماضي نملك خيارات مفتوحة، فقد وجدت الدولة العدوة فقط على ارض محدودة وكان أمامنا خيار القبول بما اقترحة علينا الزعيم الجريء الحبيب بورقيبة من توطيد قرار التقسيم او المضي في احتواء دولة اليهود بلا حرب ولا سلام، وكلا الخيارين منطقي ومعقول اذا ما اعترف العرب لأنفسهم بما هم عليه من أحوال، وحاولوا في ذات الوقت تدبير اقامة انسانية للاجئين من فلسطين وتوفير اسلوب عيش حضاري لهم يمكن أجيالهم من مواصلة التقدم والنمو. كان يمكن لنا لو أننا لا نتصرف اعتماداً على رؤية شخصية وموهبة وانما على اساس ما يقدم لنا من دراسات وبحوث ترى الواقع بعين العلم، وكان يمكن ان لم نقبل بقيام اسرائيل ان نحتويها الى اي أمد من الزمان فلا نرميها في البحر ولا نقدم لها على طبق من الخطابات فرصة الاتساع، ثم نعمل على ان نملك مقومات الحرب او مؤهلات السلام لكن إصرارنا بسذاجة على الدخول في حروب مع اليهود قد حقق لنا أسوأ خسارة نتخيلها من ضياع الأرض والأرواح، وعليه لم تبق لنا حين استبعاد دور الشعوب والاعتماد على موهبة لا تعتمد البحث والدراسة الا سياسات لا بد لها بحكم طبيعتها من ان تكون متنافسة ومتضاربة. لقد بدونا منذ بداية الخمسينات نتعامل مع قضية فلسطين وكأننا أمة لا تريد ان تختار وبدت قراراتنا وكأنها مباراة مع القضية تقوم فيها الحركة على ردود الافعال. ويرى أغلب اللاعبين ان لهم من المواهب ما يكفيهم الحاجة الى النصيحة ويعتقدون انهم بحاجة فقط الى التصفيق والهتاف حتى عندما يخسرون المباريات. هكذا لم نعد نعثر على قرارات تختار بين البدائل على اساس من الدارسة والبحث وبالطبع فإن القرار المعتمد على الحدث والموهبة يفرض على صاحبه الجمود ويحرمه من حرية الحركة وانتهاز المناسبات، ومن ثم شهدنا مواقف سياسية عربية صماء تتحدث عن التمسك بكل الحقوق ولا تقبل بتقديم اية تنازلات. نعم نحن مخولون التمسك بكل حقوقنا لكن من الحكمة ان نختار بين التمسك بالحق كله او التصرف وفقاً للظروف. أما ان ندعي الحرص على الحصول على كل ما نريد من دون ان نفعل شيئاً مدروساً من اجل ذلك فليس سوى ارتباك وتردد لا يؤديان إلا الى ضياع. لقد أدت تصرفات عربية الى التسبب في بضعة حروب خسرناها جميعاً، اذ أتحنا للحرب اكثر من مرة فرصة الاشتعال من دون ان نستعد لخوضها بل لم يكن في نيتنا ازاءها خوض ولا استعداد. عكفنا على مواقف سلبية تتسم بالسذاجة وربما لا نزال نفعل ذلك، فنحن نادراً ما نضع في اعتبارنا مواقف الدول الاخرى من شرقية وغربية ولا امكاناتها ولا نعرف كل ما يجب معرفته عن امكانات اسرائيل ونياتها ونتهم بالخيانة من يحاول ان يعرف. افترضنا ولا نزال نفترض ان ما نصف به اسرائيل هو الحقيقة وما ننعت به اميركا والغرب هو الواقع ثم واصلت كتائب من مفكرينا تكويم الأدلة على صحة ذلك الافتراض ولم تعد تقبل ان تعيد النظر او تحيد. رفضنا قرار الاممالمتحدة بالتقسيم وواصلنا رفض التفاوض والاعتراف مصممين على ضرورة إزالة اسرائيل من الوجود، ثم انتقلنا الى رفض التفاوض والصلح مطالبين فقط بأن يرد الينا اليهود غيابياً ما استولوا عليه من أرض ليست من ارض فلسطين وهددنا بالحرب ثم تحولنا الى السلام من دون ان نقرر القبول بالسلام الواقعي الممكن، فلم نحارب حين كنا نقرع طبول الحرب ولن نسالم بعدما قبلنا بالسلام. ان السلام الذي يمكن لنا الحصول علية اليوم هو سلام بشروط اسرائيل فليس لمن يجلس على مائدة المفاوضات وهو عاجز عن الحرب ان يتوقع الحصول على ما يحصل عليه المنتصرون. لذلك وبرغم ما نتحدث عنه من ان السلام خيار استراتيجي بالنسبة الينا فإننا لم نقرر بعد القبول الا بسلام نتمناه وعليه نبدو عند التفاوض كأننا نشارك في حفلة للمقامرة يصعب التكهن بما تحصل عليه منها. في اي حال، لو كان الامر بيد يوافقها شعبها على تقديم ما هو مطلوب منها من تنازلات لحلّ السلام وارتاح الجميع. ففي مثل هذه الحال يتحمل الناس مسؤولية القرار، او تتناسى الامة وجود اسرائيل وتحتويها على ما هي عليه الى حين يأذن الله وتنصرف الى اكتساب عوامل القوة والانتصار وهي اما منتصرة في يوم من الايام او فاشلة لها شرف محاولة الانتصار. لكن والحال على ما هي عليه فإن الارتباك لا بد سائد وقائع السياسة العربية ازاء فلسطين ومحاصر محاولات السلطة الفلسطينية. والحق ان المرء لا يستسيغ التسليم برفض السلام مع اسرائيل بانتظار اليوم الذي نستطيع فيه الحصول على كل ما لنا من حقوق. فظروف الامة لا تبدو انها سائرة الى الامام، فمن منا يرانا نسير نحو مجتمعات تدار بأسلوب يطلق طاقات الناس للتقدم واكتساب عوامل القوة في جميع المجالات. ان واقعاً كالذي وصفنا يبرر بحق إقدام المرحوم السادات على انقاذ سيناء من يد اليهود ويفسر لجوء الاردن الى عقد سلام يؤمن حدوده ازاء العرب اكثر من تأمينها ازاء اسرائيل، وهو واقع يعطي لعرفات الحق في اقتلاع ما يقدر على اقتلاعه من أشواك بيد فلسطينية. واليوم تبدو سورية ولبنان وطرف من الفلسطينيين الرافضين وكأنهم يقعون في ما تعود العرب الوقوع فيه بشأن أرضهم وأرض فلسطين. فنحن نقرأ ونسمع ان سورية تصر على استعادة كل الارض مقابل سلام تفاوض عليه، وهي وإن كان لها في ما تقول كل الحق، الا اننا نتمنى ان تخرج هذه المرة عن النص المعتاد فتقرر الاختيار بين سلام ممكن لا يرد لها جملة الارض وبين ابقاء الامور على ما بقيت عليه زمناً طويلاً والصبر حتى تتوفر ظروف عربية تسمح بالعودة الى محاربة او احتواء اسرائيل. ولا اظن ان مسألة الاحتواء هذه قد فات أوانها بل ربما لها اليوم فرصة افضل مما مضى. فحصول مصر على كل ارضها التي جرى احتلالها وانهاء الاردن لحالة الحرب وكذلك وجود عرفات ومن معه على جزء من ارضهم بالفعل، كلها عوامل تساعد على تنفيذ احتواء سلمي لاسرائيل اكثر من أي وقت مضى. كل ذلك شريطة ان يتحمل العرب تقرير عيش كريم للاجئين على ارض عربية. أما لبنان فإن الحديث لا بد ان يكون حديثاً عن سورية فالسلطة فيه موزعة بين الوحي والإلهام والمفكرين بين التأييد لمعجزات المقاومة في الجنوب وهاجس دور لها في ما بعد انسحاب اسرائيل، ولعل المرء قلق على مستقبل لبنان بلا احتلال اكثر من قلقه عليه وهو يقاوم فما سيحدث بعد العاصفة اكثر غموضاً مما يتم اثناء الهبوب. من الصعب جداً على الواحد منا ان يتصور امكان الوصول الى ما نريده من سلام مع اسرائيل. ومن الأصعب ان يتوقع انفراج حال العرب بما ينقلهم الى حال تضفي على قراراتهم واقعية وجدوى. ولكن، مع كل ذلك، لا بد من التمسك بأمل إقناعهم بأن أمر الاحتواء السلمي لا يزال في الإمكان. وفي النهاية نعود فنذكّر بأن وشائج السياسة العربية هي ما أدى الى العجز عن الاختيار، ونعود الى القول بأن لا جدوى من اي جهود للدراسة والبحث. لا يحتاج احد الى غير صياغة المرافعة وتدبيج المبررات ويبقى ان نفصح اخيراً عن ان توقع التأثير ليس هو ما يدفع المرء لمواصلة الكتابة وانما هو الاعتياد على عدم كتمان ما تجيش به الاقلام من الكلام. * كاتب، رئيس الوزراء الليبي سابقاً.