ولَّدَت تجربة الحداثة في الشعر السوداني في الستينات هديراً ايديولوجياً جفف ما يشتغل عليه الابداع. وربما كان الشاعر محمد عبدالحي ممثلاً لأفق آخر في ذلك الوقت إذ كان صوتاً فارق طبول السياسة والأفكار بهسيس يرتّم أناشيد الشعر همساً يتكشف فيه الرمز بمنأى عن الزمن المشروط فيزيائياً وربما كان هذا هو السبب في خلو القصائد في دواوينه من تواريخها الزمنية باستثناء قصيدة "الفصول الأربعة" التي كتبها في انكلترا عام 1973 ليخلق بذلك فضاء شعرياً ولدت فيه رحلة البحث عن الرمز المفقود حالات ابداعية متوهجة صنعها العذاب ودهشة الكتابة. الشعر فقر/ والفقر اشراق/ والاشراق معرفة لا تدرك الا بين النطع والسيف قصيدة سماء الكلام. ومن ذلك الأفق جدل محمد عبدالحي نسيجاً صبغت مفرداته ألوان اسطورية من منابع غريبة وكاملة الجِّدة آنذاك. فهو بالتجوال صهر روحه مع مختلف مدن السودان وحساسياته الاثنية والحضارية فركدت في نفسه أسئلة مصيرية حادة ظلت تتوارد من مطارح شديدة التمايز، وتعالقت فيها صراحة اللغة بجذر الهوية المتأرجح في فضاء بين منزلتين "العرب والزنج". نرى الخطاب الشعري يراوح بين البياض والسواد، خصوصاً في ديوانه المهم "العودة الى سنّار" قصيدة طويلة من خمسة أناشيد إلا أن تجربة عبدالحي زاوجت دلالتها على برزخ برز في ذات واحدة تمثلت تاريخياً في "المملكة الزرقاء" وهي أول كيان تاريخي قام على حلف صهر العرب والزنج في بوتقة واحدة في القرن الخامس عشر في مدينة سنار وأنتج ديموغرافيا السودان المعاصر "المملكة الزرقاء" كانت المصهر الوحيد كفضاء رمزي تاريخي ولذلك ظل عبدالحي ينوع الدلالة الرمزية المزدوجة في أقنوم "الغابة والصحراء" بثنائيات معبرة ورامزة النخل/ الأبنوس الطبل/ الربابة مستكشفاً تيماته الجمالية من أغوار بعيدة باستصحاب حدّي التجربة من أعماق التاريخ العربي الى أحراج الجغرافيا الاستوائية في جنوب السودان، ومن أقدار أبي العلاء المعري الى طقوس قبيلة الدينكا النيلية، ليؤسس بذلك فتحاً شعرياً جديداً. ولا عجب ان يصدر ديوانه "العودة الى سنار" بهذا المقطع من "الفتوحات المكية" لابن عربي: "قال يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك. قال طلب الحق. قال الذي تطلبه قد تركته ببسطام. فتنبه أبو زيد ورجع الى بسطام ولزم الخدمة حتى فُتح له". هذه تجربة توازي تجربة محمد عبدالحي. "مثلما ينام في الحصى المبلول طفل الماء/ والطير في أعشاشه/ والسمك الصغير في أنهاره/ وفي غصونها الثمار/ والنجوم في مشيمة السماء" هذه الكلمات من "قصيدة العودة الى سنّار" تدل الى أفق شديد الدهشة والغموض يستبطن تلاوين جمالية متدرجة في مشاهد تزيح ستارها عن عالم خاص وعميق ومصقول بحساسية. والجمالية في النص تمنح الرؤية أيضاً. ذلك أن حدّي الرؤيا في شعر عبدالحي تفرضهما ضرورات ابداعية خاصة فهما أشبه بشفرة النص التي تخفي دلالات مكنونة في منجم عميق يحتفر الغوص فيه الحلم والاسطورة والرمز. يقول عبدالحي في نصه الطويل "الشيخ اسماعيل يشهد بدء الخليقة" مشيراً بذلك الى الشيخ اسماعيل صاحب الربابة الذي عاش في أيام "المملكة الزرقاء" وكان يفعل فعلاً عجيباً بالأنغام التي تصدر من ربابته في الناس والحيوانات: "وفجأة رأينا الفهد مسترخياً في ظلمة الأوراق الخضراء/ في الفوضى الجميلة بين الغصون/ الغابة في سفح الجبل/ السماء تدق طبلها الأزرق/ سيف الضوء في الصخرة القديمة التي نما عليها الطحلب/ وكتبت تحتها الحشرات لغتها السرية وحوارها مع الطقس والأرض" من خلال اضاءات الرمزية المبثوثة في نص عبدالحي يمكننا أن نؤكد ان شعره أشبه بنص واحد يحيل على دلالات تتداعى بصورة غير متناهية، فالشيخ اسماعيل هو ذات اسطورية متجددة عبر العصور للشاعر السوداني لكنها ذات بدأت من حدود السلطنة الزرقاء، حدود الفضاء الزمني للرؤيا. واشارات الرمز في النص توحي بالعدم الوجودي والفهد والغابة والطحلب هنا رموز زنجية يوحي ذكرها بعوالم سابقة على الصحراء. يتضح ذلك أكثر عندما يكتمل هذا المعنى الرئيسي في قصيدة "العودة الى سنّار": "الليلة يستقبلني أهلي من عتمات الجبل الصامت والاحراج/ حراس اللغة المملكة الزرقاء/ ذلك يخطر في جلد الفهد/ وهذا يسطح في قمصان الماء": "نشيد البحر" وعبدالحي هنا يستعيد المعري ليؤكد الرمز "على أمم اني رأيتك لابساً/ قميصاً يحاكي الماء ان لم يساوه" وليركب من هذا البيت مع اشارته لجلد الفهد في النص والذي هو رمز القداسة عند قبيلة الدينكا الجنوبية حدي الرؤية لمفهوم الغابة والصحراء وكما يتأول عبدالحي الرمز في العودة الى سنار لتكوين حدي الرمز كذلك يؤسس ذلك المعنى المركب أيضاً في ديوانه "السمندل يغني". فطبيعة السمندل الاسطورية المنقولة من التراث، "حياة الحيوان الكبرى" للدميري تظهر عند عبد الحي روحاً شفافة متحولة: "أنا السمندل/ يعرفني الغابر والحاضر والمستقبلُ/ مغنياً مستهتراً بين مغاني العالم المندثرةْ/ وزهرة دامية في بطن أنثى في الدجى منتظرةْ/ وكم عبرت والدروع الحمر حولي/ والخيول المعلمة/ أسوار ممفيس، وطروادة والأندلس المهدمة". هنا هوية مستغلقة تتفتح اضاءاتها من جسد النص المسكون بتحولات ابداعية: "وحمل الهواء/ رائحة الأرض/ ولون غير لون هذه الهاوية الخضراء وحشرجات اللغة المالحة الأصداء" هذه اللغة المتقطعة التائهة عبر أفق يستكشف المكان طالعاً من جسد البحر بحثاً عن الأمن والقرار في أرض واعدة هي لغة أسيدية تكشف عن النص ويكشف عنها وهي غير لغة الينابيع في هذا المقطع من "نشيد المدينة": "لغتي أنت وينبوعي الذي يأوي نجومي/ وعرق الذهب المبرق في صخرتي الزرقاء" هذا التغاير الذي يحمل دلالة اللغة عبر اللغة ويعيد انتاجها بتحولات من جو النص تخلق مفهوميتها بصور مختلفة. التجديد الدائم لرموز الحياة في شعر عبدالحي اكسير الخلود الذي ينوس في الابداع ويبقى ببقاء الحياة. وان كان ذلك لا يعني أن عبدالحي وتجرد للكليات من دون أن يغوص في يوميات الحياة. يقول عبدالحي في قصيدة "أحلام العانس": "المرأة العانس في الأحلام/ يوجعها المخاض ثم تلد الأطفالْ/ ترضعهم/ وتسهر الليل تربيهمْ/ فرسان في أحصنة مطهماتْ/ وأميرات لست ساعاتْ/ لأنهم لو طلع الصباحْ/ باتوا بين أموات". وعبدالحي يوقّع موسيقى الكون الصامتة، ويذيب الوجود همساً ليفتح مداخل الروح بعلاقات جمالية تبدع معنىً أكثر اشراقاً في شعر "تحسه الروح قبل الوجدان" كما قال الجاحظ. يقول عبدالحي من قصيدة النخلة: "في الفجر تفتح الشمس بلاد الشجرة/ وتطلق العصافير/ في الليل يقفلها القمر/ ويطلق الأرواح". ويجسّر عبدالحي تقابلات الوجود والعدم بخواتيم تأتي دائماً في شعره امتدادات متوهجة متواصلة ودلالة على الألق والاكتمال فالموت في شعره نضج متجدد كثمار ساقطة تمنح فراغات الحياة براعم جديدة وليس نهاية مأسوية. بل الموت عنده حياة تتفسح عوالمها من وراء الغيب. أي ان بين الوجود والعدم هنا تواصل جدلي في حدود الرؤية الشعرية: "هنا أنا والموت جالسان/ في حافة الزمان/ وبيننا المائدة الخضراء/ ... من مثلنا هذا المساء". هكذا أبدع محمد عبدالحي وهو توفي في مستشفى سوبا في الخرطوم عام 1989م عن 45 عاماً شعره مستوحياً ذاته وتراثه ابن عربي والنفري وود ضيف الله**، ومنح الذات السودانية هوية ابداعية خاصة جامعاً بين التنظير والابداع ليؤسس بذلك تيار "الغابة والصحراء" في الشعر السوداني في الستينات مع زميليه محمد المكي ابراهيم والنور عثمان أبكر وآخرين. وهو تيار خلق وعياً جديداً في الشعر السوداني برؤية شعرية استلهمت الجذور العربية والافريقية للثقافة السودانية. * شاعر سوداني مقيم في السعودية. ** صدرت الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد عبدالحي عن مركز الدراسات السودانية في الخرطوم وتضم دواوينه الخمسة العودة الى سنار - معلقة الاشارات - السمندل يغني - حديقة الورد الأخيرة - زمن العنف. في الحلم رأيت سعدي وحافظ في الحلم رأيت سعدي وحافظ يتناجيان في حديقة الورد الأخيرة قرب المسجد المهجور: الأرض وطننا. فيها كل شيءٍ أو لا شيء. اللَّه أقربُ من حبْلِ الوَريد. لقد رحل جميع الصحاب وبقينا وحدنا في العالم كالنحل البري في نقرة الجبل. وسكر الجميع وقامروا في حانة الدم والنور وكسبنا وحدنا سوء السمعة. لا يمكن ان تفصل عبق العبير من عفن الوباء في هذه الدمن المخضرَّة. علينا ان نمشي حفاةً في مملكة الفقر لا حراس على الحدود ولا جلسات استجواب، واجراءات آمن. النار وطن العشاق يتفتح في قلب الظلمة في شجيرة الليل تحيث السمندل والفراشة شيءٌ واحد زهرةٌ ناريةٌ في الليل الأبدي وتُطبق الصحراء من كل جانبٍ على الطللِ الدارس ولا ضوء غير جمرة الكأس الأخيرة. محمد عبدالحي من ديوان: حديقة الورد الأخيرة