بعد عمله الرائع "رقصة التراب"، الفائز بفهد مهرجان لوكارنو السينمائي الفضي قبل عامين، يعود المخرج الايراني أبو الفضل جليلي الى تلك المدينة وفي جعبته شريطه الجديد "دلبران". اقتفى في الأول قصة حب صامتة ومستحيلة، ومن خلال نظرات صبي مهجوس بشظف العيش وقسوة المكان وأعراف عالم الرجال. وأحال المستحيل الى ذكرى عزيزة مرت في حياة الصبي لتدخله الى عالم القرار. فينتفض على شرط يومه، عبر وطئه لِبْنات الحجر الهشة تحت وابل حبات المطر المنثال، وفي يده آجرة مدموغة بكف من تقاطعت يوماً معها عيناه. بينما جاء جديده ليضرب على الوتر نفسه، ولكن بطله، هذه المرة، صبي أفغاني في ايران، وطفولة نضجت قبل أوانها. عسف المكان وقسوة المحيط يحيلان الصبي الى رجل وحامل أسرار، لا تقف مشكلات اليوم أمامه ولا تثني عزمه في البقاء. في المقابل يضع جليلي العجوز "خان" صاحب المقهى الوحيد في تيه "دلبران"، في اقليم خوزستان، الى مركز نشاط تلك القرية. يرسم المخرج في مستهل لقطات شريطه الأولى معالم القرية وناسها، بكثير من الشاعرية. ومن خلال تتبع الصبي وهو يبتاع الوقود لنقله الى المحطة/ المقهى، ثم يردفها بلقطات تمر سريعاً على عدد من الشاحنات تنطلق منها أغان لا جامع بينها. فقرية "دلبران"، أو "المحبون" بحسب الترجمة الحرفية، ليست فقط محطة للتزود بالوقود والراحة، وانما تعتاش على تهريب العمالة والمخدرات أيضاً. وما أن تقرر الحكومة المحلية قفل طريق "دلبران"، حتى تأكل الخيبة قلب العجوز "خان" ويشيع على أنغام أغنية فيروزية. بينما ينطلق الصبي، في محاولة يائسة، لنثر المسامير على سطح الشارع الجديد عله يعيد حركة الشاحنات الى طريقها القديم. انقسم رأي لجنة التحكيم حول شريط جليلي وفي شكل ظهر الى العلن، فقد فضلته الممثلة الايطالية لاورا موراتني، وعضدتها في الرأي المخرجة الفرنسية اميلي دولوز، ابنة المفكر جيل دولوز، كونه يستحق الفهد الذهبي. بينما تحمست الممثلة الاميركية ديبرا وينغز، ومعها مواطنتها الكاتبة والناقدة جانيت ماسلين والمخرج التشيلي انطونيو سكارميتا الى الشريط الايطالي "الى الثورة بسيارة ذات قوة حصانين"، والذي خطف فهد لوكارنو الذهبي. بيد أن الخلاف لم يخرج الشريط من المسابقة خالي الوفاض، فقد منحته لجنة التحكيم جائزتها الخاصة. حضر جليلي يوميات المهرجان، وكان لنا معه الحوار الآتي: شيعت بطل شريطك العجوز "خان" في نهاية الفيلم على أنغام أغنية فيروزية، هل كانت هناك ثمة شحة في أغاني الحزن الايراني، علماً انها عامرة في الشجن؟ - أحمل للثقافة العربية الكثير من الحب والاحترام كونها قريبة منا في فرحها وشجنها، وما استعارتي لتلك الأغنية، وبعض الحوارات في أشرطتي السابقة، إلا تعبير عن تلك الحقيقة. فأنا شخص تسحرني النظرة الأولى واستجيب للاحساس الأول، لذا اعتمد كلياً على انطباعي الأول وأوظفه مباشرة في أعمالي من دون البحث عما يثقل، ربما، ايقاع الفيلم ويضيف له تعقيدات تخرجه عن سياقه. قصة تلك الأغنية بدأت عندما استعرت شريط كاسيت من صديق يعيش في هولندا، ووجدت فيه بعض الأغاني، ومنها التي أشرت اليها، القريبة من روح تلك اللحظة السينمائية فعمدت من دون التفكير مرة أخرى الى وضعها في نهاية الشريط، علماً انني لا أعرف المغنية ولا أفهم معاني كلمات أغنيتها. مثلما أنهيت شريطك بأغنية، فقد رسمت معالم تلك القرية النائية والمقهى الوحيد في بداية الفيلم عبر أغاني سائقي الشاحنات الكبيرة المنطلقة من سياراتهم وهم يتناولون الغداء أو في فترات الراحة أو لتصليح عجلة أو التزود بالوقود... هل كنت تريد الولوج الى عالم الصوت الذي يبدد الصمت؟ - كنت أفكر ببيت شعري كتبه شاعر ايراني معروف هو فروغ فرخزاد يقول فيه: "لمن هذا الصدى الوحيد"، ومثله الشاعر مولوي، وأردت إيجاد معادل صوري لحياة تلك القرية التي يلفها السكون والصمت غير أصوات الموسيقى والرياح وجلبة حركة الشاحنات المارة بها. فأصوات ناس قرية "دلبران"، ربما غير مسموعة أو معروفة، انما ستبقى أصداؤها باقية مثلها مثل الموسيقى لأنها منبعثة من القلب. كيف وقع الاختيار على ذلك الصبي الأفغاني، وكيف استدرجته لأداء هذا الدور؟ - لم تكن العملية سهلة، إذ كنت أبحث بين جموع الرعاة ومخيمات اللاجئين على صبي فيه مواصفات العناد والمشاكسة وعدم الخوف من الوقوف امام الكاميرا. فالأفغان كثورو الشك ويرتابون من خفايا هذا الوسط ولا يحبون السينما، بل يعتبرونها "مسخرة" مضحكة. أما المخرج ففي رأيهم "أكبر مسخرة"، لأنه يمارس سلطته على مجموعة من الناس لا هم لهم غير الركض والحديث أمام الكاميرا. لقد واجهت صعوبات حقيقية في إقناع الصبي بقيمة السينما والعمل فيها، ولكنه بادلني بريبة كبيرة واختفى أكثر من مرة. حتى وصل المنتج الياباني أيشيّاما شوزو الى قناعة، وكان يرافقني في موقع التصوير، في البحث عن صبي آخر. وبالفعل، بعد ان تبدد الحذر والشك، بدأ الصبي يستجيب لتعليماتي الى حد الاندماج في الدور. بينما طالب بقية الأفغان الذين ظهروا في الفيلم بنسخة فيديو من الشريط تعبيراً عن استمتاعهم في العمل السينمائي. لقد تبددت الظنون، وأحسب ان الصبر والحب في امكانهما ان يغيّرا من الأحكام المسبقة والمواقف الثقافية. ذكرت ان كلمة "مسخرة" يطلقها الأفغان على العاملين في ميدان السينما والفن عموماً، ما يجعل العمل وسطهم محفوفاً بالصعوبات. لكننا نجد، في الوقت نفسه، ان أكثر من مخرج ايراني قارب القضية الأفغانية ومن زاوية مختلفة، كما في شريطي "المطر" لمجيد مجيدي و"قندهار" لمحسن مخملباف، كيف تسنى لكم العمل معهم؟ - المشكلة الأفغانية معقدة الى درجة اختلاط السياسي بالثقافي بالديني وبالعوامل الخارجية، وهذا ما يجعلني كسينمائي تعرض أفلامي هنا وهناك، ألتقط ما هو انساني للتعبير عن الحال العامة التي يعيشها الفرد الأفغاني. بطبيعة الحال لكل مخرج من الذين ذكرتهم وجهات نظر في القضية الأفغانية، لكن أود القول انني بدأت التصوير قبل عام ونصف وما أن سمع مجيدي بالخبر حتى توجه الى مواقع تصوير فيلمي مستفيداً من فضاء المكان. أما شريط "قندهار" فقد أنجزه مخملباف في شكل سريع على أمل عرضه في مهرجان "كان". فالممثلون الذين ظهروا في الشريطين كانوا ايرانيين في لباس أفغان. الفارق الأساسي بيني وبين الآخرين هو في البحث عن الموضوع الصادق والانساني والهادئ. ثمة لقطة طريفة جمعت فيها الصبي الأفغاني والشرطي، حيث يتكفل الأول في حل أصفاد الثاني ولكن لم ينجح في محاولاته الأولى بحجة أن هناك ثقوباً كثيرة في القيد. هل تريد القول من خلال هذا المشهد، ان سلطة الشرطي وهو في هذه الحال مملوءة بالثقوب على رغم هيبته؟ - لك عينان لا تترك الأشياء على سجيتها. ولكنني لا بد من الاعتراف بأنك أضفت معنى آخر لتلك اللقطة. كل ما قصدته هو تقديم الشرطي بطريقة مختلفة وعلى عكس ما كان يعتقد. فالاستعانة بذلك الصبي في رسم المشهد هو في حقيقته عكس لمنطق السلطة، وعبر انقاذ الشرطي من ورطته على يد مهاجر مطارد من المفترض ان يسلم قدره الى سطوة قوانين المكان. وأعتقد ان الصبي أجاد أداء ذلك المشهد في شكل لافت، فقد استطعت التفاهم معه بلغة الأطفال وألعابهم، حتى تشكلت لي قناعة انك لا تستطيع الولوج الى عالم الأطفال إلا اذا أصبحت طفلاً. قدمت زوجة "خان" اضافة الى كونها عجوزاً فهي مبتورة الساق ومن دون تبرير في السياق الحدثي للفيلم، هل تريد القول انه معادل صوري للنظرة الدونية للمرأة؟ - لا، كنت أطمح ان أقدم هؤلاء الناس الكبار في السن، والذين قضوا معظم حياتهم في ذلك المكان، في شكل يجعلهم يعتمدون كلياً على مصدر قوتهم اليومي من خلال ذلك المقهى. فقرار الحكومة المفاجئ بسد الطريق الخارجي ل"دلبران" هو في الواقع قطع شريان حياة تلك العائلة ومصدر رزقها. لقد بترت ساق المرأة في ذلك المكان، ولكنني لم أضع تلك الحادثة في سياق الفيلم، وانما أردت القول ان من فقد ساقاً في مكان يصعب عليه الانتقال الى مكان آخر. ولكنك في الوقت نفسه قدمت مجمل ممتلكات القرية من مضخات لسحب المياه والجرارات والسيارات والأدوات الكهربائية بطريقة تهكمية، حيث كل شيء لا يعمل فيستعينون بميكانيكي وبطارية وحيدة لتشغيل ما عطل. هل وراء ذلك تورية سياسية؟ - حوّل زمن العولمة وانفتاح الأسواق على بعضها والنزوع الى الاستهلاك وهجمة الثورة التكنولوجية العالم الى قرية صغيرة مثلما يقال. لكن ذلك لم ينعكس على حياة تلك القرية النائية لا من قريب ولا من بعيد، بل ان عالمها بقي على حاله، كونه مبنياً أساساً على ترميم ترقيع ما في حوزتهم وتمشية الأمور. لذا تجد ان سيارة الشرطي بي أم في بعد ان سرقت اطاراتها تستبدل بأخرى قديمة ولكن لعربة تختلف عنها كلياً، ومثلها قطع غيار السيارات ومضخة سحب الماء والبطاريات العاطلة... الخ. فقد كان مبتغاي أن أصل الى تجسيد فكرة الفوضى الاقتصادية التي تعيشها ايران في الوقت الحاضر. استوقفني لون سيارة الشرطي البرتقالية وسيارة الطبيب الزرقاء، لماذا وقع اختيارك على هذه الألوان؟ - يضحك، كنت أظن ان كل سيارات الجيب زرق، أو هكذا الحال في بلدي. أما لون سيارة الشرطي البرتقالي فقد أردت له أن يكون دالة تميزه عن بقية الألوان الدارجة.