المقهى على النهر، يكاد يخلو من زبائنه مع تقدم الليل، كنت سحبت المقعد الى الشط مبتعداً عن ضجة التلفزيون، مستمتعاً بالهدوء، حولي مياه النهر الداكنة تمضي بلا صوت. حفيف واهن عند ملامستها الشط. لمعة قضبان السكة الحديد في انعكاسات اضواء المقهى على الشاطىء الآخر. فئران الشط الضخمة تظهر خطفاً في مسار الضوء اثناء قفزاتها، وقط المقهى يخطو بين ارجل المقاعد، يقترب من حافة الشاطىء مقوساً ظهره، نافشاً ذيله. الفئران في قفزاتها لا تتوقف. يكشر القط، يموء في شراسة لحظات ويهدأ. يسترخي جسده المتحفز. ويعود ليستقر في مرقده جنب جدار المقهى. ما ان تعلو صأصأة الفئران حتى ينط مندفعاً في غضبة عنيفة، ويقف ثائراً على حافة الشاطىء. لم أحس بالرجل عندما جاء. انتبهت الى صوته يلقي سلاماً، يجلس غير بعيد، بيننا منضدة خالية، عصاه على مقعد بجواره فوقها كوفية عريضة سحبها من على كتفيه. فتح لفة من ورق الجرائد وراح يأكل. شرب بعدها الشاي ونفض يديه بضربات خفيفة كأنما يزيح عبئاً يثقل عليه، تنهد في صوت، أحسست أنه فاتحة كلام. وكان قال: - لا أرى بلدكم إلا في الليل اربع مرات. ونفس القعدة. كنت أفكر في ما يمكن قوله حين عاد للكلام. قال إنه حتى الناس تبدو في الليل غيرها في النهار، فاهم قصدي؟ - آه طبعاً. واحد هادىء، مستريح، تكلمه يرد عليك في النهار عرقان تعبان، لا يطيق أن توقفه أو تكلمه كلمتين. سكت بعدها وأخذ يدخن الشيشة. أراحني ذلك، وعدت لمتابعة القط والفئران. ضجة القطار القادم، وكان لا يزال بعيداً أخرجته من صمته، قال: - وها هو القطار. سألني: أترى القضيبين؟ - آه هناك. - لو أن أحدهما أُزيح قليلاً من مكانه؟ - ومن يزيحه؟ - يا سيدي افرض عيال لعبت في الفلنكات والمسامير، والفلنكات أصلاً خربت، والمسامير أكلها الصدأ. أي سبب. الارض هبطت بعد زخة مطر شديدة وأخذت معها القضيبين أو واحداً منهما. والقطار قادم في سرعة. والسائق لا يرى القضبان لأبعد من عشرين متراً. آه. سكت - كان لا يزال ينظر الى القضيبين ومبسم الشيشة على خده: - طيب. لو أن حماراً يعبر القضيبين وتعثر؟ - وما يجعله يتعثر؟ - بسيطة، حمولة السباخ ثقيلة زادت حبتين وصاحبه بعيد عنه. أنظر إليه متعجباً وأجدني اسأله: - ولم لا يكون بجانبه؟ - افرض، أي سبب، ويحصل كثيراً يقف مع واحد يكلمه، يأخذهما الكلام أو يميل جانباً ليقضي حاجته والحمار في حاله ماشٍ مع صاحبه او من غيره ماشٍ تقابله القضبان، يرفع حافره ليتخطاهما يرفعه بما يكفي من ثقل الحمولة، يصدم القضيب، يقع، وحصل... - وصاحبه لم لا يلحق به؟ - آه قلت لي، صاحبه لا يراه عندما يقضي حاجته، يتوارى حتى في الليل، ومهما حاولنا أنا وأنت وسبحنا حتى بملابسنا لن نلحق به؟ - وتسبح بملابسك لتنقذ حماراً؟ - ولم لا. - كل ملابسك؟ - ومن يفكر ساعتها. - صحيح من يفكر. أعود بنظري الى الشاطىء الآخر اراه كما في كل ليلة، الاشجار كثيفة تأخذ شكل قوس وفجوة واسعة بينها تظهر منها القضبان، قلت: - فوازير. تطلع نحوي، ساقاه ممدودتان، وقدماه متعانقتان، يهزهما: - نسميها فوازير؟ - آه فوازير، افرض، افرض، افتراضات... نبرة الضيق التي بدت في صوتي، قال: وتغضب؟ اجتاحني الغضب وما يهمك؟ - أبداً، تغضب أو لا تغضب، تنظر الى القضبان ولا ترى غير القضبان، تنظر الى النهر ولا ترى غير المياه، كل واحد وما يراه. أتحرك قلقاً في مقعدي. أهم بالقيام ولا أقوم. قلت: - والنهر؟ ماذا به هو الآخر؟ - أشاح بوجهه، وراح يدخن في صمت. ضجة القطار تقترب. أراه خلال الفجر يمرق مسرعاً، لمحت الرجل بجانب عيني يدس قدميه في الحذاء، ويرمى بكوفيته الى كتفه. وقف مستنداً الى عصاه ينظر الى واجهة المقهى ثم سار مبتعداً. تبعته بنظري حتى اختفى في العتمة. * كاتب مصري.