قطع التلفزيون المركزي في موسكو برامجه، وبدأ عرض باليه "بحيرة البجع" مرة تلو الأخرى، فيما استيقظ القاطنون في اطراف العاصمة على هدير محركات الدبابات التي أخذت جنازيرها تلتهم الاسفلت المبلل بمطر خفيف. هكذا بدأ يوم 19 آب أغسطس عام 1991 الذي صار بداية تفاعل متسلسل انتهى بانهيار الدولة العظمى الثانية وترتبت على ذلك تحولات قلبت موازين بدت أبدية. ويقدم المشاركون في الأحداث صوراً متناقضة احياناً عنها، ولكن ثمة ما يشبه الاجماع على ان ما يوصف ب"العصيان" لم يكن له مثيل في تاريخ الانقلابات. ففي مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات أعلن عن تشكيل "لجنة طوارئ" وهذه بدورها ذكرت ان ميخائيل غورباتشوف الموجود في القصر الرئاسي على البحر الأسود مريض وانه "تخلى" عن السلطة الى نائبه غينادي يانايف. كلمة "العصيان" تبدو غريبة فعلاً إذ ان المشاركين في العملية كانوا يحتلون أعلى المناصب في الدولة، فإضافة الى يانايف ضمت "لجنة الطوارئ" رئيس الوزراء فالنتين بافلوف ووزراء الدفاع والداخلية والامن "كي جي بي". ويعترف غورباتشوف نفسه بأن "الانقلابيين" عرضوا عليه ان "يستريح قليلاً ريثما يُنجز العمل القذر" ليعود الى السلطة. وأكد باحثون عديدون ان الاتصالات لم تقطع بالكامل عن قصر "فوردس" في القرم. وكان النصر حليف يلتسن الذي توجه الى "البيت الأبيض" وهو الاسم الذي اطلق آنذاك على مقر القيادة الروسية الذي وضعت حوله متاريس ليتحول "قلعة صمود" لم يهاجمها أحد. ويبرر وزير الدفاع السوفياتي دميتري يازدف الامتناع عن استخدام القوة ب"صفاء النوايا". والمؤكد ان "لجنة الطوارئ" لم تكن فعلاً راغبة في استخدام القوة ضد يلتسن الذي لم يتردد لحظة في قصف "البيت الأبيض" نفسه بالدبابات بعد عامين حينما رفض البرلمان قراره تعطيل الدستور. وخلافاً للشائع فإن المعارضة ل"حركة التمرد" قبل عشر سنوات لم تكن واسعة و"الحياة" كانت شاهداً على كل تلك الأحداث. فلم تكن هناك استجابة لطلب يلتسن اعلان الاضراب السياسي العام. ويظهر آخر استطلاعات الرأي ان غالبية الروس تعتقد ان "الأوضاع ما كانت ستصبح أسوأ" لو انتصر الطرف الآخر. فحصيلة السنوات العشر العجاف مخيفة فعلاً، إذ ان غورباتشوف حينما عاد الى العاصمة ليقف الى جانب المنتصرين وجد نفسه منبوذاً من الطرفين وصار يلتسن الحاكم الفعلي وانتقل رسمياً الى الكرملين بعد توقيع اتفاق تفكيك الاتحاد السوفياتي. ويعترف يلتسن في "مذكراته بأن ما حصل بعد ذلك كان صدمة للشعب"، ويقول: "كان الناس ينتظرون جنة على الأرض وحصلوا على تضخم وبطالة وصدمة اقتصادية وأزمة سياسية". وهذا ما دفع الكسندر تسيبكو وهو أحد أكبر المفكرين المعادين للشيوعية والذين شاركوا في وضع "الخط الايديولوجي" ليلتسن لكي يقول اليوم ان الاعوام العشرة السالفة "شهدت عملية خصخصة لصوصية بيعت خلالها ممتلكات الدولة بأسعار بخسة أو منحت مجاناً" الى حفنة من المتسلطين". وأضاف: "نحن اعداء الشيوعية لم نقتصر على تصفية ديكتاتورية الرقابة والتحقيقات البوليسية السياسية، بل دمرنا واحدة من أكثر الثقافات تقدماً في الحضارة المعاصرة". وإذا كان "المنتفعون" من احداث 1991 يشكلون شريحة ضيقة داخلياً، فإن المستفيدين منها في الخارج كانوا كثيرين. وربما هذا ما دفع الزعيم الحالي للحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف الى ان يعلن ان ما جرى قبل عشرة أعوام كان "مسرحية كبرى" أعدتها أجهزة استخبارات أجنبية. ولم يكشف زيوغانوف تفصيلات أخرى لكن عدداً من الكتّاب الروس كان أشار الى ان منظمات صهيونية محلية لعبت دوراً في مساندة يلتسن في الاحداث المصيرية عامي 1991 و1993. وقد يكون يلتسن مخطئاً في أمور كثيرة بيد انه أصاب حينما قال ان "القرن العشرين انتهى في آب أغسطس عام 1991 ... وبدأ عصر جديد" والجديد ليس الأحسن دائماً.