الولايات المتحدة فقّاسة كبيرة للصرعات. منها يأتينا ما هو مدهش وعجيب وخارق، منذ أكثر من قرن تقريباً، ومنها ايضاً يأتينا ما هو مثير للغرابة والاستهجان، بل والاشمئزاز. ومن آخر الصرعات الصادرة عن بلاد العم سام، كتاب جديد، واسع الانتشار، قامت بتأليفه كامرون توتل، ويحمل عنوان "الفتاة السيئة". ويتضمن "أفضل الإرشادات لجذب الرجال والنجاح في العمل والحياة عموماً". العنوان ملخص وفخ في آن، هدفه لفت انتباه القارئة الشابة وحثّها على شراء الكتاب. وقد نجحت هذه الاثارة في الواقع، إذ بيعت خلال هذا العام ونهاية العام المنصرم عشرات آلاف النسخ من هذا الكتاب. وبالطبع كان جمهوره من المراهقات والشابات في شكل رئيس، المعنيات بالمنطق الهجومي، بل والعدائي، الذي يقوم عليه عمل الكاتبة. فالفتاة السيئة bad girl، كما تحاول ان تسوّق نموذجها توتل، هي الصيغة الأنسب للعيش في أدغال المجتمع الذكوري الأميركي. ذلك ان هذا الخيار يجلب لصاحبته السعادة، في نظر المؤلفة، فهو كفيل بتأمين كل ما تحتاج اليه مباشرة و"نقداً" على حدّ التعبير الأميركي المحبَّب. المطلوب بكل بساطة في هذا الكتاب ان تغادر الفتاة المعاصرة طرق التهذيب والأنوثة والتواضع التي تقوم عليها تربية الفتاة التقليدية الأميركية، وان تعتمد بدلاً منها طرق السلوك الملتوي والتحرّر الكلي وحياكة المؤامرات على الرجال. تقوم فلسفة المؤلفة على ان "الفتاة السيئة" هي، قبل كل شيء، فتاة. أي ان عليها ألاّ تتخلى عن جانبها الأنثوي الذي سيكون بمثابة السند الأول لها. فهو الذي سيسمح لها ببناء شخصيتها الهجومية والفذّة وهو عدّة العمل التي لا مفرّ من استخدامها. ف"السيئة"، كما هي مطروحة، أنثى، لكنها تعيش بحسب ما يناسبها. فهي تنطلق من نفسها، لا مما يريده لها المجتمع ان تكون. ففي حين ان الفتاة الجيدة تسلك السلوك الذي يتوقعه الكل منها، تقوم الفتاة السيئة بالعكس. وهي تسنّ قواعد سلوكها هي بنفسها. وتجعل الناس من حولها يحترمون هذه القواعد. فهي تعرف تماماً ما تريد وتعرف ايضاً كيف الحصول على ما تريده. وتشير المؤلفة انه في التراث الأميركي نماذج كثيرة ومختلفة للفتاة السيئة، على الفتاة السيئة المعاصرة ان تستخرج من كل واحدة منها فكرة أو مسلكاً. وتذكر، على سبيل المثال، في هذا الكوكتيل المثير، سكاترلت اوهارا بطلة "ذهب مع الريح" والممثلة اليزابيث تايلور والمغنية مادونا ومصممة الأزياء كوكو شانيل. حتى انها تستحضر البطلة التاريخية الفرنسية جان دارك، لتبهر مشهدها الفكري وتعطيه بُعداً تاريخياً قد يزيده مصداقية في ذهن القارئة! وهذا الخليط العجيب، المنعوت بالسيئ، والذي يتقاسم الخروج على قواعد القبول بالنظام القائم، لا يكفي لتشكيل أساس لنظرية أو فلسفة متماسكة في السلوك. فسكارلت اوهارا انتفضت على نظام سياسي اقتصادي سرعان ما عادت للانضواء تحت لوائه. وكذلك هو الحال بالنسبة الى مادونا وكوكو شانيل. أما جان دارك فقد أُعلِنَتْ قديسة رسمياً في منتصف القرن الماضي. لذلك لا عمق نظرياً لما تطرحه مؤلفة الكتاب التي تكتفي بالاستناد الى ما يشبه الكوكتيل المرتب المؤلف من قطع متنافرة ومتنوعة. وكتاب كامرون توتل يعجّ بالعبارات الاستفزازية، تعويضاً عن ضعف وهشاشة طرحها، فهي لا تنفك عن كتابة عبارات من نوع: "كوني فتاة سيئة، واطلقي عنان الفهد الذي ينام فيك. فهذا هو حلمك الأكثر جرأة، كوني فتاة سيئة، فهذا أفضل ما فيك، كيفما كنت ومهما كنت". وفي نظر صاحبة الصرعة ان العيش على هذا النمط لذّة كاملة. فالفتاة السيئة تدخن وتشرب وتناوم مَن تشاء، وتأكل ما تريد ولا تتبع الموضة سوى عندما يناسبها الأمر. وبما ان هذا السلوك غير السويّ يجعل الفتاة السيئة في حال تصادم شبه دائم مع محيطها، تنصحها المؤلفة بأن تضع ذكاءها في خدمة تحررّها. فعليها ان تنظّم حياتها. وأهم خطوة في هذا المجال ان تحيط نفسها بعدد من الصديقات يلعبن دور السياج من حولها. ذلك ان الفتاة السيئة تشعر بهشاشة وضعها وهي بحاجة للتحصين الذاتي. وعليها ان تحافظ على صديقاتها وتهتم بهن على الدوام، لأنهن بمثابة الشريكات في عملية التآمر التي تقوم بحياكتها في حياتها اليومية والعملية. شعار الفتاة السيئة هو شعار الفيلسوف الالماني هيغل "السعادة تكمن في الصراع". فحياتها كفاح مستديم مع المحيط الذي تعيش وتعمل فيه. وفي سبيل تمتين اوضاعها تقترح المؤلفة على الشابة اللجوء الى الخدعة، في شكل ذكي جداً. فمثلاً، ان كان مطلوباً اجتماعياً من الشابة ان تتقن فن الطبخ، فعليها ان تلتف على هذا الواجب القاهر والسالب لحريتها ووقتها الثمين. وبإمكانها في هذا المجال دعوة الشاب الذي يعجبها الى العشاء والتظاهر بأنها حضّرت هي بنفسها هذا العشاء. فتشتري مثلاً بعض الأطباق الجاهزة من المحلات المتخصصة، ثم تسكب محتوياتها في قدرها، وتسخّنها في البيت، وتدعي انها هي بنفسها قد قامت بتحضيرها. ... ولزيادة المصداقية على المشهد، على الفتاة السيئة ان تقوم قبلها بقليل بتقلية بصلة مفرومة في مقلاة، مع بعض زيت الزيتون، كي تفوح الرائحة وتغمر البيت. بينما تقوم هي برمي البصلة في سلة المهملات بعد الانتهاء من العملية. المطلوب من الفتاة السيئة ان تجيد فنون المكر والكيد. لكنه فات على المؤلفة الأميركية ان تشير الى الكثير من الكتب التراثية، الموجودة عندنا، كمثل "عقل الحيَل" للهمذاني، وككتب العاشقات في الهند، لكي تكمل مخزون الخدع التي برعت فيه المرأة الشرقية، عبر التاريخ، والذي يستهوي - يا للمفارقة - الشابات الأميركيات المعاصرات. وتقول مؤلفة الكتاب ايضاً ان الفتاة السيئة تسعى لجذب فارس احلامها الى مخدعها. "لكنها تجرّه جراً، بأسنانها، الى بيتها". وهذا يعني ان عليها ان تجرّب تشكيلة من ثلاثين أو أربعين شاباً قبل ان تختار مَن يناسبها. "السيئة"، تقول الكاتبة، ليست بحاجة الى رجل، بل هي ترغب في الرجال فقط. وفي هذا السياق نجد ايضاً سلسلة توصيات في هذا الدليل الغريب، ومنها ان على الفتاة السيئة ألاّ تكون صعبة المنال، لكن صعبة الاحتفاظ، فأي كان بإمكانه ان يبلغها وأن يتعرّف عليها وان يبني علاقة عابرة معها، لكن من الصعب جداً ان يحتفظ الرجل بالفتاة السيئة. فهي التي تحتفظ به، ان ارادت، وليس العكس. وعندما ترغب الفتاة السيئة في التخلّي عن عشيقها تقوم بالأمر بذكاء ايضاً، كأن تقول مثلاِ له: "أنا سعيدة جداً بأني تعرفت عليك. فأنا أبحث عن زوج مناسب لي من زمان. زوج مثالي يهتم بي وبابني الصغير المشلول الذي يحتاج هو أيضاً لعاطفة". وتكشف المؤلفة عن ست "ارشادات" بإمكان الفتاة السيئة ان تستخدمها في عملها... للقيام بأقل قدر من الجهد الممكن ولاعطاء صورة رائعة عن قدراتها المهنية واضعاف خصومها. كما ان على الفتاة السيئة ان تعرف كيف تقول لا، من دون ان تقول لا. وهكذا دواليك، سلسلة لا تنتهي من النصائح الفارغة والتي تهدف الى ايهام الشابة بالسعادة الذاتية، الأنانية، اللااجتماعية باختصار. ومن جملة هذه الارشادات كتابة بعض المواعيد الوهمية مع اشخاص مهمين، على أوراق صفر لاصقة صغيرة، توضع على شاشة الكومبيوتر، لإبلاغ من تريد ابلاغه الفتاة السيئة بالمواربة، عبر حشرية الزملاء الطبيعية في المكاتب. فاستغلال فضول الآخرين يدخل في تقنيات الخداع الجماعي والدائم الذي تلتزم به الفتاة السيئة. قد نضحك مما نقرأه في هذا الكتاب الصرعة. وقد نبكي أيضاً. وقد نهزّ رؤوسنا أيضاً قائلين: "الى أين يذهب هذا العالم المجنون؟". فردريك معتوق