بعد صدور مقالي: "هل يحمل الاسلاميون الحداثة الى أرض الاسلام؟" تيارات 12/2/2001. هاتفني مثقف لم أسمع صوته منذ ربع قرن ليقول لي: الآن فرغت من قراءة مقالك وهتفت: خمسين جمهورية اسلامية عسى أن نقطع مع الماضي ونتصالح مع الحاضر والمستقبل... لا شك أن صاحبي لم ينس شيئاً ولم يتعلم شيئاً من شعار غيفارا السهل "50 فيتناماً لدحر اليانكي". لكن الواقع أكثر تعقيداً. منذ ظهور الجمهورية الاسلامية في 1979 جرت مياه غزيرة تحت الجسور: أصحاب القرار العالمي كابدوا ارهاب ايران الاسلامية في كثير من عواصمهم وخطف حزب الله للرهائن الغربيين في بيروت لحسابها... فأخذوا الدرس لمنع تكرارها. بدورها النخب المحلية المناهضة لمشروع الاسلاميين الخلاصي هي اليوم اكثر استنفاراً فيما الاسلاميون أكثر ضعفاً وانقساماً. اربعة سيناريوهات ممكنة لوصول الاسلاميين الى الحكم في البلدان التي لم تراهن نخبها الناقصة الشرعية على الانخراط في مغامرة الحداثة بنزع فتيل الانفجار السكاني وتحديث شرط المرأة المرتبط به ارتباط السبب بالنتيجة، تحديث الاقتصاد بدمجه في الاقتصاد العالمي، تعميم وتحديث التعليم، تحديث البنى السياسية بدمج الخصوصيات اللغوية والدينية في المواطنة الحديثة، الاعتراف بحرية التعبير والتنظيم ومكافحة الأمية والفقر المعيقين للدخول الى الحداثة. 1- السيناريو السوداني: تحالف الجيش والاسلاميين للحكم معاً. يقول عن الجزائر المستشرق الفرنسي برونو ايتان ان باريسوواشنطن اتفقتا منذ 1990 على ضرورة تقاسم الحكم بين الجيش والجبهة الاسلامية للانقاذ. للجيش وزارات السيادة والخارجية والدفاع وللاسلاميين وزارات التعليم والعدل والأوقاف... لكن الاتفاق بقي حبراً على ورق. بعث مجدداً في 1994. حمله زروال بنفسه الى مدني وبلحاج في سجنهما اللذين اشترطا عليه كبادرة حسن نية تحرير الشيخين بوخمخم وجدي للاتصال بالجماعات المسلحة لاقناعها بالاتفاق. لكن الشيخين لمجرد اتصالهما بالجماعات المسلحة اقتنعا بأن الجمهورية الاسلامية باتت في متناول اليد فنظما انطلاقاً من المساجد حملة ضد "المصالحة مع الطاغوت"! في الواقع السيناريو السوداني ليس فيه من السودان الا الاسم. لأن ما حدث في السودان لم يكن تحالفاً بين الاسلاميين والجيش بل كان انقلاباً عسكرياً قام به الترابي بعد سقوطه في الانتخابات. اما في الجزائر فالجيش و"الانقاذ" على طرفي نقيض وبينهما ثارات عشائرية. 2- سيناريو الجبهة الاسلامية - العلمانية. محض افتراض لأنه لا توجد سابقة تاريخية لحكومة اسلامية - علمانية. اسلاميو الأردن خرجوا من عباءة النظام لكن مشاركتهم في الحكومة سرعان ما باءت بالفشل لأنها لا تتجاوب مع توقعات جمهورهم الخلاصية. حتى المشاركة في الانتخابات ما زال فيها قولان. في ايران لم يكن للملالي خبرة بالحكم لذلك استعان الخميني في البداية بكريم سنجابي أحد وزراء مصدق وبمهدي بزركان، رئيس حركة تحرير ايران. لم يحتفظ بسنجابي الكردي الا 35 يوماً وبعد 9 أشهر أرسل بزركان الى بيته ووزير خارجيته قطب زادة الى المشنقة وسمى هذه العملية "الثورة الاسلامية الثانية" الخالصة من شوائب "الاغيار" لأنه توسم في أمثال بهشتي ورفسنجاني... القدرة على الحكم بأنفسهم. ثقافة المشاركة في الحكم وقبول أنصاف الحلول ما زالت غريبة عن حقل الاسلاميين الذهني الذي لا يتسع للمغاير. لماذا؟ المغاير يدمر يقين الاسلاميين بأن قيمهم ومعاييرهم طبيعية اذن صالحة لكل مسلم. وهكذا فالمسلم المغاير الذي يكذّب يقينهم يستفزّهم لأنه يذكّرهم بأن أوهامهم عن أنفسهم ليست طبيعية ولا صالحة لجميع المسلمين فضلا عن غيرهم. يدافعون عن يقينهم بتصنيف المسلم المغاير في عداد "الفرقة الشريرة". تكفير سيد قطب للمجتمعات الاسلامية يعبر عن هذه الرؤيا الرهابية للمسلم المغاير. 3- السيناريو الانتخابي: بإمكان الاسلاميين كسب أية انتخابات نزيهة في الجزائر وربما أيضاً في المغرب ومصر لأن هذه الأنظمة تجاهلت أولوياتها الخاصة وتبنت مشروع الاسلاميين الماضوي. والناخب يفضل عادة الأصل على النسخة. لكن الانتخابات الشفافة ما زالت ليست من العالم العربي الذي ينطبق عليه تشخيص فلوبير لعهد لويس بونابرت 1852 - 1840: "كل شيء فينا مزيف: جيش مزيف، سياسة مزيفة، ادب مزيف، وحتى بغايانا مزيفات". 4- السيناريو الايراني: انتفاضة تفكك الجيش لصالح ميليشيات تطلق لغرائزها العنان، وهو ينسجم مع مزاج الاسلاميين الاستشهادي. لكن دونه عوائق. لنفترض انتفاضة اسلامية ظافرة في الجزائر مثلاً ستجد امامها جبهة في الداخل من الاعداء المستقتلين في طليعتهم، فضلاً عن البربر، النساء والمثقفون اذا صدقت نبوءة الحسن الثاني، وفي الخارج الدول الاوروبية وفي مقدمها فرنسا. لماذا؟ احيل الكلمة الى الفرنسي اوليفييه روا، الخبير في علاقة الغرب بالاسلاميين: "لا وجود لسياسة اميركية واحدة تجاه الحركات الاصولية بل سياسات. يجب الاعتراف بأن كلمة اصولية لا تثير ذعراً في اميركا كما في اوروبا وخصوصاً فرنسا. الولاياتالمتحدة تحتضن اصوليين مسيحيين ويهوداً، اذن متعودة على الاصولية ولها مفهوم مختلف للعلمانية. اضف الى ذلك انها بعيدة جغرافياً عن العالم العربي ورأيها العام يتقبل فكرة الاصولية ولم يعش، مثل الرأي العام الفرنسي، رعب الاصوليين الاسلاميين بين 1983 و1986. اضف اليه ايضاً ان الاميركيين وجدوا خلال الحرب الباردة ضد السوفيات في الاسلاميين حليفاً … منذ سقوط الاتحاد السوفياتي فقدت الورقة الاسلامية اهميتها في نظر واشنطن وسياستها الآن ازاء الاسلاميين براغماتية تختلف من يوم لآخر ومن حركة اصولية لاخرى". يختم روا تقويمه: "الظاهرة الاصولية ليست هاجساً ومصدر رعب للاميركيين لكنها تشكل في المقابل هاجساً ومصدر رعب للاوروبيين". لماذا؟ لعدة اسباب: توقع الاوروبيين لهجرة حاشدة، فرنسا مثلاً تتوقع هجرة 3 ملايين جزائري اليها بينهم مليون يحملون الجنسية الفرنسية حالما تستولي "الانقاذ" على الحكم. الهجرة المغاربية كفيلة بكسر التوازنات الثقافية السياسية: زيادة تعقيد دمج المهاجرين القدامى في النسيج الاجتماعي، تفاقم البطالة والجنوح وكراهية الاجانب المتأتية منها وتالياً عودة اقصى اليمين الى المسرح السياسي الذي هو اليوم حكر على وسط اليمين ووسط اليسار. وزير الداخلية السابق ج. ب. شوفينمان يقدم في كتبه "اسود واخضر" 1992 سبباً اضافياً لعداء اوروبا لحكومات اسلامية عربية محتملة لأنها ستكون اداة بيد واشنطن لطرد اوروبا من الشرق الاوسط ونفط الجزائر، ناسباً الى العم سام نية احتكار النفط العربي للتحكم في القرار الاوروبي. الاميركي غراهام فولر الذي كتب سنة 1997 تقريراً لحساب الجيش الاميركي تنبأ فيه باحتمال حكم "الانقاذ" للجزائر يؤكد، تصحيحاً ضمنياً لاطروحة شوفينمان، بان واشنطن غيرت رأيها في دعم وصول جبهة الانقاذ للحكم منذ 1995 لسببين: "اولاً لم تعد ادارة كلينتون تعارض السياسة الفرنسية خاصة في الجزائر وثانياً قلق مسؤولي ادارة كلينتون الكبير من ارتفاع مستوى العنف وازدياد راديكالية الجبهة الاسلامية للانقاذ. وهكذا انتهت تلك الايام التي كان فيها انور هدام ممثل الانقاذ في واشنطن يدعو كلينتون تحبباً ب"نجاشي الحبشة" الذي فتح ذراعيه للمسلمين الأوائل الفارين من اضطهاد مشركي قريش! استيلاء الاسلاميين على الحكم إشكالي واحتفاظهم به مدة كافية حتى يقتنع جمهورهم بإفلاس مشروعهم لا يقل اشكالية. وهكذا تكون شعوب ايران، السودان وافغانستان هي التي استطاعت حتى الآن التصالح مع الحداثة بفضل اسلامييها ورغم أنفهم!