بينما كانت السلطة الفلسطينية تزاول عادتها القديمة بعرقلة جهود المقاومة وإجهاض عملياتها، كانت حكومة شارون تتواطأ مع قطعان المستوطنين وتطلقهم على ممتلكات الفلسطينيين حرقاً وتدميراً وتفتح لهم ابواب الفرار بعد اغتيال العزل. وفي الوقت الذي يثبت فيه شارون على مواقفه من عينة أن "لا حلول وسطاً مع الارهاب"، ولا يتأثر بدعوات اللاعنف، ولا يرضخ لضغوط الخارج لقبول مراقبين دوليين ادراكاً منه بأن الرضوخ سيؤدي الى لاعنف اسرائيلي يعيد المبادرة الى الشارع الفلسطيني نرى في المقابل تراجعات من سلطة فلسطينية وحكام عرب يرفضون ان يُعتبروا من تجارب الماضي القريب، ويسيل لعابهم أمام أي جزرة يلوح بها أمامهم وآخرها جزرة المراقبين. وكأن الثمانين مراقباً أوروبياً في قوة "تيف" الدولية في الخليل نجحوا في حماية فلسطيني واحد من القتل أو الاصابة. لقد كانت مجزرة صابرا وشاتيلا العام 1982 هي رد اسرائيل - التي لا تنسى ثأرها - على توقف الفلسطينيين عن العنف وانسحابهم من بيروت. وهكذا في كل مرة انحاز فيها الفلسطينيون الى اللاعنف كان ذلك وبالاً عليهم. عملياً إذن ثبت فساد خيار اللاعنف الفلسطيني. أما نظرياً فقد ثبت ايضاً فساده، وذلك من خلال مقالين متتاليين لمبارك عوض وعبدالعزيز سعيد في صفحة أفكار 25 و26 تموز - يوليو اذ روّج الكاتبان لهذا الخيار بتنظير لا يمت للواقع بصلة. فمثلاً يصعب على المرء استيعاب مقولة إن "اللاعنف اداة للقوة واستراتيجية للإعتقاق" في ظل ما يجري على الارض اليوم. كما يستحيل - في ضوء الاوضاع الفريدة في قسوتها التي يمر بها فلسطينيو الضفة والقطاع - تفهّم جدوى لجوئهم الى اعتصامات وعصيان مدني واعمال مسرحية وفنية احتجاجية، أو "أسلحة اللاعنف النفسية والاقتصادية والسياسية" على حد تعبير الكاتبين. يقول الكاتبان إنه حتى يتمكن الفلسطينيون من ممارسة اللاعنف بنجاح سيكون على السلطة الفلسطينية "ان تأخذ زمام المبادرة في فتح قنوات اتصال مع الحكومة الاسرائيلية والاسرائيليين المعارضين للاحتلال. ولتحقيق النجاح سيتعين على اسرائيل أن ترد بالمثل وتتعامل بحسن نية". لا أدري اين كان الكاتبان طوال السنوات الثماني الماضية عندما مارس الفلسطينيون اللاعنف وهرولت السلطة والعواصم العربية لفتح قنوات اتصال مع اسرائيل و"معسكر السلام" فيها، فكان رد اسرائيل مضاعفة الاستيطان وترسيخ الاحتلال. ألا تكفي هذه التجربة العملية طوال سنوات اوسلو للتدليل على فشل خيار اللاعنف؟ لقد وقع الكاتبان في تناقض واضح عندما زعما في بداية مقال 26/7 أن "نجاح حزب الله لا يمكن أن يتكرر في فلسطين لأن الوضع الفلسطيني يكاد يكون مختلفاً كلية". ثم اشادا في نهاية المقال ب "النجاحات الضخمة التي حققتها النضالات اللاعنفية في الاتحاد السوفياتي والفيليبين وبولندا واليونان" بالاضافة الى ماحققه غاندي في الهند وحركة الحقوق المدنية للسود في الولاياتالمتحدة مقال 25/7. صحيح أن الوضع في فلسطينالمحتلة يختلف عنه في جنوبلبنان، ولكنهما يشتركان على الاقل في عناصر عدة مهمة مثل طبيعة القوة المحتلة وطبيعة المحيط العربي ودور إعلام الغرب الطاغي في تسويغ جرائم اسرائيل ووصم المقاومين لها بالارهاب. اما الاتحاد السوفياتي وبولندا واليونان، فلا يجمع أياً منها بالوضع الفلسطيني عنصر واحد مشترك. لا يمكن مثلاً لقيادة فلسطينية أن تخرج من أي قرية كما فعل غاندي من دون ان تتعرض للاغتيال، او أن تمر على القرى والبلدات الاخرى فتخترق الحصار الخانق المضروب حولها لحشد المؤيدين احتجاجاً على الاحتلال. في مقابل خيار اللاعنف، هناك خيار العنف المفرط في الايلام الذي يحول الجنازات الاسرائيلية الى روتين يومي ويستهدف ردع العدو وعدم منحه فرصة لالتقاط أنفاسه كما يفعل هو اليوم بالفلسطينيين نتيجة للجم السلطة للمقاومة. ولكن بغض النظر عن مدى فساد أو صحة الخيارات المختلفة، فإن القرار مرده في النهاية الى الشارع الفلسطيني الذي لا يحق لأحد، وبالذات المسؤولين العرب، فرض الوصاية عليه ومعاملته كأنه قاصر لا يدري أين تكمن مصلحته. إن زعم عوض وسعيد أنه "لا يمكن للفلسطينيين ان يديموا انتفاضة متواصلة" يتناقض مع نتائج الاستطلاع الذي أجراه "مركز القدس الاعلامي" في حزيران يونيو وكشف عن ان 79 في المئة من الفلسطينيين يصرون على استمرار الانتفاضة حتى تحقق أهدافها، كما يرفض 67 في المئة ربط مصير الانتفاضة بتجميد المستوطنات. * كاتب مصري.