لا يمكن لمن يتابع مداولات القادة والمسؤولين العرب في قمة عمان والطريقة التي تم بها التعاطي مع اهم ملفين - التسوية السلمية أو عملية السلام، و"الحالة" التي تختزل العدوان والاعتداء والاحتلال العراقي للكويت وافرازاته خلال عقدين من الزمن - الا ان يصاب بدهشة متوقعة لعدم حصول اختراقات ان لم اقل للفشل مع الملفين الاكثر صعوبة والاكثر تعقيداً. اذ لم يخرج الفلسطينيون أو السوريون أو الكويتيون أو العراقيون بما يرضيهم، ولا اسرائيل ارتعدت فرائصها من قرارات القادة العرب، ولا اميركا رفّ جفنها من تحذيرات الزعماء العرب، اذ بادرتهم اسرائيل بقصف رام الله واختراق مناطق السلطة. وعاجلتهم واشنطن، وبأسلوب فيه الكثير من الصفاقة والفوقية، بانتقادات شخصية - وبالاسماء - للقادة العرب بعدما استخدمت الفيتو. حتى النظام العراقي الذي سرق الاضواء في قمة عمان المفترض ان تغطي موضوع القدس والانتفاضة والتسوية، كال للاسرة الهاشمية الاتهامات، اذ دمج صدام حسين في خطابه الذي قرئ بالنيابة عنه القضيتين الفلسطينيةوالعراقية معاً، ووزع تهديداته لاسرائيل بجيش القدس ومتطوعيه السبعة ملايين ومعهم البليون يورو ليساهم في القمة بمزايدات انشائية وعنتريات فارغة ولكن بخبث وذكاء في تجيير الانتفاضة لتخدم مآربه واهدافه وتطلعاته. ما يهمنا في مقالتنا هذه هو الحديث عن "الحالة" التي ابتدعت في ليلة ظلماء واخذت في لغة ديبلوماسية الاممالمتحدة لتختزل العدوان والاعتداء والعذر والاحتلال والتهديدات العراقية المستمرة على دولة الكويت خلال اكثر من عقد من الزمن. واذا كان العراق يشكل امتداداً ومخزوناً للواقع العربي، ولئن كان العرب يريدون ان يسيروا بطريق المعالجة على امل ان الزمن يتكفل بتضميد جراح الكويتيين - الضحية - ومن ارتكبت بحقهم جرائم الاعتداء والاغتصاب وحتى الشطب والتشريد والتنكيل، ولئن كانت الحكومة الكويتية بمساعيها ومرونتها، التي يفسرها العديد في الكويت بأنها تنازلات للعراق من اجل اللحمة العربية واحياء التضامن العربي، وحتى لا يستمر مسلسل الاتهامات والانتقادات للكويت من جانب البعض في الاعلام العربي بأنها الكويت من يُبقي الحصار على الشعب العراقي، والكويت هي السبب في تشرذم الصف العربي، والكويت هي من يسمح لاميركا وبريطانيا باستخدام اراضيها كقواعد تنطلق منها الطائرات الاميركية والبريطانية لضرب العراق والشعب العراقي. لذلك قبلت الكويت بصيغة "الحالة" التي ظهرت العام الماضي للمرة الاولى في قمة المؤتمر الاسلامي في الدوحة، ولم تحتج عليها على رغم التساؤلات والانتقادات التي ظهرت في الكويت، ثم في قمة عمان. قبلت الكويت ولو على مضض مصطلحاً آخر هو "الصيغة التوافقية" بين الكويتوالعراق، وأقرت مع 16 دولة عربية اخرى هذه الصيغة ومن اهم بنودها موافقة الكويت المبدئية على رفع العقوبات - والكويت التي كانت ولا تزال تطالب بأن يطبّق العراق كل القرارات الصادرة عن مجلس الامن في ما يتعلق بعدوانه على الكويت - كما ان الكويت لم تعد تعارض تسيير الرحلات المدنية من العراق واليه، وأقرّت للمرة الاولى بادعاءات العراق وجود مفقودين عراقيين ليساوي بينهم وبين الاسرى والمفقودين الكويتيين وهؤلاء المفقودون يتذكرهم العراق بعد مرور 9 سنوات على نهاية الحرب ليستخدمهم ورقة للمساومة. نجحت الديبلوماسية الكويتية الى حدّ ما بخاصة في ما يتعلق بتعرية الموقف العراقي وكشف زيفه، وزيف المطبّلين وجوقة البصّامين معه، بأن الكويت ودولاً عربية اخرى تهتم بمصير ومصلحة الشعب العراقي اكثر من النظام نفسه النظام الذي يصرّ على رفع العقوبات عن العراق وليس الشعب عن العراق كنظام وليس عن الشعب الذي يحتل ذيل لائحة اهتمام النظام. باتت احدى المسلمات في الشأن العراقي منذ قيام نظام العقوبات بأن النظام نفسه لا يريد رفعها، لأنه يقتات ويعتاش عليها، فمن جهة تضمن له سيطرة داخلية على شعبه المسحوق، حيث يسومهم النظام اصناف العذاب في نظام شمولي ديكتاتوري ذاق العراقيون بسببه الأمرّين خلال العقود الثلاثة الماضية سواءً داخلياً او في مغامرات خارجية، ناهيك عن التطهير العرقي للاكراد وسكان الأهوار وفرار اكثر من ثلاثة ملايين عراقي من الكفاءات وهجرة الادمغة بلا عودة. ثم هناك نظام الاعاشة وتحويل العقوبات الى مصيدة للشعب الذي ينزف ويسحق ليرى طبقته الوسطى وقد تلاشت، وليصبح أقصى همّ المواطن هو تأمين لقمة العيش لعائلته. ثم هناك "البروباغندا" العراقية الاعلام العراقي والمأجور والصحف الصفراء واعلام النظام الذي يقتات على معاناة العراقيين، حيث تسوّق تلك المعاناة لكسب التعاطف الدولي وقبله العربي والاسلامي بخاصة وان المعتدي هي اميركا المنبوذة والمكروهة عربياً واسلامياً لازدواجية مواقفها، وهنا لا ضير من اضافة الدول التي تؤازر واشنطن وتساعدها على الاعتداء، ثم يضرب صدام حسين ضربته القاضية بالحديث عن فلسطين وحشد الجيوش والمتطوعين والبليون يورو ليُسدل الستار على المشهد العراقي البطولي. في مقابل ذلك تصوّر الكويت على انها متواطئة ضعيفة مع انها هي الضحية وهي التي احتمت النظام العربي على مدى ثلاثة عقود، منذ تهديدات عبدالكريم قاسم وحتى غزو صدام الهمجي وضمها وتحويلها لتصبح المحافظة 19. ما طالبت به الكويت ضمن الورقة التي اصبحت خليجية ثم بعدما وقعت عليها 16 دولة عربية اصبحت ورقة عربية هو ما تؤكده مواثيق الجامعة العربية، والاممالمتحدة والقانون الدولي لا اكثر ولا اقل، ما هو المحرّم والغير مقبول عراقياً عندما تطلب الكويت "التأكيد على احترام استقلال وسيادة الكويت وضمان امنها ووحدة اراضيها داخل حدودها المعترف بها دولياً، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وتأكيد التزام العراق بذلك ودعوته الى اتخاذ السياسات الكفيلة باحترام هذا الالتزام"؟ ثم لا يتعنت العراق ويرفض هذا بعدما وافقت عليه، بل يذهب في استهجان واضح ليطالب باضافة فقرة الى الورقة الكويتية "تطالب الكويت بالالتزام بأمن العراق"!! كذلك اعترض العراق على الفقرة التي تنص على تنفيذ العراق كافة الالتزامات حيث طالب العراق بحذف كلمة "كافة" لتكون الصيغة "تنفيذ الالتزامات" من دون كافة... وفي الوقت الذي اكدت الكويت والسعودية والرئيس المصري ومسؤولون اردنيون والصحافة المصرية والاردنية واللبنانية والخليجية، بأن العراق هو من تعنّت وأفشل التوصل الى صيغة مرضية ولو على حساب الكويت وامننا القومي، يتهم وباسلوب رخيص وزير الخارجية العراقي الصحاف الكويت بأنها من أفشل القمة. ما يهمنا نحن في الكويت ان نعيش بأمن وأمان واستقرار، لقد شبعنا من الكوابيس والتهديدات العراقية. وما نراه نحن من داخل الكويت بأن العرب مهتمون اكثر بتعويم النظام العراقي وتأهيله من دون أدنى التفاتة الى الواقعية والى الحقائق الماثلة امام الجميع من ان النظام الحاكم في العراق هو الذي دمّر التضامن العربي، ودقّ اسفيناً في نعشه ومشى في جنازته، وهو - اي النظام الحاكم - خرق نظام الامن العربي واجبرنا على الاحتماء بالاجنبي بعدما كانت الكويت تقود سرب الصقور بالنسبة للوجود العسكري الاجنبي في الخليج طوال فترة السبعينات والثمانينات. والعراق وكذلك ايران يساهمان بإضعاف الصف والوحدة الخليجية، عبر الفرز والاصطفاف الخليجي ونظرة كل دولة خليجية لمصدر الخطر وموازنة العراقبايران على حساب الامن القومي للدول الاخرى. ليس بهذه الحالة يؤسس العرب لنظام عادل في ما بيننا، ليس بالمساواة بين الضحية والجلاد واختزال معاناة الكويتيين الى "حالة" ودفن رؤوسنا في الرمال نقيم صرح التضامن العربي المحطم. وان كانت الحكومة الكويتية نجحت في تعرية العراق كنظام فإنها مطالبة بايضاح نهاية المسار، الى اين؟ هل هناك تطبيع وصلح؟ وهل ما تفعله هو خدمة للتضامن العربي ام للامن القومي الكويتي ومن يأتي اولاً؟ وماذا عن السقف الاميركي الذي يقف امام كل هذه المناورات؟ اميركا لا تزال تقيّم وتصيغ سياستها الجديدة لادارة جديدة تجاه العراق والمنطقة ككل عبر عقوبات ذكية واستراتيجية جديدة. وفيما العراق يتعنت ويركب رأسه ويرفض مقترحات لمصلحة الشعب العراقي بالدرجة الاولى، نرى الكويت الضحية هي من يبادر الى المرونة وكظم الغيظ والتراجع وتخفيض سقفها... بدلاً من التشدد والتمسك بمواقفها وخطها وثوابتها المعروفة. انها كما اسميها وأراها قمة نصف الانتصار للكويت ونصف الهزيمة للعراق. الكويت حققت اختراقات ورضيت بشروط لم تكن لترضى بها قبل عام خدمة للتضامن العربي، والعراق الذي احرز نصف هزيمة، سيبيّض صورته عبر العزف على وتر فلسطين والانتفاضة ومعاناة الشعب العراقي والحصار الذي يكرسه ويطيل أمده. والعرب بمجملهم اشبه بمن يحضر الجنازة ويواسي اسرة الفقيد لينصرفوا بعد ذلك. والغرب واميركا تحركهم المصالح و"الستاتيكو" وابقاء الامور على ما هي وادارة الازمات من دون حلها لتكريس الوجود والهيمنة. ونحن في الكويت نرى التراجع من عدوان واحتلال واحتواء مزدوج الى "حالة" وضعية توفيقية و"عقوبات ذكية". بقيت كلمة اخيرة للقادة العرب، ان لا تكون الكويت هي الشمّاعة التي تُعلّق عليها اخطاء ومصائب العرب، وان لا تكون الكويت القربان الذي يقدم باسم التضامن والوحدة واللحمة العربية، وان يستشعر الجميع الفارق بين الضحية الكويت بعد عقد من العدوان والجلاد العراق الذي لا يريد ان يرعوي ويتعلم من الدروس والعِبَر في مشهد تراجيدي مؤلم تتكرر فصوله المملة المؤلمة في كل قمة عربية دورية او غير دورية. * استاذ مشارك في قسم العلوم السياسية، جامعة الكويت.