قصة لبنان مع هجرة أبنائه قديمة. وقصته مع قاصديه، فاتحين أو لائذين أو تجاراً أو عمالاً، قد تكون أقدم. فهو، في الموضوع الأول، يشبه ايرلندا اذ يفوق عدد المهاجرين من مواطنيه أضعاف اضعاف عدد ساكنيه منهم: أكثر من ثلاثة ملايين مقيم، في مقابل ما بين 12 و20 ميلوناً منتشرين في جهات الأرض الأربع ثلاثة ملايين في مقابل أكثر من 30 مليوناً لإيرلندا. وهو في الموضوع الثاني، ومنذ القدم، يستقطب أناساً من مختلف أنحاء العالم، خصوصاً من أبناء الدول المجاورة له، على صغر مساحته، إما للاحتماء به فينخرطون في مجتمعه، وإما للعمل الدائم أو الموسمي، وكُثر منهم اصبحوا يحملون جنسيته. وإذا كانت هجرة اللبنانيين، في التاريخ القديم، تحمل طابع المغامرة، في الدرجة الأولى، لأن مدنه - الممالك كانت "تغزو" العالم القديم بهدف التجارة واستكشاف اسواق لها، ويقال حتى إنهم بلغوا القارة الأميركية، فإن الهجرة الحديثة التي ترقى الى 1857، مع "المهاجر الأول" طانيوس بشعلاني الى الولاياتالمتحدة املتها عوامل عدة، قد يختصرها "طلب الرزق" بعدما سدت السبل في وجه أبناء هذه الرقعة الصغيرة. وثمة مفارقة رافقت الهجرة اللبنانية الحديثة وعمرها نحو 150 سنة، هي ان فراغ لبنان من قسم كبير من ابنائه، شيئاً فشيئاً، كانت تقابله موجات تهجير اليه... فجبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومن ثم لبنان الكبير، على امتداد ما تبقى من القرن الماضي، كان يشهد نزف أبنائه بمئات الألوف، بفعل الأحداث التي شهدتها أرضه في ظل السلطنة العثمانية، من مثل حوادث القائمقاميتين عام 1840 وما بعده، وحوادث المتصرفية عام 1861، وقد بلغ مجموع المهاجرين من جبل لبنان وحده 100 ألف، أي ربع السكان، في حينه، حتى 1914. ثم كانت الحرب العالمية الأولى، بكل مآسيها العسكرية والاجتماعية، فهاجر عشرات ألوف آخرون. أما مقاصد هؤلاء فكانت الولاياتالمتحدةوكندا واستراليا ونيوزيلندا والبرازيلوالأرجنتين ومصر وبعض دول أوروبا وأفريقيا. وأما الأسباب فكان أبرزها العامل الاقتصادي، من بيئة جبلية فقيرة وإن بدا "فلاحها المكفيّ سلطاناً مكفياً"، الى ارتفاع عدد السكان، الى الفتن الداخلية والمجاعة، فالظروف السياسية، اضافة الى ما تناقلته الأنباء عن غنى الدول المقصودة بالخيرات والثروات. لكن اتجاه الهجرة تغير مع بداية الخمسينات، خصوصاً الى أفريقيا حيث مناجم الذهب، ومن ثم الى الدول العربية الخليجية مع اكتشاف النفط. وقد سُجل طلب على المهنيين واصحاب الكفاية للعمل في مشاريع اقتصاية وتنموية. في هذه الأثناء، كان يلجأ الى لبنان عشرات الألوف من الدول المجاورة، خصوصاً الأرمن الذين اضطر نحو مئة ألف منهم الى اللجوء اليه بعد المجازر العثمانية في حقهم، عام 1915 وما بعد، ومن ثم الفلسطينيون اثر "نكبة" 1948، من دون ان ينقطع سيل العمال الموسميين، لا سيما منهم السوريين، للعمل في ورش البناء أو في الحقول الزراعية تحديداً. وفي الستينات، استمرت الهجرة مع طلب اللبنانيين رخاءً اقتصادياً أكبر، في حين كان لبنان المستقل والسيد، يومها، يُحسد على ازدهاره. وأفاد اللبنانيون عام 1965، من قانون الهجرة والجنسية الأميركي الذي الغى نظام حصص لمصلحة تصنيف على أساس الأفضلية، كالحاجة الى مهنيين وعناصر مدربين، فكان ما صار يعرف ب"هجرة الأدمغة". ... الى ان كانت الحرب في لبنان وعلى لبنان عام 1975، التي بدأت معها موجة هجرة كثيفة، ما زالت فصولها مستمرة الى اليوم. أي أكثر من ربع قرن من النزف البشري المتواصل الذي لم يوقفه اتفاق وقف الحرب، المعروف باتفاق الطائف. لكن الأرقام التي تتناول اعداد المهاجرين تشبه ارقام الاقتصاد المتداولة في السنوات العشر الأخيرة والتي قال في شأنها خبير اقتصادي إن "الرقم في لبنان لا يكون رقماً بل هو رأي"! ففي احصاءات وزارة الخارجية عن الذين تركوا لبنان في سنتي الحرب الأوليين 1975 و1976، ان عددهم بلغ 626 ألفاً، عاد منهم لاحقاً 353 ألفاً، في حين أظهرت احصاءات للوزارة نفسها ولوزارة العمل والشؤون الاجتماعية ان "العدد الاجمالي للذين قذفت بهم احداث الحرب والتهجير الى الخارج حتى 1979 يقدر ب200 ألف"... الى ان اجمعت دراسات وتقارير على ان عدد المهاجرين اللبنانيين بين 1975 و1990، قارب ال900 ألف. والأسباب هي نفسها لم تتغير عما سبق، أبرزها الحروب المتنقلة بين المناطق والتهجير والظرف السياسي والأفق المسدود وضيق ذات اليد و... البحث عن مستقبل افضل. أما وجهة الهجرة فتعددت. لكن كندا واستراليا والولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا استقطبت العدد الأكبر من المهاجرين. أما وقد "سكت المدفع"، نهاية 1990، فخُيّل للحاكمين ان هؤلاء المهاجرين سيرجعون، وكثرت الدعوات اليهم من اجل العودة والاسهام في اعمار الوطن. لكن "السلم الهش" الذي ساد، وما زال، وحروب الجنوب، و"الاحباط" الناتج من تهميش فئة من اللبنانيين لمصلحة خط سياسي اعتبر نفسه منتصراً في الحرب، واستمرار لبنان ساحة أو متنفساً للاحتقان الاقليمي وتدهور الوضع الاقتصادي وبلوغ الدين العام حد ال25 بليون دولار، والعمالة الأجنبية وبطء عودة المهجرين... كلها عوامل أدت الى هجرة عدد من اللبنانيين يفوق عدد الذين تركوا لبنان في سنوات الحرب الخمس عشرة، مع بقاء الرقم "رأياً". فثمة دراسات وتقارير تشير الى هجرة نحو مليون لبناني في السنوات العشر الماضية، في حين افادت دائرة الاحصاء المركزي ان حركة الهجرة بين 1996 و1969 تفاوتت بين 150 و180 ألفاً. وقد يكون عدد المهاجرين أكبر، إذا ما أخذنا بدراسة للسفير السابق رياض طبارة لمؤسسة "مدما" التي يترأسها، تفيد ان "الاحصاءات التي ترتكز على الخارجين والعائدين تدل الى أن 120 ألف لبناني يبقون في الخارج سنوياً، ما يعني ان 2 في المئة من الشبان الذين يغادرون لا يعودون". وأسوأ ما في هجرة السنوات العشر الأخيرة انها تطاول شريحة الشباب المتفاوتة اعمارهم بين 25 سنة و45، وهم في معظمهم من ذوي الاختصاصات الجامعية وأصحاب المهن الحرة والحرفيين الماهرين... ومن جملة ما تقدم عن الهجرة اللبنانية منذ 150 عاماً، لا تعود مستغربةً ارقامٌ تحدث عنها غير مرجع. ففي البرازيل مثلاً، بحسب احصاء المطرانية المارونية، 8.5 مليون لبناني ومتحدر من أصل لبناني، لا بل عشرة ملايين وفق وزير خارجية البرازيل الذي زار لبنان نهاية التسعينات، فضلاً عن نحو مليونين في الأرجنتين، ونحو مليون في الولاياتالمتحدة، ونحو نصف مليون في كل من كندا واستراليا، ودول أميركا اللاتينية الأخرى مجتمعة خصوصاً تشيلي وفنزويلا وكولومبيا. والحبل على الجرار، حتى الآن، إذ أفادت السفارة الكندية في لبنان ان نسبة تقديم طلبات الهجرة ازدادت 25 في المئة عام 1999، عنها في الأعوام السابقة، في حين حصلت "الحياة" على أرقام مفصلة من السفارة السويدية عن منح 177 لبنانياً تأشيرات لدخول السويد تحت عنوان "جمع شمل عائلي"، وهو، تعبير "ديبلوماسي" ل"الهجرة"، في حين لا يزال 168 آخرون ينتظرون دورهم، في مقابل 1044 تأشيرة دخول عادية من أصل 1803 طلبات، رفض 740 منها وألغي 19. وفي الجهة المقابلة للهجرة، استقطب لبنان خلال الحرب أجانب كثراً. فإذا استثنينا الفلسطينيين الذين يعيشون على أرضه، درجت عادة استقدام عمال آسيويين، فيليبينيين وسري لانكيين، خصوصاً خادمات للعمل في البيوت. وإذ تفاوتت اعدادهم سنوياً، بين نهاية السبعينات وأول التسعينات، بين 120 ألفاً و180 ألفاً، تراجع العدد مذّاك، لينحصر في أقل من 100 ألف سنوياً، حتى ان بينهم من جُنِّس أو استثمر في مشاريع تجارية صغيرة. ومن يقصد محلة الدورة ضاحية بيروت يوم الأحد، يحس انه في مدينة آسيوية، يتدفق عليها نحو خمسة آلاف آسيوي لهدفين أساسيين: المتاجرة والالتقاء. ويضاف الى هؤلاء عمال هنود وباكستانيون وافارقة، لكن عددهم ليس كبيراً، خصوصاً بعدما اتخذ الأمن العام اجراءات لتسوية أوضاع الداخلين خلسة الى لبنان أو الذين يعملون من دون اجازات عمل. والى هؤلاء وأولئك، ثمة عمال مصريون كانت تكبر اعدادهم أو تقل بحسب الظروف، لكنهم يعدون بالآلاف، على خلاف العمال السوريين الذين تحول وضعهم مادة سياسية بامتياز. فالمعروف عن حجم العمالة السورية في لبنان، في الستينات والسبعينات، انه كان يتفاوت بين 300 ألفٍ ونصف مليون سنوياً، وانها كانت عمالة موسمية، شتاء في ورش البناء مثلاً، وصيفاً في الزراعة. أما من بداية التسعينات إلى اليوم، فاتخذت هذه العمالة وجوهاً أخرى، إذ تدفق السوريون بالآلاف، يعملون في مجالَيهم المعهودين، وفي كل ما وقع تحت ايديهم، مستفيدين من المناخ السياسي العام الذي سمح لهم بذلك، ومن ارتفاع سعر اليد العاملة اللبنانية وتدني سعر يدهم هم. وفعلاً تعاظمت الشكوى، وبدأت الأرقام تظهر، خالطةً بين "السياح" منهم والعاملين أو الداخلين للزيارة أو للتسوق مثلاً. ولعل أبرز الدراسات التي وضعت في هذا المجال، واحدة لأستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، بسام الهاشم، الذي قال إن في لبنان 646،506،1 سورياً مسجلين، و340 ألفاً غير مسجلين، منهم 67.10 في المئة مقيمون مع عائلاتهم فيه، وانهم يشكلون ستة أضعاف مجموع الأجانب في لبنان و15 ضعفَ عدد العاملين الأجانب، يجنون 2،3 بليون دولار سنوياً من السوق اللبنانية. لكن الأرقام الرسمية تختلف جذرياً عن أرقام الهاشم، وآخرها دراسة اعدها المجلس الأعلى اللبناني - السوري، خلصت الى ان عدد العمال السوريين في لبنان، ظرفيين وموسميين، أقل من 198 ألفاً، عام 2000، معتبرة ان العمالة السورية "موسمية ومرغوب فيها وحجمها يفوق قوة الطلب". والله أعلم!؟