بعد تنفيذ انصار اسامة بن لادن اعتداءات 11 ايلول (سبتمبر) 2001، ازداد انتشار الاحزاب الاصولية المسيحية في الدول الاوروبية، في شكل غير مألوف. وقد انتعشت خلال السنوات العشر الاخيرة، الحركات السياسية الرافضة للمهاجرين المسلمين، خصوصاً بعد اتهامات بريطانيا لرعايا من اصول باكستانية، بأنهم نفذوا عملية التفجيرات في 7 – 7 – 2005. سنة 2008 نشطت في جمهورية تشيكيا جماعات «حزب العمال» اليميني، وراحت تهاجم مستوطنات الغجر شمال براغ. وجندت الدولة في حينه اكثر من ألف شرطي من اجل وقف الصدامات المسلحة التي حصدت عشرات الضحايا. وفي سنة 2009 بلغ تيار مناهضة المهاجرين ذروته في اوروبا، بحيث ازداد عدد اعضاء الاحزاب اليمينية في بريطانيا وفنلندا والمجر واليونان وإيطاليا ولاتفيا ورومانيا وسلوفاكيا. وجاءت حصيلة الانتخابات في هذه البلدان لتثبت ان الازمات الاقتصادية الخانقة كانت الدافع الاساسي لنمو مشاعر الكراهية ضد المهاجرين. وفي المملكة المتحدة التي اعتادت على استقبال رعايا مستعمراتها، ظهرت حركة جديدة باسم «الحزب الوطني البريطاني» بزعامة نك غريفين. ومع انه ادعى في بياناته، بالحرص على حماية اهل البلاد الاصليين، الا ان نزعته العدائية للمسلمين والسود، اكسبته صفة الفاشي الجديد. وذكرت الصحف ان شعارات «الحزب الوطني البريطاني»، لا تختلف كثيراً عن شعارات اوزولد موزلي، الشاب الارستقراطي الذي تأثر بحركة بينيتو موسوليني سنة 1922. وقد تخلى عن منصب الوزراة سنة 1930 بسبب الانهيار الاقتصادي الذي شهدته اوروبا. وادعى انه وجد الحل بعد زيارة موسوليني سنة 1932، وعاد من ايطاليا ليعلن تأسيس «حزب اتحاد الفاشيين». وحرص موزلي على تحدي معارضيه بقيادة تظاهرات ضخمة وسط شوارع لندن. وفي زيارة اخرى لألمانيا النازية التقى الشاب المتحمس ادولف هتلر، الذي اعجب بزوجته الجملية. وعندما دخلت بريطانيا الحرب ضد النازيين والفاشيين، امر تشرشل بحل «حزب القمصان الرمادية»، ووضع موزلي تحت الاقامة الجبرية. وهكذا اختفت من المملكة المتحدة تلك الظاهرة السياسية، لتعود وتتجدد سنة 1995 بإطلالة نك غريفين على رأس «الحزب الوطني البريطاني». وعلى غرار هذا الحزب المتطرف، ظهر في فرنسا جان – ماري لوبان، ليؤسس حركة عنصرية يخوض باسمها انتخابات الرئاسة سنة 2002. واليوم تقود هذه الحركة كريمته مارين (40 سنة) داعية الى بناء حكم مقتدر يمنع الغرباء من فرض ثقافتهم وسلوكياتهم على المجتمع الفرنسي. بيد ان حركات العداء للمهاجرين لم تبلغ درجة العنف الدموي التي مارسها اندرس برييفيك النروجي ضد أبناء بلده. ذلك ان العمل الإجرامي الذي نفذه فوق جزيرة «اوتويا»، صنفه في طليعة السفاحين الماذوشيين الساديين الذين يتلذذون بانزال العذاب بالآخرين او بأنفسهم. السفاح النروجي برييفيك لم ينكر انه قتل تسعين شخصاً، وأن تنفيذ حكمه كان يستغرق دقيقة واحدة فقط، ما بين اطلاق الرصاصة الاولى وإطلاق «رصاصة الرحمة» مرة ثانية. ومع انه اعترف بعمله، الا ان القضاء في النروج لا يوجه قرار الاتهام قبل نهاية التحقيق. المدعي العام يعتزم الاستناد الى مادة جديدة في قانون العقوبات تنص على ملاحقة اندرس بارتكاب «جرائم ضد الانسانية». وقد ادرجت هذه المادة التي تنص على عقوبة السجن 30 سنة كحد اقصى، سنة 2008. وهي تحمل الرقم 102 من القانون. وتطرقت الشرطة الى المادة 147 التي تعاقب على اعمال الارهاب، وتصل عقوبتها الى السجن 21 سنة كحد اقصى. كما سيحاكم المتهم على «زعزعة الوظائف الاساسية للمجتمع بصورة خطيرة». وهذا يشير الى عملية تفجير قنبلة قوية في وسط اوسلو قرب المباني الرسمية. اعترف اندرس بيرنيغ برييفيك في بيانه الرسمي (مانيفستو) بأنه خطط لهذه العملية منذ خريف 2009. وادعى في الوثيقة التي نشرها على الانترنت (1500 صفحة) ان تزايد النفوذ الاسلامي في بلاده، اضافة الى اتساع سلطة الماركسية الثقافية، شجّعاه على ركوب هذا المركب الخشن. وقال في بيانه ان قائد فرسان العدالة اندرو بيرويك استخدم الارهاب وسيلة لإيقاظ الجماهير. ومع ان المجتمع سيعامله كأكبر وحش منذ الحرب العالمية الثانية، الا انه يتوقع حكماً مخففاً لأنه يخوض حرباً معلنة... ولأن الجندي لا يحاكم على اعماله خلال الحرب! في هذه الحال، يختلف محللو علم النفس على تفسير النوازع العميقة التي دفعت هذا الشاب النروجي الى قتل ابرياء بهدف نشر افكاره الخطرة. بعضهم يقول ان اندرس هو نتاج طبيعي للمناخ السياسي السائد في اوروبا باعتباره رد فعل على اعمال «القاعدة»، وما قدمه اسامة بن لادن من تفسير لتبرير قتل ثلاثة آلاف شخص بريء. وقد اختصر بن لادن مجزرة نيويورك بعبارة قصيرة مفادها: ان زعزعة استقرار الغرب لم يكلف سوى خمسة عشر رجلاً. وعليه يرى السفاح الشاب، ان مقتل تسعين شخصاً يعتبر امراً بسيطاً اذا ما قيس بنتائج ايقاظ الغرب ولجم تمدد الاسلام الاصولي في اوروبا. البعض الآخر من المحللين يرى في عملية ايقاظ المجتمع من طريق سفك دماء الابرياء، مرضاً نفسياً يمثل اقصى درجات الانحراف. والثابت من مراجعة تكوين طبيعته الشخصية، انه يعاني من فقدان السيطرة على نزعاته التدميرية. صحيح ان الانسان يتميز عن الحيوان، بقدرته على الاختيار بين لجم نزعاته الشريرة او الامتثال الى دوافع الخير... ولكن المجرمين ينتشون بارتكاب الفظاعات. وكيل اندرس المحامي ليبستاد، طلب عرض المتهم على لجنة اطباء لاعتقاده بأن موكله يعترف باقتراف المجزرة، ولكنه لا يعترف بأنه كان على خطأ. كما يرى ان التخلص من سياسة «حزب العمل» الحاكم، يمكن ان تقود الى مزيد من التشدد بالنسبة الى موجات الهجرة التي تصدى لها المحافظون. والثابت ان الاحزاب الاوروبية المحافظة هي اشرس مناهضي الهجرة من البلدان الاسلامية. ولكنها في الوقت ذاته، تؤجج التطرف الديني، عندما تستثني هجرة الاقليات المسيحية من بولندا ورومانيا ولاتفيا وأوكرانيا وجورجيا. ومع ان بعض الدول الاوروبية كانت متسامحة مع المهاجرين مثل الدنمارك وهولندا، الا انها انقلبت بعد اعتداءات «القاعدة»، الى قوى يمينية متطرفة مثل «الجبهة الوطنية» في فرنسا و «الحزب الوطني البريطاني» الفاشي الجديد. وهكذا ازدهرت من جديد سياسة معاداة الاجانب. عندما استقبل محافظ لندن السابق ليفيغستون الشيخ يوسف القرضاوي، اتهمته الصحف اليمينية بالاساءة الى الديموقراطية. ورد على هذا الاتهام بالقول ان الديموقراطية ملزمة باحترام التعددية الثقافية، بما فيها كل المهاجرين المسلمين وحرية اعتقادهم. وقال ان الاختلافات الثقافية تغني البلد المضيف، وأن التضييق على الجماعات الدينية ومنعها من ممارسة شعائرها هو انتهاك لحقوق مواطني البلدان الديموقراطية. ملك النروج هارالد الخامس استغرب ان يفرز المجتمع الهادئ المسالم، سفاحاً مثل اندرس برييفيك، خصوصاً ان البلاد التي توارث حكمها منذ اعلنت ملكية دستورية سنة 1814، هي الاكثر تقدماً بين الدول الاسكندنافية. وتتألف النروج من 160 ألف جزيرة صغيرة وكبيرة، يعيش فوقها اربعة ملايين نسمة ونصف المليون. وهي غنية بالمعادن كالالومنيوم وخلافه، اضافة الى انتاج الغاز المكتشف سنة 1975. في بداية الحرب العالمية الثانية اعلنت النروج عن حيادها التام بين المتنازعين، ولكن هتلر امر بغزوها من دون النظر الى التقيد بشروط السلام. لذلك لجأ ملكها الى لندن التي وفرت له الحماية والعناية طوال ست سنوات. مع احالة قضية سفاح اوسلو الى محكمة الجنايات، يتوقع زعماء الدول الاوروبية، ان تكون هجرة الهاربين من «الربيع العربي» اكثر بكثير من هجرة ابناء دول اوروبا الشرقية عقب انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي. وتقدر الارقام التي ظهرت في مؤتمرات بروكسل وجنيف، ان الدول العربية المتاخمة لأوروبا، مهيأة لنزوح عشرة ملايين شخص ما بين سنة 2011 و 2013. السبب ان الحلول المتوقعة لتونس وليبيا والجزائر والمغرب والسودان، لن تكون مرضية او مقنعة للمتمردين والمطالبين بالتغيير. وعليه تجزم الاممالمتحدة بأن هذه الدول معرضة لأزمات اقتصادية خانقة تدفع شبابها الى الهجرة القسرية. كما تدفع شباب اليمن وسورية ومصر ولبنان للانتقال الى بلدان آمنة يتوافر فيها العمل وسرعة الاندماج داخل المجتمعات الغربية. وبما ان موجات المهاجرين العرب قد تعكر صفاء الاستقرار الاوروبي، فإن الدول المضيفة مرشحة لأن تفرز ألوف النماذج على طراز اندرس برييفيك. وقد ظهرت الشهر الماضي دراسات معمقة حول عمليات التطهير العرقي في العراق وفلسطين ولبنان ومصر وسورية في حال طالت معارك التغيير الداخلي وانقلبت الى حروب اهلية مدمرة. بقي ان نذكر ان الحزب التقدمي الاشتراكي كان ممثلاً في ندوات جزيرة «يوتويا» حيث اصطاد اندرس ضحاياه، وأن مبعوث وليد جنبلاط باسم العود نجا بنفسه عملاً بسياسة التوازن التي احترفها «ابن عمود السما» بعد احداث 7 ايار (مايو). وينتقد خصوم جنبلاط التزامه التركة الثقيلة التي اورثه اياها المرحوم والده، والتي حافظ عليها على رغم تفكك المنظومات الاشتراكية في العالم، واستغلالها من البعض لإحياء صيغة دفنت مع كارل ماركس ورفاقه. والكل يذكر كيف جاء شمعون بيريز الى المختارة ليسأل عن أحوال الرفيق وليد بك عقب اجتياح الجبل بواسطة دبابات شارون... وكيف هرب جنبلاط من الباب الخلفي لأن ما تجمعه الاشتراكية الدولية تفرقه الاشتراكية الوطنية! * كاتب وصحافي لبناني