تخيم نُذر خطيرة على الشرق الاوسط بعد انتهاء زيارة آرييل شارون الى الولاياتالمتحدة. ولا بد ان تشابهاً لافتاً مع الفترة التي سبقت الغزو الاسرائيلي للبنان في 1982 تبادر الى ذهن كل من يتذكر ما حدث آنذاك. فقد جاء مجرم الحرب ذاته، شارون الذي ينبغي ان يشاطر قريباً ميلوشيفيتش مصيره في لاهاي، كي يجتمع مع الكسندر هيغ وزير الخارجية آنذاك وعاد بعدها بضوء اخضر اميركي حسب ما ابلغ الجميع. بعد ذلك، غزت جيوشه لبنان. وها هو يفعل الشيء نفسه هذه المرة مع كولن باول المفتقر الى التجربة وجورج بوش المتواضع الفكر. فكلا هذين الرجلين تبنى كلياً، في غضون اقل من شهر، الكذبة الاسرائيلية بأن المشكلة الرئيسية هي "العنف"، التي يُفترض بالاستناد اليها التوصل تلقائياً الى ان العنف هو ما يمارسه الفلسطينيون في مقابل ضبط الاعصاب من جانب اسرائيل. هكذا، فإن كل ما يحتاج شارون الى القيام به هو ان يغزو مناطق تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية ويدعي بعدها ان ذلك يجري بضبط اعصاب وبموافقة اميركية لحماية أمن اسرائيل. الارجح ان زيارة كولن باول الى فلسطين وتلميحه الى ان مراقبين دوليين قد يتولون مراقبة الهدنة سيعقّد الأمور قليلاً، لكن ذهنية شارون لا تتجاوز الغزو والدمار بمقدار ما يتعلق الأمر بالفلسطينيين. وقد اصبح واضحاً الآن، بمقدار ما يتعلق الأمر بالجمهور غير المطلع في الغرب، انه لا يمكن لمسؤول اسرائيلي ان ينطق بشيء الاّ ويكون كذبة سافرة. وأكدت هذه الحقيقة المحزنة مناظرة تلفزيونية رئيسية دارت الاسبوع الماضي في الولاياتالمتحدة بين الوزير نبيل شعث ورئيس الكنيست افراهام بورغ، كما اكدت مرة اخرى ان السلطة الفلسطينية والناطقين باسمها عاجزون حسب ما يبدو عن ادراك ما يجري. جلس بورغ هناك واختلق بوقاحة الكذبة تلو الاخرى: انه كديموقراطي ومحب للسلام يشعر بالقلق لعدم وجود معسكر سلام حقيقي، وان اسرائيل تحاول بأقصى ما يمكن ان تحافظ على هدوئها بينما يهدد ارهابيون فلسطينيون بتشجيع من السلطة الفلسطينية ابنته بالقتل بصورة وحشية، وان اسرائيل كانت دائماً تنشد السلام، وان عرفات يتحكم بكل شيء، وان شعث وبورغ بالذات هما في الوضع نفسه تماماً سوى ان بورغ يستطيع ان يؤثر في شارون لجهة ضبط الاعصاب بينما يعجز شعث عن التأثير في عرفات، وهلم جراً. كل ذلك للتأكيد، على نمط الدعاية الكلاسيكية ان تكرّر الكذبة مرات حتى تُصدّق، بأن اسرائيل ضحية ما يقترفه بحقها الفلسطينيون، وانها تريد السلام، وانها تنتظر ان يرتقي الفلسطينيون الى شهامتها وما تبديه من ضبط اعصاب. في مواجهة خليط الحلوىات هذا بدا ان شعث لا يملك جواباً، سوى ان يقول بشكل بائس ان الفلسطينيين ايضاً يريدون السلام، وانهم يريدون خطة ميتشل، كما لو ان هذه القطعة التافهة من الهراء من صنع لجنة الشؤون العامة الاميركية الاسرائيلية "إيباك" تحولت الى نص من الكتاب المقدس. هل نسي قادة فلسطينيون مثل عبد ربه وشعث وعريقات والآخرون ان اعضاء مجلس الشيوخ الاميركي، من امثال ميتشل ووارن رودمان، الذين شكلوا تقريباً نصف اللجنة التي اعدت هذا التقرير الغبي، كانوا بين الاعضاء الذين يتقاضون أعلى اجور في اللوبي الاسرائيلي؟ واضح انهم نسوا فعلاً، وانهم يحاولون ان يتحلوا بضبط الاعصاب، وانهم يحنون الى عودة اوسلو، وهلم جراً. قلما شاهدت كذباً اسرائيلياً بمثل هذه الكثافة يُستقبل بمثل هذا الخنوع الذليل من جانب فلسطينيين، ويجري هذا كله في وقت يعاني ملايين الفلسطينيين اسوأ عقاب جماعي ممكن. عندما تتاح لاشخاص مثل شعث فرصة ثمينة للتعامل مع مجرم مثل بورغ، ينبغي ألاّ ينسى ولو لحظة ان اسرائيل منغمسة في ارتكاب جرائم حرب رهيبة، وان اناساً يعدون بالملايين لا يتمكنون من السفر وتأمين الغذاء والحصول على الرعاية الصحية، وان 500 شخص قتلوا، وان 2000 منزل هُدمت، وان 50 ألف شجرة اُقتلعت، وان آلاف الاكرات من الارض صودرت، وان بناء المستوطنات يتواصل، وان هذا كله يجري اثناء "عملية سلام". وحتى ناطقاً ممتازاً وموثوقاً في العادة مثل غسان الخطيب اُصيب بفيروس التكلم عن العنف وتقرير ميتشل واخفق كلياً في الاشارة الى الاحتلال، الاحتلال، الاحتلال. ألا يمكن لناطقينا المهيبين ان يركزوا على الواقع اليومي لشعبنا ومعاناته، وألا يمكن ان يتكلموا ولو مرة واحدة كبشر بدل ان يكونوا مقلدين من الدرجة الثالثة لكيسنجر ورابين اللذين اصبحا كما يبدو النموذج الذي يُحتذى بالنسبة اليهم؟ ما العلة التي تمنعنا اطلاقاً من التحدث بشكل ملموس عن الحقيقة المحورية في وضعنا وهي اننا اُضطهدنا من قبل اسرائيل على كل مستوى، على مدى اكثر من 53 عاماً، وما نزال نُضطهد بانواع الحصار وعمليات الاغلاق والقصف الجوي والهجمات بالصواريخ والمروحيات، وان لاجئينا لم يحصلوا على درهم واحد كتعويض او حتى على أمل بالعودة الى وطنهم من الدولة التي شرّدتهم وما فتئت تعاقبهم مذذاك. ما يحيّرني هو انه حتى بعد ثماني سنوات من الخداع والتضليل، يجد العقل الفلسطيني الرسمي نفسه عاجزاً عن الافصاح عن الكارثة التي قادت اليها اوسلو ويريد بدلاً من ذلك إعادتها. وهو ما يشبه ان يناشد المرء الجلاد ان يشحذ فأسه قليلاً قبل ان يعاود الكرّة. هكذا طبعاً، لا بد للمرء ان يبقى في أي لعبة سياسية تجري، وطبعاً، يجب ان يكون المرء قادراً على ان يرد مباشرةً على اسئلة بشأن اتفاقات وهدنات وهلم جراً. لكن ما اجده مثيراً للاستياء اكثر من أي شيء آخر هو ان ناطقينا يظهرون ما يدل الى بعدهم الكلي عن فظاعات الحياة اليومية بالنسبة الى الفلسطينيين العاديين الى حد انها لا ترد على لسانهم اطلاقاً. لهؤلاء اريد ان اقول انه اياً كانت المناسبة، واياً كان السؤال، واياً كان مراسل الصحيفة او التلفزيون او الاذاعة، يجب الرد اولاً على كل سؤال ببضع نقاط اساسية عن الاحتلال العسكري القائم منذ 34 عاماً منذ 1967. فهذا هو مصدر العنف، هذا هو مصدر المشاكل الاساسية، وهو السبب الذي يحول دون حصول اسرائيل على سلام حقيقي. يجب ان يستند موقفنا السياسي كله الى انهاء الاحتلال، ويجب ان يتقدم هذا على أي اعتبار آخر. وعندما يُسأل عريقات او شعث او عشراوي او الخطيب عن شيء ما، مثلاً عن تقرير ميتشل او زيارة باول، ينبغي ان يبدأ الجواب دائماً: "طالما هناك احتلال عسكري لفلسطين من جانب اسرائيل، لا يمكن ان يكون هناك سلام ابداً. ان الاحتلال بالدبابات والجنود وحواجز التفتيش والمستوطنات هو العنف، وهو اكبر بكثير من أي شيء فعله الفلسطينيون بغية المقاومة". شيء من هذا القبيل. يتعيّن على هؤلاء الاشخاص الجديرين بالاحترام ان يتذكروا ان 99 في المئة من الناس الذين يقرأون الصحف او يشاهدون نشرات الاخبار التلفزيونية في ارجاء العالم بما فيهم العرب نسوا ببساطة - هذا اذا كانوا ادركوا اطلاقاً - ان اسرائيل قوة محتلة غير شرعية وهي كذلك منذ 34 عاماً. لذا يجب ان نذكّر العالم بذلك مراراً وتكراراً. نكرر ونكرر ونكرر. وهي ليست مهمة صعبة، رغم انها باعتقادي حاسمة على نحو قاطع. ان تذكير الجميع تكراراً بشأن الاحتلال الاسرائيلي هو تكرار ضروري، وضروري لدرجة اكبر بكثير من التعليقات غير المنطقية والعاطفية بغباء على النمط الاسرائيلي والاميركي بشأن السلام والعنف. هل يمكن ان نتعلم ام انه حُكم علينا ان نكرر اخطاءنا دائماً؟ * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.