شكل انعقاد المؤتمر القطري الثاني عشر لحزب البعث الحاكم في العراق، أوائل ايار مايو الماضي في دورته الاستثنائية و"فوز" قصي، النجل الأصغر لصدام حسين، بعضوية القيادة القطرية بنسبة 99.33 في المئة، بما يمهد الطريق امامه، وفق أعراف النظام، لخلافة والده، حدثاً لافتاً لأوضاع النظام والصراع المحتدم بين أجنحة السلطة والعائلة الحاكمة منذ شهور، خصوصاً بين الاخوين اللدودين عدي وقصي، فضلاً عن اشارته الى ان صدام قطع شوطاً مهماً في سيناريو تنصيب أو توريث، نجله الأصغر لرئاسة الحكم في العراق على حساب ابنه الأكبر عدي، كما على حساب اخوته غير الاشقاء، وكذلك بقية المتربصين للقفز الى الموقع الأول في السلطة، من أركان النظام. جاءت الخطوة الأخيرة في "ترفيع" قصي الى هذا الموقع القيادي في الحزب الحاكم، التي تلاها بعد يومين، صدور قرار بتعيينه نائباً لرئيس المكتب العسكري، وهو من أهم المكاتب الرئيسة في القيادة القطرية، ليتوج مسار سيناريو غير معلن في احتلاله موقع الرجل الثاني في الحكم بعد والده، اذ بعد إمساكه، منذ سنوات، بالأجهزة الأمنية وإشرافه على قوات الحرس الجمهوري الخاص، وتوجيهها، لم يبق أمامه سوى بعض الاجراءات والقرارات لاحكام سيطرته على المؤسسة العسكرية والاجهزة الأمنية، واحتلال موقع قيادي فاعل في الحزب و"مجلس قيادة الثورة"، وهو السلطة التشريعية، رسمياً، في العراق، تبعاً لأعراف النظام. هذه الخطوات التي أقدم عليها صدام لتمهيد الطريق أمام نجله الأصغر ليكون نائباً له، أو خليفة، في رئاسة الحكم تشير الى ان هذا السيناريو أوشك على الاكتمال، وان الحسم في توريث قصي قد يعني "تنصيبه" أو توليته رئاسة النظام في حياة والده. فقد جاء في تقرير نشرته "الحياة" في صدر صفحتها الأولى بتاريخ 13 تموز يوليو الجاري، ان ديبلوماسياً أوروبياً على صلة بالملف العراقي كشف ان صدام حسين يدرس التنازل عن الرئاسة لنجله الأصغر قصي في ايلول سبتمبر المقبل، على ان يبقى هو في "منصب فخري" يبقيه قريباً من موقع القرار، كما يُبقي المرتكزات الأساسية للحكم من دون تغيير جذري، ويلبي، في الوقت نفسه، مطلباً أساسياً للولايات المتحدة وعدد من دول الجوار. ويشير هذا التقرير الى ان بغداد، على الأرجح، هي التي "سربت" هذا السيناريو الذي يتضمن "فكرة جديدة" تتعلق بتنحي صدام لمصلحة قصي، أي انعدام الحاجة ليكون نائباً لوالده في حياته، أو انتظار خلافته بعد موته. أما هدف النظام العراقي من هذا "التسريب" فهو، كما يبدو، جس نبض دول الجوار والولايات المتحدة، في محاولة متهافتة لتجاوز مأزق عزلته الدولية التي يعيش تحت وطأتها منذ أحد عشر عاماً، والتي ستمتد حتى اطاحته على الأرجح. يطرح سيناريو توريث قصي وتحويل العراق الى جمهورية وراثية، فضلاً عن الحديث حول مدى جدية تنحي صدام لمصلحة نجله قصي، تساؤلات عدة أهمها: هل يمكن تحقيق هذا السيناريو فعلاً أم ان دونه كم هائل من الحواجز والعقبات؟ وهل ان تحقيقه أو تحقيق بعض فصوله سيؤدي الى تغيير حقيقي في مسار الأوضاع في العراق وملفه الاقليمي والدولي الشائك؟ طرحت مسألة تنحي صدام عن السلطة واستبداله برئيس جديد من صلب النظام بعد توقف الحرب العراقية - الايرانية في 8/8/1988 وتحميل صدام نفسه المسؤولية الأولى عن اشعالها ونتائجها المدمرة. لكن، بعدما طرحت بعض الدوائر الاقليمية والدولية، وهمست قيادات الجيش في الداخل بأهلية وزير الدفاع الفريق خيرالله طلفاح ابن خال صدام لمنصب الرئاسة وخلافة صدام، لقي الرئيس البديل المقترح حتفه في حادث الطائرة المشهور عام 1989، وهو حادث لا تخطئ العين المجردة في رؤيته وتوجيه الاتهام بتدبيره الى صدام نفسه. وعاد الحديث، العلني والهامس، بضرورة تنحي صدام بعد هزيمته المدوية في حرب الخليج الثانية، وقمعه الدموي انتفاضة آذار مارس 1991، وهنا طرح اسم برزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام وضباط كبار لإحلالهم محل صدام في منصب رئاسة النظام. غير ان صدام تمكن، بالقمع والتصفيات الجسدية والسياسية، من إبعاد خصومه و"شبح" استبداله بأي منهم. واذا واصلت بعض الأوساط الاقليمية والدولية، في السنوات التالية، طرح اسم برزان التكريتي مرشحاً بديلاً لصدام، مشيدة ب"أهليته"، غير آبهة بأنه مدرج على "قائمة العشرين" من مسؤولي النظام المطلوب محاكمتهم كمجرمي حرب... طرحت قبل عامين فكرة توريث أحد نجلي صدام، فوقع الاختيار على قصي وتم التمهيد لذلك بسيناريو بدأ بمنحه مسؤوليات وصلاحيات أمنية وعسكرية، ثم حزبية وسياسية أخيراً، ما أكد حسم صدام خياره "توريث" نجله الأصغر وايصاله الى عتبة موقع النائب، أو الرئيس الفعلي للنظام، كما خطط صدام لذلك. ويبدو واضحاً ان صدام ماضي في عملية اتمام تنصيب قصي أو توريثه. وسواء كان هذا السيناريو قراراً حقيقياً اتخذه صدام أو مناورة لجس نبض أطراف عدة داخلية وخارجية، خصوصاً مؤسسة النظام، وسواء كان التعجيل بتنفيذ هذا السيناريو يعود لخشية الرئيس العراقي من موت مفاجئ نتيجة معاناته من أمراض خطيرة، أو انه يريد تقوية نظامه و"تجديده"، فإن السؤال المهم الذي ستبقى مطروحاً هو: هل سيتمكن صدام من فرض نجله الاصغر رئيساً مقبولاً لدى العراقيين؟ وهل يستطيع فرضه على أجنحة العائلة والسلطة الآخرين الطامحين لهذا المنصب؟ وهل يستطيع تسويق ذلك لدى الجهات الاقليمية والدولية؟ اذا كان ثمة من يقبل "توريث" قصي على الصعيدين الاقليمي والدولي، فثمة استحالة في قبول العراقيين هذه المناورة ومبدأ "الجمهورية الوراثية"، خلافاً لتجارب مماثلة في كوريا الشمالية وسورية مثلاً. ففضلاً عن ان قصي، مثل أخيه عدي، مطلوب مع 24 مسؤولاً في النظام الى المحاكمة الدولية، فإنه مسؤول عن ارتكاب أبشع الجرائم بحق العراقيين من خلال اشرافه على الاجهزة الأمنية، فضلاً عن ان سياسة النظام وأركانه طيلة ثلاثة عقود كانت مرفوضة من غالبية العراقيين. أما العقبات الأخطر المباشرة التي ستهدد هذا "التوريث" فهي المتأتية من جبهة واسعة من الخصوم والأعداء داخل السلطة والنظام، ولن يكون عدي الا الأقوى منهم، والذي لن يتوانى عن الرد على تآكل دوره وربما وجوده. وإذا كان لسيناريو التنصيب ان يتم من دون هزات كبيرة، بوجود صدام، فإن التوريث بعد مماته سيفتح الباب على مصراعيه أمام صراع دموي مدمر بين أجنحة السلطة والعائلة، وهذا ما يدعو الى القول انه من غير الممكن تمرير هذا السيناريو الى درجة الاستحالة. فبعدما لحق بالعراق والعراقيين لا يمكن تصور أية حلول للأزمة، بل الكارثة التي يمر بها العراق، إلا بتغيير النظام وإحالة أركانه الى المحاكمات، محلية أو دولية، لا فرق. * كاتب عراقي.