نعى مثقفون وشعراء سعوديون وعرباً، رحيل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، إثر معاناة مع سرطان الكبد، الذي كان يحاربه بالقلم والسيجارة من دون خوف من الموت، حتى آخر لحظاته حين خاطب الموت بقوله: «أنا لا أحبك يا موت.. لكنني لا أخافك.. وأعلم أن سريرك جسمي.. وروحي لحافك.. وأعلم أني تضيق عليّ ضفافك.» أطلق النقاد والشعراء على سميح القاسم (75 عاماً) ألقاباً عدة، منها «هوميروس من الصحراء» و«شاعر العروبة» و«سيد الأبجدية» و«شاعر الصراع والمواقف الدرامية»، إلا أن الفلسطينيين يميلون باستمرار إلى وصفه بأنه شاعر المقاومة، مثل صديقه الراحل محمود درويش. توزّعت أعمال سميح القاسم بين 80 كتاباً في الشعر والنثر والمسرحية والرواية والبحث والترجمة، ومنها «مواكب الشمس» و«أغاني الدروب» و«دمي على كفي» و«دخان البراكين» و«سقوط الأقنعة» وسواها. غنى من قصائده الفنان اللبناني مارسيل خليفة «منتصب القامة أمشي.. مرفوع الهامة أمشي.. في كفي قصفة زيتون.. وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي». واشتهرت هذه الأغنية حتى لم يعد هناك من لم يسمعها، ويشعر بجميع جسده يهتز. اشتهر بمقاومته للتجنيد الذي فرضته إسرائيل على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها، وهو شهير بنثرية شعرية ترددها بصوته قنوات عربية وفلسطينية خلال الحرب على غزة «تقدموا.. تقدموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم، فكل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم». نال جوائز عدة، من إسبانيا وفرنسا، و«جائزة البابطين»، إضافة إلى «وسام القدس للثقافة» و«جائزة نجيب محفوظ» من مصر، و«جائزة السلام» و«جائزة الشعر» الفلسطينية. وهنا شهادات أدلى بها ل«الحياة» شعراء ومثقفون. محمد الحمد: «موت كبير» ابتهج الشعر ولم يحزن حين قال: «يا أيها الموتى بلا موت تعبت من الحياة بلا حياة...». ولكنه حتماً سيشاطرنا الحزن عليه عندما «خرج من صورته ذات يوم» من دون أن «يستأذن أحداً» لينضم إلى الراحلين الذين كتب عنهم كتابه «الراحلون». ينضم إليهم في وقت يسجل فيه أبطال المقاومة الفلسطينية أروع الملاحم، وكأنهم يقولون له: نم هانئاً فسنترجم نضالك الشعري بدمنا، ونتلو على روحك «قرآن الموت والياسمين»، وستتغنى جداول النضال الفلسطيني بصوته العروبي الغاضب، فبموته لم يمت شاعر أو روائي أو مسرحي أو باحث أو مترجم، بل كلها مجتمعة، فيا له من «موت كبير». سيستنبت الإبداع على قبره وردة من ورود الخلود، وردة ليست من نوع قوله: «لا ورد ينبتُ فوق القبور». حليمة مظفر: «تجربة شعرية غزيرة» رحم الله الشاعر الكبير سميح القاسم، فبرحيله من دون شك خسرت الساحة الثقافية العربية شاعراً رمزاً يسمو بالكلمة بعيداً في رسالته وقضيته، التي ظلّ مخلصاً لها طوال أعوام عمره، ولم يتخل عنها في شعره وعمله السابق بصفته صحافياً. امتلك تجربة شعرية غزيرة وثرية لها بصمتها وتأثيرها. إن رحيله يتزامن مع ما تعيشه فلسطين من وجع مأزوم، والذي بدأ منذ أن بدأ أعوام عمره، لكنه مات وبقيت فلسطين في وجعها. رحل وصوت أنينها يسمع كل الآذان ما تعانيه الآن غزة من عدوان إسرائيلي بشع. رحل القاسم لكن شعره مستمر في الحياة، وسيبقى بقاء الشعر وفلسطين في الوجدان. حسين بافقيه: آن الأوان لإعادة اكتشاف سميح القاسم ارتبط اسم الشاعر سميح القاسم ومحمود درويش بصورة القضية الفلسطينية، إذ استطاع على مدى عقود أن ينذر كلاهما شِعره وحياته للقضية الفلسطينية وأن يبعثا فيها أبعاداً إنسانية على رغم القسوة والعزلة والإقامة الجبرية التي فرضت عليه. تمكن سميح القاسم من اعتلاء منصة أدب المقاومة بفن وتميز، على رغم أنه ظُلم كثيراً، إذ لم تدرس أعماله منفردة عن محمود درويش طوال حياته. وآن الأوان بعد رحيله أن تدرس أعماله في سياق منفصل عن محمود درويش، وعلينا أن نعيد اكتشاف سميح من جديد. بديعة كشغري: جيل تربى على قصائده إن الجيل العربي تشرب وتربى على شعر المقاومة من قصائد سميح القاسم أيام السبعينات والثمانينات، وتمت إعادة استلهامها خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية إلى عصر السلام وحتى الحرب الحالية على قطاع غزة. سميح القاسم على رغم قسوة الحياة والعزلة والإقامة الجبرية، التي فرضتها عليه إسرائيل تمكن من استحضار المشهد الفلسطيني في كل المنابر الثقافية والدولية. تأثرت باللغة الشعرية المقاومة لسميح القاسم. شعر المقاومة لا يخاطب فلسطين وحدها، بل فتح الباب لكل الدول أن تتغنى بالحرية والانتماء، من طريق كلمات سميح القاسم، ومنها «منتصب القامة أمشي» التي تدوي في غزة كما تدوي في كل الدولة العربية. رشيد الصقري: «ترك غصن زيتون وقصيدة» انقطع الصوت المناهض للعدو والداعي إلى الحرية والسلام. رحل شاعر المقاومة في زمن يشتعل العالم العربي قتلاً وتهجيراً وتكفيراً، ما أحوج العالم العربي إلى صوت الحق الداعي لمقاومة العدو الصهيوني والحركات التكفيرية. لحق القاسم برفيق الشعر والمقاومة والسجن محمود درويش، تاركاً غصن زيتون وقصيدة. سميح القاسم شاعر وأديب وهب حياته وشعره للأرض للمقاومة، متفرداً بلغته معبراً عن أفكاره، ومتنقلاً من الشعر العمودي إلى التفعيلة. لن أقول انقطع صوت آخر الشعر، فالأمة العربية ولادة للشعراء. عشت تكتب عن وطن، ورحلت وأوطان عربية تحتاج إلى شعرك. عبدالرحمن الشمري: «ندّية الفارس النبيل» اليوم فجع العرب والعربية برحيل قامة فارعة الطول قدراً وأدباً وشعراً. سميح القاسم، ذلك المناضل الذي لم يقتصر نضاله على الأرض، بل امتد ليشمل كل أنواع النضال السامي بنديّة الفارس النبيل. حمل حجارته وقلمه وكلماته وأحلامه في سبيل وطنه الذي يرى ألا سبيل إليه وعليه إلا بالعطاء. كان شامخاً كقصائده المتوقدة شعراً وشعوراً بالإيمان بالقضية التي لا تتجزأ ولا تقسم إلا على واحد، وهو الوطن الصغير الذي يتكون منه الوطن الكبير. كان ملهماً للشعراء والبسطاء والعظماء. رحيله في هذه الفترة جعل شعراء الموقف والقضية في حرج، فهو إمامهم الأدبي كرفيقه محمود درويش، إذ كانا ثنائي الحب والحرب. محمد الفوز: «حمل جنازته على ظهر الورق» سميح القاسم كان درساً شعرياً لمن يبحث عن أنموذج للحماسة في الأدب العربي المعاصر، بل كان رمزاً لفلسطين الموشومة بالجراح، إذ تضج مشاعرنا بصوت مارسيل خليفة الذي غنى له «منتصب القامة أمشي»، كما لا ننسى مواجعه وشدة التصاقه بالأرض، حتى اتهموه بالتطبيع مع إسرائيل وهو يعبّر عن هويته المكلومة وأحاسيسه المغتصبة. ربما لا يقارن سميح الشاعر إلا بناجي العلي الذي كان يرسم الكاريكاتير وأسلاك المستوطنات على حدود صفحته، لذلك من ينفعل وهو بكامل قواه العقلية غير الذي يفقد صوابه من فرط انهيار حواسه. أدرك سميح القاسم مبكراً أنه يحمل جنازته على ظهر الورق، وبالتالي نجده مكفّناً ببياض الرؤى وفيض القناديل. وكان الله في عون الصدى كيف يتحمّل شاعراً ترافقه المنابر. مظاهر اللاجامي: «كتب الرواية والمسرحية» إن إحدى الصعوبات التي تحدد شكل علاقتنا بتجربة الشاعر سميح القاسم، هي الارتباط الوثيق في البدايات بين تجربته وتجربة محمود درويش، وسيطرة الثانية على الأولى كونها الأكثر جمالية وإنسانية وقدرة على الخروج من أسر المناسبة الخاصة بالمجموعة السياسية. يوجد جانب يكاد يكون مغفلاً في تجربة القاسم بالنسبة للقارئ، وهو أنه لم يكن مقتصراً كدرويش على الشعر فقط، إذ إن درويشاً حتى في أعماله النثرية لم يكتب إلا من خلال الرؤية الشعرية، وأدرك ذلك من خلال قوله إنه لم يكتب النثر. سميح القاسم استطاع أن يكتب الشعر والنثر على السواء، فهنا تطالعنا تجربة غنية ومتنوعة بأشكال الكتابة، كالمسرح كما في مسرحية «قرقاش» و«كيف استولى هنري على المطعم»، وكما في الرواية، يبرز عملاه الأساسيان في مجال السرد، وهما «إلى الجحيم أيها الليلك» و«الصورة الأخيرة في الألبوم». حسّان أبوصلاح: سميح القاسم .. توقف عن المشي انتهى مشواره، توقف عن المشي. وارتدى أخيراً نعشه الذي كان يحمله طوال سنين. انتهت رحلة شاعر فلسطيني «قحّ». رفض أن يصمت، وروى بكلماته جدائل فلسطين حتى لا تجف أو تتقصف، كما جفت مقلتاها وتقصفت أحلامها. إنه صاحب «القصيدة الأنشودة».. كلماته التي تعبر في الألسنة كموسيقى لا تنسى، خفيفة كسنبلة، لذيذة كتينة، وأصيلة كما الزيتون الروماني. لم يتوقف عن المحاولة، من ذا الذي لم يهتف معه؛ بعده! مرات ومرات، «وأنا أمشي وأنا أمشي». والهوى والوطن يتحدان في نبرته الدافئة. إنهم صامتون الآن، ينتظرون أن تقف مرة أخرى، وتبكي وتصلي حين يلهو الآخرون، أم أنك تعبت من صمتك وصوتك ومن الرواية والرواة ومن الجناية والجناة. لحق برفيق دربه وشعره، محمود درويش، استجاب القدر لطلبه بعد خمس سنين. لم يرث صاحبه؛ بل قال له: خذني معك. وربما لم يتحمل وزر موت رفيقه. رحلت ولم تكمل قصيدتك الأخيرة عن غزة وجرحها وأملها، يبدو أنك تعبت من الحياة بلا حياة، واشتقت إلى لحظة ناعسة. رحلت ولم يزل في جسدك المسجى صهيل الخيل وتقريع السيوف، وجراح تغني. وداعاً سميح القاسم.. وداعاً يليق بمرفوع الهامة الذي تشرّب الكرامة وشرّبها.. طارت العصافير والمروحة وسقطت قصفة الزيتون من يدك، لكنها لم تسقط من الأيدي المؤمنة بأن يوماً ما سيأتي، ستضحي فيه كلماتك وقصائدك المرصعة «ذكريات احتلال».