هل يمكن الكلام عن شعر آسيوي كظاهرة بذاتها أو كتجربة واحدة شاملة مثلما يجري الكلام عن شعر أميركي أو افريقي كيلا أقول عربياً أيضاً؟ هذا السؤال تطرحه مختارات الشعر الآسيوي التي انتقاها وترجمها الشاعر أحمد فرحات واختار لها عنواناً لا يخلو من الطرافة هو "تغذية الشمس"* وقد استلّه من إحدى القصائد. الصفة الآسيوية يصعب حصرها في ما يُسمّى آسيا الجنوبية حتى وإن باتت هذه الصفة تعني عالمياً دول الشرق الأقصى. وقد درج الكلام أخيراً عن "آسيا الجديدة" التي تؤلف بلدان ذلك الشرق "البعيد" أي اليابان والصين وماليزيا والهند والفيليبين وسواها... غير أن الشعر الآسيوي - ما دام الكلام عن الشعر - لا يخضع لمواصفات واحدة وجاهزة ولا يمكن تالياً أسره ضمن تصنيفات مغلقة أو مدارس وأنواع. فالشعر الهندي يختلف كثيراً عن الشعر الصيني أو الشعر الكوري أو الأفغاني... والشعر الياباني يختلف بدوره كثيراً عن الشعر الصيني وإن بدوَا متشابهين أو متقاربين في الشكل والموضوعات. وإن كانت المقارنة بين "الأشعار" الآسيوية نفسها تحتاج الى قراءة عميقة وشاملة بغية الوقوف على خصائص كل تجربة أو عالم على حدة فإن ما يمكن القبول به هو الكلام عن شعر الشرق الأقصى في ما يتمثل من تراث حضاري شبه واحد وفي ما يختزن من اسئلة شبه واحدة. وليس عبثاً أن يصر الاعلام الغربي خصوصاً على الكلام عن "آسيا الجديدة" متناسياً أن الصفة الآسيوية كانت تطلق في الستينات والسبعينات على الدول "الآسيوية" الفقيرة والمناضلة من أجل الخبز والحرية. وكان بابلو نيرودا في طليعة الشعراء الذين غنوا آسيا المناضلة تماماً مثلما غنّى الكاتب الفرنسي ميشليه آسيا الحلم والسحر في القرن التاسع عشر قائلاً في كتابه الشهير "توراة البشرية": "دعوني أحدّق قليلاً من ناحية آسيا الأكثر علواً، صوب الشرق العميق. هنا امتلك قصيدتي الشاسعة". لم يختر أحمد فرحات شعراءه الآسيويين وفق مخطط مسبق أو قراءة نقدية عمادها المراجع والدواوين، بل ان الشعراء هم الذين - على ما بدا - فرضوا أنفسهم على "المختارات". فمعظم هؤلاء عاشوا ويعيشون في الامارات العربية وبعضهم ولد ونشأ فيها وبات يعتبرها المسقط الأخير. وقد تعرّف الشاعر اللبناني اليهم هناك ورافقهم وقرأ قصائدهم بالانكليزية واطلع عن كثب على أعمالهم كنماذج آسيوية "مغتربة". ويمكن تسمية هذه "المختارات" بالشعر الآسيوي الاغترابي أو المغترب إذ ان معظم الشعراء الذين وردوا فيها يعيشون حالاً من الاغتراب في معانيه المختلفة. غير أن قلة قليلة منهم التقاهم في بلدانهم عبر سفره اليها ومنهم مثلاً الشاعر الماليزي سيال عبدالرحمن الذي لم يتوان عن إهداء قصيدة الى صديقه الشاعر اللبناني. وإن بدا الاغتراب حالاً شعرياً بامتياز مفعمة بالأمل والألم معاً فهو لم يغدُ اقتلاعاً ولا استلاباً ولا حالاً من اليأس والغربة والموت. وإنما على العكس فبعض الشعراء غادروا الأرض العربية الى المنفى الغربي ولم يعودوا الى اوطانهم. وأحد الشعراء أبو بكر محمد إكرامي اكتشف لدى عودته الى وطنه الأم أو وطن آبائه اندونيسيا ما يشبه الغربة الكبيرة وكتب يقول عن جاكارتا: "إنها ليست مدينتي... أريد العودة الى دبي". وكان هو ولد في دبي ونشأ ولكن من غير أن يهجر لغة آبائه ولا "الوطن السري" كما يعبّر والذي "يتحرّك فيه المهاجرون دوماً". والشاعر الأندونيسي هذا ظلّ على علاقة وثيقة بتراثه الآسيوي على رغم "ادمانه" اللغة الانكليزية، فهو ينتقد معظم ما كتب الغربيون عن الآداب الآسيوية القديمة والحديثة نظراً الى كونها تمّت تحت دافع الكشف والتعرّف السريع الى الحضارة الأخرى. قد لا تمثل "مختارات" أحمد فرحات أحوال الشعر الآسيوي والتحوّلات التي عرفها ولا الأنواع التي يتمثلها. لكنها تشكل صورة مهمة وعميقة عن الشعر الآسيوي المغترب وعن العلاقة التي تجمع بين هؤلاء الشعراء والعالم العربي أو الخليج العربي تحديداً. وأبرز ما في هذه المختارات أنها تتيح الفرصة لتبيان الأثر الذي تركته البيئة الخليجية في هذا الشعر المغترب. فالبيئة الخليجية - كي لا أقول الزمان والمكان - تتجلى في نتاجهم كما لو أنهم شعراؤها وليسوا غرباء عنها أو عابرين. لكن علاقتهم بهذه البيئة تختلف عن علاقة الشعراء العرب بها. فهم ينظرون اليها عبر أعين أخرى ويستوحونها كذلك عبر مخيلات أخرى. وتكفي المقارنة بين قصائدهم وبعض القصائد الخليجية ليتوضّح ذلك الاختلاف الذي يرجع أول ما يرجع الى التباين الثقافي الفردي والجماعي، الواعي واللاواعي، اللغوي والوجودي. صحيح أن الشاعر ايل سانغ ننه كوريا الجنوبية يكتب عن "جارته النخلة" أو "معلمته" في "الصحراء الرملية" لكنه يعلن صراحة أن "لا شرق ولا غرب" بل ثمة "اخضرار روح واحدة". أما الشاعر الهندي كومار سينغ كوجرال الذي شاء أن ينتحر في الشارقة 1997 فكتب عن دبي كما لو أنه يكتب عن مدينته الخاصة، الواقعية والمثالية. فهي كما يعبّر "مدينة المفارقات الآسيوية/ والصحراء التي جمدت/ في غبطتها أناقة العصر". ولا ينثني في قصائد أخرى عن الكلام عن "الصديق العربي" أو عن استيحاء جاره العجوز خليفة "الحكيم على طريقته" والذي "يذهب مطرقاً الى البحر". ويبلغ به صراعه الذاتي والوجودي شأوه حتى ليفصل بين شمس الخليج الخارجية وشمس الخليج الداخلية. وإذ يكتب الشاعر الهندي هذا بالانكليزية فهو لا يشعر بأي غربة لغوية. فوطنه هو جسده وقصيدته هي أرض العودة كأن يقول: "الآن يعود معظم الناس / الى بيوتهم / أما أنا/ فأعود الى قصيدتي". ويدرك الشاعر في عمق قرارته أن الشاعر "راءٍ وعابر" وأن الشعراء وحدهم قادرون على اكتشاف قبة أحلام الصحراء. وقبل أن ينتحر ترك رسالة يقول فيها انه لم يرحل إلا في هدف وحيد هو "البحث عن مزيد من الصلة بالواقع". على أن الشاعر نفسه كان كتب قصيدة عن الانتحار معلناً موقفه العبثي منه على غرار الكاتب سيوران، معتبراً أن لا ضرورة من الانتحار "فأنا مقيم فيه/ وهو مقيم فيّ". تحفل "مختارات" أحمد فرحات بقصائد جميلة جداً وقصائد عادية وبمقاطع أو أبيات غاية في السحر والجمال والطرافة والغرابة. ويشعر قارئ "المختارات" أنه أمام عالم شعري خاص جداً هو مزيج من عناصر وأجواء أو مناخات عدة: فيما تحضر آسيا بشدة عبر عاداتها وطقوسها وعبر الذكريات والأحلام والرؤى والمواقف الصوفية تحضر البيئة الخليجية بدورها من خلال مخيلات الشعراء وحياتهم اليومية. قصائد فريدة حقاً لا في مرتقاها الشعري ولا في خصائصها اللغوية والأسلوبية وإنما في فضائها البيئي وأبعادها الزمنية والمكانية وتجاربها التي تختزن الكثير من التناقضات والمشاعر والمكابدات. وعلى غرار الشعر الآسيوي المعاصر والحديث الذي يختلف بعض الاختلاف من بلد الى آخر تتعدد الأنواع والمدارس في هذا الشعر الآسيوي المغترب. كأن تتجلى في ثناياه أنماط الحداثة الشعرية والاتجاهات التي تشغل الشعر العالمي المعاصر. على أن بعض الشعراء لم يتخلوا عن تراثهم القديم ولا سيما ذاك الذي عادت اليه الحداثة الغربية نفسها. هكذا نقرأ القصيدة المختصرة التي تقارب قصيدة الهايكو اليابانية كما نقرأ القصيدة الميتافيزيقية او الصوفية التي تستوحي الطبيعة والحياة الفطرية على طريقة الشعر الصيني الكلاسيكي. ونقرأ كذلك القصيدة اليومية القائمة على رصد التفاصيل و"شعرنتها" والقصيدة الغنائية المتكئة على الانسياب الايقاعي... أنواع ومدارس عدة تتآلف و"تتعايش" وجمعيها بعيدة كل البعد من الاصطناع والافتعال. لكنها غالباً ما تتحاشى الوقوع في أشراك الفطرية والعفوية الساذجة. ولئن عبّر بعض الشعراء عن فنهم الشعري فهم في معظمهم ابتعدوا عن النظرية الشعرية أو "التنظير" الشعري. فالقصيدة هي سليلة الحياة والتأمّل العميق والمعاناة والحوار الداخلي. ويشير فرحات في تقديمه "المختارات" الى أن معظم القصائد "يحمل طابع الرؤية الباطنية للوجود" وينقل عن شاعر ماليزي قوله: "بتّ لا أؤمن بما أشاهد وإنما بما أحسّ. عتمتي هي التي باتت تحدد الأشياء وتعاينها شعرياً...". وهكذا أيضاً يجمع الشاعر الباكستاني عبدالله أكبر خان بين الشعر والموت قائلاً: "كتابة الشعر ممارسة لموت حقيقي". وهكذا أيضاً يمعن الشاعر رستاق شريف علي في تحليل العلاقة بين الشعر والموت قائلاً: "أن تموت يعني أن تسرق النور" وكان هو - كما يقول في إحدى قصائده - "استيقظ في الصباح / فلم يجد جسده". ويدعو الشاعر الأندونيسي نصرت صالح علي قرينه وكأنه يخاطب نفسه قائلاً: "نقّب الخفاء أيها الشاعر". فالشاعر الذي تسحره الحياة البدائية أدرك كل الإدراك ان الحقيقة إنما تكمن في ما وراء الأشياء والعالم. وإن بدا معظم الشعراء الآسيويين مأخوذين بهاجس الموت والماوراء وميالين الى الأسئلة الفلسفية والحكمة فإن بعضهم لم يخف معاناته الواقعية والسياسية. وهوذا الشاعر الأفغاني عزيز سلطان آراش يعبّر في الكثير من قصائده عن مكابدة شعبه إزاء الحرب الأهلية جاعلاً من نفسه شهيداً أو ضحية. يسأل الشاعر نفسه في إحدى قصائده ويجيب هو بنفسه أيضاً قائلاً: "ماذا يفعل الشاعر/ في الحرب الأهلية؟/ يأكل نفسه فقط". خاض الشاعر أحمد فرحات مغامرة خطرة في وضع "المختارات" الشعرية الآسيوية الأولى في اللغة العربية. والخطر يكمن في كون هذه "المختارات" تفتقد المراجع والأصول في اللغات - الأم. فهو اختار ما توافر له من قصائد بالانكليزية عبر شعراء آسيويين مغتربين عرف معظمهم شخصياً في الامارات. ومعظم هؤلاء ليسوا من الشعراء البارزين أو المعروفين في بلدانهم. وتكفي مثلاً العودة الى بعض "المختارات" الشعرية الآسيوية التي وضعت باللغتين الفرنسية والانكليزية ليتضح الاختلاف بين ما اختاره وترجمه أحمد فرحات وما اختير وترجم في تلك المختارات. ولعل أحدث ما صدر في هذا الصدد الملفّ الشامل الذي خصصته مجلة "شعر" الفرنسية للشعر الكوري - الجنوبي العدد 88 وفيه يتعرّف القارئ الفرنسي الى حركة شعرية عظيمة، حديثة ومعاصرة، آسيوية ولكن منفتحة على أحدث التجارب الشعرية العالمية. أما "مختارات" أحمد فرحات فهي توفّر للقارئ العربي فرصة مواتية جداً لقراءة بعض النتاج الآسيوي قراءة جميلة وممتعة تبعاً لما اعتمد الشاعر المترجم من حذاقة وشاعرية في فعل التعريب. ونمّت القصائد المترجمة عن سلاسة لغوية وأسلوبية كانت هي السبب الرئيس في خلق مناخ واحد يرين على القصائد جميعاً على رغم اختلافها وتنوّعها. وبدا الشاعر أحمد فرحات شاعراً في ما ترجم وليس مترجماً فقط. فهو جعل من تلك القصائد ذرائع ليصوغ قصائد جديدة في لغة عربية بسيطة وصعبة في الحين نفسه. وإن افتقدت "المختارات" بعض الشروط والمعايير التي يفترضها الاختيار أولاً والترجمة ثانياً فإنها تظل أولاً وآخراً مختارات شعرية يصعب أن تلتئم في كتاب لو لم تتوافر للشاعر - المترجم فرصة أن يلتقي الشعراء أنفسهم ويطلع على نتاجهم عن كثب بعيداً من المختارات التي تحفل بها المكتبات العالمية وفي طليعتها المكتبة الفرنسية والانكليزية. * صدرت المختارات عن المجمع الثقافي - أبو ظبي - 2000.