الصورة العامة، في اطار التسوية، ومنذ مؤتمر مدريد، كانت خلال السنوات العشر الماضية كالتالي: أغلب الدول العربية ومعها منظمة التحرير الفلسطينية ثم السلطة الفلسطينية تبنت "استراتيجية السلام"، واستبعدت الحرب، واسقطت من حسابها ان الجيش الاسرائيلي يمكن ان يضرب مجدداً، ولم تتصور انتصار المقاومة في جنوبلبنان واندلاع الانتفا ضة، وتفجر الشارعين العربي والاسلامي، ومن ثم انعقاد أجواء حرب من جديد. لقد اعتمدت هذه الاستراتيجية على التفاوض، والرهان على الراعي الاميركي لعملية التسوية، واظهار حسن النيات، والاستعداد لتقديم التنازلات في هذه المسألة أو تلك، والمضي الى ما هو أبعد من "منتصف الطريق"، علماً ان الانطلاق من مرجعية مدريد تجاوز اصلاً 80 في المئة من ذلك الطريق - أرض فلسطين وثوابت القضية. وعندما كانت المفاوضات تتعثر، وتبدو اكثر فأكثر حدودها وكارثيتها كان يعاد البحث عن "مبادرات جديدة" باتجاه الاسوأ حتى وصلت الأوضاع الى ما هي عليه الآن. اما قادة الدولة العبرية على الجانب الآخر فتبنوا "استراتيجية الأمن الاسرائيلي" بمعناه الاشمل، أي المحافظة على التفوق العسكري بالأسلحة التقليدية وفوق التقليدية على كل المنطقة، مع مضاعفة هذا التفوق مع كل "اتفاق" مهما كان جزئياً. وحددوا هدف التسوية بأن تقوم على أساس الشروط الاسرائيلية وإدامة التفوق العسكري الكاسح، اي "السلام الاسرائيلي" في ظل المسدس المصوب الى الرأس العربي، وإلا فلا. وعندما فشلت قمة جنيف الأسد - كلينتون وانتصرت المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله في لبنان، ثم فشلت مفاوضات كامب ديفيد 2 واندلعت الانتفاضة وتصاعدت المقاومة وتحرك الشارعان العربي والاسلامي ودخلت قيادات الدولة العبرية حزبا العمل وليكود في المأزق، وارتبكت السياسة الاميركية، عاد التهديد بالحرب ضد لبنان وسورية ومصر، وممارستها فعلياً ضد الشعب الفلسطيني. وفي المقابل اصبحت الدول العربية مطالبة بتبني استراتيجية اخرى تتجاوز "استراتيجية السلام" المأزومة، وتتعدى الدفاع والممانعة في وجه فرض التسوية الاسرائيلية والشرق أوسطية. فالظروف العربية والاسلامية والعالمية الجديدة، وخصوصاً مع مأزقي الحكومة الاسرائيلية والادارة الاميركية، ومع ارتفاع موجة المدّ الشعبي على غير صعيد، لا سيما مع الانتفاضة وتصاعد المقاومة في فلسطين والمواجهة مع حزب الله ولبنان وسورية، زادت الإلحاح على التغيير في الاستراتيجيا والسياسات العربية بما يواجه متطلبات المرحلة الجديدة. وبكلمة أصبحت المطالبة الآن ببديل استراتيجي آخر تملأ الأجواء وتزداد أواراً كلما أوغل الجيش الاسرائيلي باستخدام السلاح وارتكاب الجرائم وكلما ارتفعت نبرة التهديد بالحرب. لخص غازي القصيبي الوضع الراهن في مقالته في "الحياة" تحت عنوان "التفكير في ما لا يجوز التفكير فيه" بتاريخ 9/6/2001، كاتباً: "من ناحية تأكد الانطباع عند العالم كله ان اسرائيل بصرف النظر عن الحكومة القائمة، يمكن ان تقوم، في أي لحظة، بتصرفات عسكرية جنونية قد تشعل المنطقة كلها. ومن ناحية اخرى، سجنت الدول العربية نفسها عبر حلقة من الاتفاقات والمؤتمرات والتصريحات في قفص السلام. وليحدث ما يحدث. لا يحتاج المرء الى ذكاء كبير ليتبين ان اسرائيل، في ضوء ظروف كهذه، تستطيع ان "تعربد" كما تشاء، وهي تفعل ذلك بانتظام من دون ان تخشى اي رد فعل عربي حقيقي". لا شك ان وضع الدول العربية نفسها عموماً في "قفص السلام" هو لب المشكلة منذ مؤتمر مدريد، خصوصاً حالياً. لأن هذا يعني ان يمسك الطرف الصهيوني الآن، ومن ورائه من معه، بنقطة الوجع عند الدول العربية، أي الحرب. ومن ثم يمكنه ان يذهب في الضغط عليها الى آخر مدى. ويروح يضغط على نقطة الوجع الأخرى: احتلال مناطق أ وتصفية السلطة الفلسطينية. ولهذا، أول ما يجب ان تفعله الدول العربية والسلطة الفلسطينية اسقاط هاتين الورقتين. وما لم يحدث ذلك، وهو ممكن وبالحسابات الدقيقة، سيظل فعل السياسة العربية والفلسطينية ضعيفاً وعاجزاً، وسيبقى مصير الانتفاضة وانجازاتها مهدداً. ويجب ان نبدأ بالساحة الفلسطينية وإلا فما جدوى الانتفاضة والمقاومة والتضحيات مع بقاء تلك الورقة بيد شارون، وكيف يمكن ان يُدحر الاحتلال وتُصفى المستوطنات وتُستنقذ القدس والمسجد الأقصى ما لم نجعل الطرف الآخر ومعه الاميركي من يجب ان يخاف من احتلال المناطق وتصفية السلطة، أو من الحرب على مستوى أوسع. وذلك عبر حساب المخاسر والمكاسب ليس البشرية والعسكرية فحسب، وانما ايضاً مختلف المستويات التي قد تكون أهم عند اجراء الحساب جيداً. الكثيرون ممن اندفعوا في طريق "استراتيجية السلام" لم يفرقوا، ومن اسمها، بين الهدف والاستراتيجية. فليس ثمة دولة في العالم لا تعلن ان هدفها السلام. ولكن ما من دولة في العالم تعتبر السلام نفسه استراتيجية، خصوصاً اذا كان جيش عدوها يربض فوق أرضها أو يتهددها على حدودها، أو حتى لو كانت تعيش حالة سلام ولا تواجه احتلالاً أو تهديداً مباشراً. ولعل أبلغ مثل، لو وضعنا جانباً الدول الكبرى وغالبية دول العالم، نجده في سويسرا التي لا يشك أحد في حرصها على الحياد والسلام وما تتمتع به من أمن وطمأنينة. ومع ذلك وضعت لنفسها استراتيجية دفاعية تقوم على اساس مقاومة شاملة عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية يشترك فيها الجيش وقوات الأمن واجهزة الدولة المدنية وكل الشعب لتجعل من سويسرا المسالمة المحايدة الجميلة جهنماً لمن يفكر في احتلالها حتى لو كان يتفوق عليها عسكرياً ألف مرة. وهي استراتيجية مطبقة حتى يومنا هذا، وليست سرية وكتب عنها الكثير. وهنا لا نجد تعارضاً بين هذه الاستراتيجية المهمة والخطيرة والفعالة، وهدف الحياد والسلام والعيش الآمن. ان الغافل وحده يسقط من حسابه، اذ يضع استراتيجيته، عاديات الأيام، وتقلبات الاحوال واطماع الأقوياء. يمكن القول ان "استراتيجية السلام" كما عبرت، وتعبر، عن نفسها عربياً هي خروج على القاعدة العالمية، وفي المستطاع استخراج براءة اختراع لها مستندة الى حقوق الملكية الفردية. اذا كان من غير الممكن انزال هزيمة عسكرية بالجيش الاسرائيلي باستراتيجية سباق تسلح وجيش مقابل جيش. وهذا مفهوم جيداً بسبب التفوق العسكري والدعم العسكري الاميركي المشارك، فهذا لا يعني سقوط كل البدائل الدفاعية، أو القبول بالاستسلام. بل يفرض بناء استراتيجية تبطل الحل العسكري لدى الجيش المتفوق بحيث يتأكد أن "دخول الحمام ليس مثل الخروج منه" وان لا حل عسكرياً مجدياً مع الفلسطينيين والعرب، وان الضغوط الاميركية مرفوضة لتثبيت الحل العسكري الاسرائيلي. بل هنالك تعدد في الخيارات الاستراتيجية الدفاعية والمقاومة، والتي أوصلت عدوها المتفوق الى هذه النتيجة، برغم الفارق في كل حالة. وإلا كيف كسبت حروب التحرير ضد الجيوش الاستعمارية المتفوقة، بل كيف انتصر الحلفاء في الحرب الثانية لو لم تتحوّل، خصوصاً في سنيّها الأربع الأولى، الى حرب جيش وشعب ومقاومة لا استسلام فيها، مقاومة مستمرة وصمود لا نهائي كما فعلت لندن وموسكو وعشرات المدن، برغم الدمار والتفوق النازي، حتى فعل الاستنزاف فعله والوقت والاستعداد فعلهما. اما لو سادت حسابات التهاون العسكري مع اندلاع الحرب أو طلب وقف النار بعد اجتياح أوروبا كلها عدا بريطانيا، واحتلال أغلب المدن السوفياتية أو محاصرتها، لما كان هناك انتصار على النازية. المهم استراتيجية دفاع ايجابي عربية مُفَكّرٌ بها جيداً... استراتيجية تعبئة عربية واسلامية شاملة لكثير من الامكانات غير العسكرية، لدعم الانتفاضة والمقاومة والمضي بهما حتى دحر الاحتلال الى ما وراء خط الرابع من حزيران يونيو 1967 خطوط الهدنة. ومثل هذه الاستراتيجية تسمح بتعبئة عالم ثالثية وعالمية عموماً ضد الغطرسة الاسرائيلية، والحل العسكري الاسرائيلي. فالذين تحدثوا كثيراً لإقناع دولنا، وهي ليست بحاجة الى اقناع، باستحالة الحل العسكري العربي آن لهم أن يقنعوا أنفسهم بضرورة إبطال الحل العسكري الاسرائيلي، وإلا كيف يمكن ان تستقيم الأمور. وهذه غير استراتيجية "سباق التسلح" أو "جيش مقابل جيش" وغير استراتيجية الانحباس في "قفص السلام" وهو سجن حقيقي بينما السلام المطروح وهمي، أو مدمر وكارثي. يجب الاستدراك هنا ان أخطر نقاط الضعف التي تمنع الوصول الى استراتيجية عربية تبطل الحل العسكري الاسرائيلي ابطالاً فاعلاً وذا نتائج، انما تتمثل في الارتباك أو الاستجابة للضغوط الخارجية، وفي اشكالات التجزئة القطرية العربية وتداعياتها، وفي العلاقة بين الدولة والشعب وكيفية التعامل والمقاومة والمبادرات الشعبية. ومن هنا تأتي اهمية التشديد، واعادة التشديد، على استقلال الارادة العربية والقرار العربي، وعلى التضامن العربي وتصفية الخلافات العربية - العربية أو في الأقل تجميدها، وعلى تصحيح العلاقة مع الشعب بحيث تقوم المصالحة اينما توجبت، وتطلق المبادرات الشعبية بعيداً عن التدخل الخارجي وضمن اطار جبهات متحدة واحترام للخطوط الحمر ودعم المقاطعة الجماهيرية للبضائع الاسرائيلية والاميركية، ليصب كل ذلك، في هذه المرحلة، في تحرير الأراضي المحتلة في حرب الخامس من حزيران، وفي المقدمة الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني والمقاومة لتحرير مزارع شبعا في لبنان.