جرياً على عادة المثقفين والأكاديميين حين يأتون عرضاً الى المناصب الرفيعة، يصدر وزير المال اللبناني السابق الدكتور جورج قرم كتاباً جديداً بعنوان "الفرصة الضائعة في الاصلاح المالي في لبنان" يصدر قريباً عن شركة المطبوعات في بيروت وتنشر "الحياة" على حلقتين مقتطفات منه تتناول تجربة قرم بحلاوتها ومراراتها. يبدأ قرم كتابه بشرح ظروف تعيينه وزيراً للمال وينتهي بوصف مراراته من الحملات الاعلامية التي تعرض لها اثناء ممارسته مهماته. وبين التعيين والخروج من السلطة يشخص قرم في كتابه الازمة الاقتصادية البنيوية التي يعاني منها لبنان ويذكر بالجهود التي قام بها داخلياً عبر خطة الاصلاح المالي وخارجياً عبر الاتصالات مع المؤسسات المالية الدولية والدول المؤثرة في هذا الاطار. وقرم نفسه يؤكد منذ مطلع الكتاب انه لا يبوح بأسرار لكنه يسهم من جديد في مناقشة الوضعين الاقتصادي والمالي في لبنان بهدف استخلاص العبر. عاد الفريق "الإعماري" إلى السلطة بعد أن أوهم جزءاً هاماً من الرأي العام أن حكومة الرئيس الحص، وسياسة وزير المال بشكل خاص، هي التي كانت مسؤولة عن جمود الوضع الاقتصادي. وعاد هذا الفريق بأبرز رموزه إلى الحكم حاملاً الأفكار المبسّطة نفسها والطروحات القديمة التي كانت قد أدّت إلى أزمة بنيوية متفاقمة" وترجمتها الحلقة المفرغة لمديونية متعاظمة لا تحتملها طاقة البلاد. فقد تمّ خفض الرسوم الجمركية بطريقة عشوائية، بدل أن تكون مدروسة، كما كانت حكومة الرئيس الحص تهيّئ لها، ومتلازمة مع إدخال الضريبة على القيمة المضافة، كما كان مقرّراً سابقاً. ثمّ أُوقفت شركة تلفزيون لبنان" وأُقرّ دفع تعويضات ضخمة من دون مقابل، في حين أن حكومة الرئيس الحص كانت على وشك توقيع اتّفاق شراكة مع القطاع الخاص العربي، كان من شأنه قبض مبلغ 18 مليون دولار لدفع جزء هام من التعويضات. وقد سحبت الحكومة الجديدة من المجلس النيابي، أو من أدراج مجلس الوزراء السابق، كلّ مشاريع القوانين التي أشبعت درساً في مجالات حيوية، مثل خصخصة الاتّصالات السلكية واللاسلكية والكهرباء، وإجراء تسوية ضريبية شاملة، وإدخال الضريبة على القيمة المضافة. وبعد مضيّ أكثر من سبعة أشهر على تأليف الحكومة، لم يصدّق على أي من هذه القوانين التي لا بدّ منها للسير على طريق الإصلاح المالي والخلاص الاقتصادي! لماذا تأخّر تصديق الموازنة التي وضعتها حكومتنا بكل دقّة وعناية، وأرادت الحكومة الجديدة تعديلها" فاستغرق ذلك منها أشهراً طويلة انصرفت فيها إلى اجتماعات دولية برّاقة لا تقدّم ولا تؤخّر، غايتها جعل الناس ينسون ما نحن فيه من شلل وجمود ويأس وتشاؤم مفرط وقلاقل! لم نتقدّم خطوة، لا في مجال الخصخصة، ولا في المجال الضريبي، وهما، الركيزتان الأساسيتان لإخراج البلاد من الدوامة القاتلة. أين نحن من إعادة الربحية إلى شركة سوليدير وعودة السهم إلى الارتفاع، بعد أن اتُّهمت حكومتنا بأنها مسؤولة عمّا أصاب هذا المشروع الفضفاض، المكلف، الذي أنفق عليه مليار دولار تقريباً من الأموال النقدية، بالإضافة إلى هدر حقوق أصحاب العقارات والقضاء عليها، في شكل لا مثيل له في الأنظمة الاقتصادية الحرّة؟ وأين سعر أسهم المصارف في البورصة؟ ولماذا هذا النزف المستمر في سوق القطع؟ لقد تحمّلت حكومتنا، في أشهر معدودة، ثلاث ضربات إسرائيلية موجعة" وعاشت حال ترقّب وحذر من الانسحاب الإسرائيلي، ولم تشهد السوق مثل هذه الضغوط. فماذا يحصل؟ ولماذا خرج رئيس الحكومة السابق من الحكم بهذا الأسلوب؟ حين لم يؤدِّ التغيير الوزاري إلى أي تحسّن، بل أدّى إلى زيادة القلاقل والجمود الاقتصادي. ينتابني، في بعض الأحيان، الشعور بالغضب حيال الفرصة الضائعة" ذلك أن كل هذا العمل الذي قامت به حكومتنا في هذه المدة القصيرة قد ذهب سدى، ولا تزال البلاد تئنّ تحت وطأة أزمة بنيوية خطيرة، كنّا قد بدأنا بمعالجتها على رغم المعرقلات والمشكلات، ووصلنا إلى نتائج أولية هامة في عام 1999، سنأتي على ذكرها. أعود لأتساءل: لماذا قبلت المهمة الوزارية الشاقة والمتعبة ما دام لبنان قد أعيد إلى سابق عهده من الممارسات الإعمارية - السياسية المسدودة الأفق؟ وإذا كانت تخفّف من ألمي المشاعر الطيّبة التي يبديها الناس تجاهي، فإن القلق والغضب يعاودانني، في كثير من الأحيان. فبعد مضي كل هذه الأشهر على رحيل الحكومة، تعزّزت قناعتي بأن تطبيق برنامجنا، في الإصلاح المالي، تطبيقاً جدّياً ومتواصلاً، كان آخر فرصة أمام لبنان لتجنّب العلاجات الصعبة المؤذية التي قد تفرض عليه من الدوائر الخارجية، وبشكل خاص صندوق النقد الدولي، وهي علاجات توصف ب"الصدمية"Shock therapy ، تطبّق عندما تفشل دولة في إصلاح أحوالها بإرادتها الذاتية، فتفرض عليها الحلول فرضاً ممثّلة بوصفات قد تقتل المريض، خصوصاً إذا كانت المناعة ناقصة لتلقّي الدواء الموجع. وهذا ما يحصل، أغلب الأحيان، في الدول التي تتميّز ببنية إنتاجية ضعيفة وقدرة تنافسية شبه معدومة، كما هي حال لبنان اليوم. وبطبيعة الأمر، فإنني لا أودّ الاسترسال في التشاؤم" لكن، وأنا أتابع الكتابة في النهج الإصلاحي الذي سعيت، كوزير للمالية، إلى نشره وإقناع اللبنانيين بضرورته، كان لا بدَّ لي من تأكيد هذه الحقيقة، لأن الاستمرار في العيش بالأحلام، وبعيداً من الواقع ومقيّداته، إنما هو نهج يوقع بالبلاد أشدّ الضرر. والحقيقة أنه، من دواعي قبولي منصب الوزارة، كان خطاب القسم الذي ألقاه فخامة رئيس الجمهورية في المجلس النيابي، لما احتواه من قِيَم عالية حول دولة المؤسسات والقانون، والعدالة الضريبية، والشفافية في أمور الحكم، والمساءلة، ومكافحة الهدر والفساد" ولما تضمّنه من تنديد بالمبالغين والمتزلّفين في قضية العلاقات بين لبنان وسورية. وكانت كلّ هذه الأمور، التي كان أي لبناني يشعر أنه يفتقدها، أموراً جوهرية لإصلاح الأحوال، ووضع حدّ لتدهور الأوضاع المالية والاقتصادية، واستفحال انعدام الأخلاق العامة في البلاد. وقد استغرب الكثير من الناس الاستعانة بي وزيراً للمال بعيداً من الطبقة السياسية اللبنانية، وبعيداً أيضاً من البحث عن أي وظيفة في الدولة، بعد أن تركت الخدمة العامة في وزارة التصميم العام، ثم في وزارة المال عام 1968، باستثناء سنتين قضيتهما في شركة أنترا للاستثمار 1980 و1981، ووجودي بين عامي 1980 و1985 إلى جانب الشيخ ميشال الخوري مستشاراً له، عندما كان حاكماً لمصرف لبنان. ورفضت، في عام 1985، عرضاً لخلافة الشيخ ميشال الخوري كحاكم للبنك المركزي، رغم ما كان يبلغني من تأييد الرئيس سليم الحصّ حينذاك، لإسنادي مثل هذا المنصب. ويعزى رفضي لأسباب عدة، منها، في شكل رئيسي، نفوذ السيد روجيه تمرز خلال عهد أمين الجميّل في كل الأمور المالية والمصرفية، التي كلّفت المصرف المركزي ملايين الدولارات، نتيجة لإفلاسات متكرّرة في القطاع المصرفي" ومنها، أيضاً، دخول الميليشيات المسلّحة في لعبة تحطيم الليرة اللبنانية، والإثراء من طريق المضاربات على الليرة التي كان يتحكّم بها صوت المدافع ومواعيد إطلاق النار. وقد أجبرني السيّد تمرز على الاستقالة من المنصب شبه الرسمي الوحيد، الذي كنت أعمل به عام 1985، كعضو منتدب في مجلس إدارة إحدى الشركات التابعة لمجموعة شركة أنترا للاستثمار في فرنسا. وكنت أعمل في هذا المنصب بناء على طلب دولة الكويت والشيخ ميشال الخوري، وذلك لحماية ممتلكاتها الضخمة، والسائلة 700 مليون فرنك فرنسي من أطماع السيّد تمرز، الذي اصطدمت به مراراً للحؤول دون توقيع صفقات مضرّة بشركة أنترا والشركات التابعة لها في فرنسا. وانقطعت، بذلك، أي علاقة بيني وبين الدولة اللبنانية" وبدأت حياة جديدة في باريس، كخبيرٍ اقتصادي ومالي مستقلّ. كنت قد التقيت، مرة واحدة، الرئيس إميل لحود، عندما كان قائداً للجيش، وذلك عام 1994، وجرى اللقاء في وزارة الدفاع. ومن الجدير بالذكر أن هذا اللقاء قد اقترحه عليّ حينئذ الصديق القديم هنري صفير الذي كان من القليلين الصامدين أمام الآلة الإعلامية لرئيس الوزراء آنذاك وحلفائه في السياسات الإعمارية الجديدة. وكان الحديث، في هذا اللقاء، قد دار حول مخاطر سياسة الإعمار والدخول في أنماط تبذيرية في الإنفاق العام. وبُعَيد انتخاب الرئيس إميل لحّود، سألني أحد الأصدقاء عن استعدادي لتولّي وزارة المال إذا لم يتم الاتّفاق بين الرئيس الحريري ورئيس الجمهورية الجديد. ثمّ طلب منّي القدوم إلى بيروت في أقرب فرصة للقاء الرئيس، إذا أمكن الأمر. وفعلت ذلك في نهاية تشرين الأول 1999، على ما أذكر. وعرض عليّ الرئيس وكبار معاونيه فكرة وزارة المال، أو حاكمية البنك المركزي. ولم أبدِ حماساً، ولاسيّما في ذلك الوقت" إذ لم يكن الرئيس قد ألقى بعد خطاب القسم الذي أثار حماسي، على رغم ما تولّد لديّ، عند سماعه، من شعور بصعوبة تطبيق مبادئه. وأشرت، حينئذ، إلى أن بإمكاني أن أقدّم خدمات أكثر فاعلية، كمستشار لرئيس الجمهورية" وأن أدرس كل القضايا المالية والنقدية المعقّدة للغاية بكل دقّة وتفصيل، ومن دون ضغط العمل الإداري والروتيني، ومن دون واجبات الوظيفة العامة المضنية التي تقع على كاهل أيّ وزير للمالية في شكل حتمي. كما لفتُّ النظر إلى صعوبة إصلاح الأوضاع المالية والنقدية التي بلغت درجة من التعقيد والخطورة يصعب معها تحمّل مسؤولية ما يمكن أن يؤدي إليه الوضع المتردّي، خصوصاً وأن الناس سيعتبرون وزير المال مسؤولاً عن أيّ هزّة تحصل في سوق القطع، أو في آلية تمويل العجز المتفاقم في المالية العامة. وكنت مصرّاً على أن أخدم بلدي، في البداية، كخبير، وليس كوزير. هذا مع الإشارة إلى رغبتي في محاولة إقناع الرأي العام بإمكانية إدارة البلاد، مالياً واقتصادياً، في شكل مغاير تماماً للسياسات الإعمارية السابقة التي كانت قد أدّت إلى الطريق المسدود" والتأكيد على أن مصير الليرة غير مرتبط بوجود الفريق الإعماري بالحكم. لذلك يمكن أن أقول، أيضاً، إن من دواعي قبولي تولّي منصب وزير المال، رغبتي في طرح مشكلات الاقتصاد اللبناني، بكل أبعادها، على الرأي العام. صحيح أنني كنت قد نشرت، في سلسلة الإعمار والمصلحة العامة، كتاباً بعنوان: "في اقتصاد ما بعد الحرب وسياسته"، يجمع الكثير من الأطروحات البديلة للسياسات الإعمارية التي ترسّخت في أذهان اللبنانيين، غير أنني كنت أعتقد أن لخطاب الوزير المسؤول، أو لكلامه، صدى أكبر وأوسع من الدراسة المتخصّصة التي ينشرها، كباحث أو خبير، هذا اضافة إلى أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية في لبنان، منذ 1995، قد أملى عليّ اغتنام الفرصة السياسية الممنوحة، للسعي إلى تغيير مجرى الأمور. ومن أجل ذلك، كان لا بدّ من العمل الحثيث للتغلّب على الأفكار الاقتصادية المبسّطة والمتحجِّرة لدى الكثير من اللبنانيين في النادي السياسي، كما في أندية الفاعليات الاقتصادية والمهنية المختلفة، ولدى بعض الخبراء الاقتصاديين. وفي المعارك التي خضتها، كنت دائماً أصطدم بكتلة من الأفكار الاقتصادية الجامدة، التي سأستعرضها في ما بعد، والتي وقفت حائلاً دون النجاح في تبنّي مجلس الوزراء لإجراءات إصلاحية جريئة توقف التدهور في شكل قاطع، هذا اضافة إلى لعبة شبكة المصالح ومراكز القوى في البلد، التي كانت حجر عثرة في ميادين مختلفة، مثل الكهرباء والهاتف وشركة الطيران الوطنية وشركة أنترا للاستثمار، وغيرها من المؤسسات العامة الكبرى والإدارات الرئيسية التي وصفتها، في إحدى المقابلات التلفزيونية، بأنها "ممالك مقفولة"" وهي، فعلياً، ليست فقط مقفولة فحسب، بل "موقوفة" لمصلحة بعض كبار السياسيين. لذلك كثّفت عملي الإعلامي لتنوير الرأي العام، بإلقاء محاضرات عدة وكلمات أو خطابات، في كل مناسبة رسمية، أو غير رسمية. وكان ذلك ضرورياً للغاية، بالنظر إلى كثافة الإعلام المضادّ للأفكار الجديدة، والأطروحات البديلة، والإجراءات المتّخذة" وبالنظر إلى تشويه وتحريف ما كنت أسعى إلى توضيحه في أندية إعلامية مختلفة. وقد بلغت الحملات المضادّة لعملي أعلى درجات العنف الكلامي" واتّخذت، في معظم الأحيان، طابع التهجّم أو التجريح الشخصي، منذ اليوم الأول لتعييني وزيراً للمال، وخلال جلسة مناقشة البيان الوزاري لحكومة الدكتور سليم الحص، وخلال جلسات مناقشة الموازنة عام 1999، وعام 2000، وحتى آخر يوم من وجودي في وزارة المال. قبلت المسؤولية الوزارية من دون المزيد من التفكير، ومن دون وضع الشروط، لأن التفكير الزائد يحول دون اتّخاذ القرار. وكان شعوري بأن خطاب القسم هو الإطار العام الصالح للعمل الحكومي. وقد بدأت البرقيات تنهال علي وعلى عائلتي في باريس" وكلها تدلّ على الأمل الكبير الذي أثاره خطاب القسم، وتشكيل وزارتنا، في نفوس اللبنانيين المقيمين في لبنان، والمغتربين. وشعرتُ بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على أكتافنا. "فالفشل ممنوع"" وهذا ما كان قد صرّح به فخامة الرئيس في أول جلسة لمجلس الوزراء. لكن سرعان ما أدركت بأنني جنرال ليس بحوزته سلاح، وأمامه معارك ضارية. وعندما كان بعضُ الأصدقاء المقرّبين يرونني قلقاً غير مرتاح، ولاسيّما حيال ما كنت أتعرّض له من انتقادات إعلامية، أو حيال صعوبة إيجاد الملفّات العائدة إلى الموضوعات الحسّاسة في الوزارة، كانوا يرتأون أن أهوّن على نفسي المهمة، ذلك أنني لست أنا المسؤول عن تراكم هذا الدَّين العملاق" وبالتالي، يجب ألاّ أنحي باللائمة على نفسي، وأحمّلها أكثر من طاقتها. وإذا حصل الانهيار المالي، فلن أكون المسؤول الحقيقي عنه. وكنت أجيب قائلاً: لو صحّ أنني لست المسؤول عن تراكم الديون، فإنني أصبحت مسؤولاً، تجاه الرأي العام، عن إيجاد الحلّ وعن منع الانهيار، وعليّ أن أعالج قضية الدَّين العام، بالإضافة إلى ألف قضية أقل أهمّية، لكنّها تحتاج إلى حلّ، في ظلّ أجهزة وزارة ضعيفة، وليست بمستوى التحدّيات التي تواجه الحكومة" فأنظمتها لم تتبدل منذ إصلاح قوانين المالية العامة والقوانين الضريبية الذي جرى في عهد الجنرال فؤاد شهاب 1958-1964. وإضافة إلى ذلك، كان وضع الوزارة، من ناحية المساحات المتوافّرة، وضعاً مأساوياً، ولا سيّما بعد أن أجهز حريق شبّ في المبنى، في آب 1998، على الطابق الرابع وأجزاء من الطابق السابع. ولم تكن هناك المكاتب الكافية للموظّفين والمستشارين" ولم يكن في ديوان الوزير أي ملفّ أو أيّ تجهيزات، مثل الكومبيوتر، أو خطوط الهاتف الدولية، أو شاشات وكالات الأنباء الاقتصادية والمالية الدولية، لمتابعة ما يحصل في الأسواق الدولية، أو في سوق بيروت. ولم يكن لدى الوزارة سيارة واحدة لاستقبال الضيوف. كما استقال بعد أيام معدودة السيد باسل فليحان، الوزير الحالي للاقتصاد، وكان، حينئذ، رئيس وحدة الدراسات الاقتصادية في الوزارة، وهي وحدة تموّلها الأممالمتحدة" ولم أتمكن من إقناعه بالبقاء في الوزارة. غير أن بعض الأجهزة الإعلامية، وبعض أركان المعارضة، ادّعوا أنني طلبت منه ترك الوزارة. وخضت من منصبي الوزاري معركة شرسة في موضوع الهاتف الخلوي، لإثبات الفوائد الكثيرة للعروض الأخيرة المقدّمة. وشكّلت لجنة من الاختصاصيين في الشأن المالي، لاحتساب إيجابيات العروض من الناحية المالية، آخذاً بالاعتبار التوفير الكبير الذي سيحصل في خدمة الدَّين العام. كما أشرت، مراراً، إلى ضرورة الافادة من الفورة العالمية حول أسعار الرُخَص، وضرورة الإسراع بإقامة نظام الرخصة، لكي تقوم الشركتان باستثمارات جديدة، تجعل من لبنان مركزاً إقليمياً للاتصالات اللاسلكية" وتطرحان أسهمهما على البورصة لإنعاشها. غير أنني وجدت نفسي وحيداً في هذه المعركة" واستُبعدت من الاجتماعات الرئيسية التي كانت تجري بوجود رئيس الوزارة ووزير الداخلية ووزير المواصلات، ووجود خبراء مختلفين، من دون وجودي، أو وجود أي خبير من وزارة المال. وكان واضحاً، منذ البداية، أن هناك اتجاهاً راجحاً نحو الدخول في إجراءات قانونية ضد الشركتين، على غرار ما يجري في قضايا أخرى. وكان يتزعَّم ذلك الاتجاه نائب رئيس الوزارة في شكل متواصل، وذلك بدلاً من الاتّفاق مع الشركتين، وتأمين انطلاقة استثمارية جديدة مفيدة لاقتصاد البلاد. وعبثاً، وضعتُ مذكرات متعدّدة، بعد أن قدّمت الشركتان عرضاً مغرياً لوزير المواصلات، أشرت فيها إلى ضرورة الاتفاق، للحفاظ على صدقية الدولة الاقتصادية والمالية، وإلى المخاطر التي لا مناص من التعرّض لها، في حال المضي في إجراءات قانونية ضد الشركتين" ومنها: قيام وكالات التصنيف المالية Rating Agencies بتخفيض علامة لبنان الائتمانية في أسواق المال الدولية" استغلال المعارضة لهذا التطوّر السلبي الحتمي" الإخلال بخطة الإصلاح المالي" زيادة عجز الخزينة، وعدم وقف زيادة الدَّين العام، لا سيما وأن الخزينة تتحمّل أوجه إنفاق إضافية عديدة، في مجال تكملة برنامج عودة المهجرين، ودفع متأخّرات الدولة تجاه البلديات، وزيادة أسعار الفيول أويل التي تتحمّلها الدولة نيابة عن مؤسسة كهرباء لبنان الواقعة في عجز مالي متفاقم. وحقيقة الأمر أن مناخاً سيّئاً للغاية قد ساد قضية الخلوي: تمثّل، من جهة، بمزايدات مجلس النواب، وأخصّ النائب كسارجيان، على وزير المواصلات" ومن جهة ثانية، بتأخّر الشركتين في تقديم عرض جدّي يأخذ بالاعتبار الأرباح الكبيرة المحقّقة من وراء عقديهما، والطلب المتزايد والمتواصل على خدمات الهاتف الخلوي الذي لم يكن ليتوقّعه أحدٌ بهذا الحجم" ومن جهة ثالثة، بآراء نائب رئيس الوزارة الذي عبّر مراراً عن رغبته في أن تستردّ الوزارة، في مرحلة أولى، رخص الBOT الممنوحة للشركتين العاملتين في تقديم خدمات الهاتف الخلوي" ومن ثَمَّ، القيام بتخصيص جزئي لهيئة إدارة الهاتف. وكان يرى أن مثل هذا الإجراء سيدرّ، على الخزينة، مقداراً أكبر من الأموال جرّاء عملية تحويل الBOT إلى رخصة طويلة الأمد. أما أنا، فكنت أؤكّد أن مثل هذا الإجراء سيكون له أثر سيّىء للغاية على القطاع الخاص، وعلى مكانة لبنان لدى الأوساط الاستثمارية الدولية" وأن النتائج المالية، لمثل هذه العملية الغريبة التأميم، أولاً، ثم إعادة التخصيص، ليست مضمونة على الإطلاق، في حين أن من شأن الاتّفاق، الذي يفضي إلى تسلّم الخزينة ملياري دولار نقداً خلال شهرين أو ثلاثة أشهر، أن يؤدّي حتماً إلى انفراج مالي واقتصادي كبير في البلاد. أما ضياع مثل هذه الفرصة، بعد أن تمكّن وزير المواصلات الحصول على هذا العرض الجيّد، فلا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال، بالنظر إلى وضع الخزينة المعروف. وكانت اللجنة، التي كلّفتها النظر في ميزات العرض المالية، قد قدّرت التوفير في خدمة الدَّين العام، جرّاء قبض المبلغ المذكور، بمبلغ 4,11 مليار دولار على مدّة الرخصة، أي عشرين سنة. لكن المنطق الماليّ الصارم لم يكن سيّد الموقف، كما ذكرت. وكان بعض الخبراء يبالغون في تقديراتهم حول إمكان تأمين مداخيل أعلى من قطاع الاتصالات اللاسلكية، من طريق بيع رخص لاستغلال نظام الجيل الثالث من الاتصالات اللاسلكية المسمّى UMTS فلا يعود هناك من داعٍ للاهتمام بتطوير الجيل الثاني، أي الخلوي. وكان ما يحصل من صرعات في بعض الدول الأوروبية، ولا سيّما ما شهدته إنكلترا في حزيران عام 2000 من بيع بأسعار غير واقعية، لرخص نظام الUMTS، جرى من طريق المزاد العلني، قد بدا وكأنّه يعزّز وجهة نظر القائلين بالقفز فوق تطوير الجيل الثاني الGSM، للاهتمام بتطوير الجيل الثالث الUMTS. وعبثاً لفتُّ الانتباه إلى أن ما حصل من تلزيم لرخص الUMTS في بريطانيا بمثل تلك الأسعار، إنما هو مجرّد فورة خطيرة ستؤثر سلباً على القطاع في أوروبا" وأن هذا النظام لا يمكن أن ينجح في لبنان، لما يحتاج إليه من بنية وبيئة صناعية متطوّرة ليستا متوافّرتين لدينا. كذلك وضعت تقارير عدة توضح هذه الأمور" لكنني أدركت أنني وحيد في هذه المعركة، على رغم بعض المحاولات الظرفية التي أجراها بعض الوزراء للوقوف ضد رأي كلّ من نائب رئيس الوزراء، ووزير المواصلات. وحُسم الموضوع، في مجلس الوزراء، بالمضي في الخلاف مع شركتَيْ الخلوي، بدلاً من التوقيع على الاتّفاق المقترح القاضي بدفع ملياري دولار نقداً، و800 مليون على مدى عشرين سنة، وبتلزيم وزارة المواصلات رخصاً من الجيل الثالث الUMTS" فأحيل مشروع قانون بهذا المعنى إلى المجلس النيابي، يبدو أنه سُحب، في ما بعد. ومن جرّاء تلك الوقائع، لم أندهش عندما سألني أحد الصحافيين عن صحّة الشائعات التي تفيد أن مكتبي في باريس قد تعاقد مع شركتي الخلوي في لبنان لتأييد موقفهما. ولم يعلم الصحافي أنني قمت باقفال مكتبي في باريس، فور تعييني وزيراً للمالية، لأمنع مثل هذه الشائعات البشعة من جهة، ولأركّز كل انتباهي وجهودي على أداء مسؤولياتي الجسام في لبنان. بيد أن تلك الحادثة تدلّ على المناخ المتشنّج، غير السليم، المسيطر على هذه القضية. كما أنها تدلّ على أن لا أحد في لبنان يمكن أن يتصوّر أن يقوم وزير بتأييد اقتراح قدّمته شركة خاصة، من دون أن تكون له فيه مصلحة مادية، مباشرة أو غير مباشرة! لقد خسر لبنان، ولم يربح أحد، من عرقلة الحلّ، وعدم التقيّد بخطة الإصلاح المالي. ولا أزال، إلى اليوم، على قناعة بأن مجرى الأمور كلّها كان يمكن أن يتغيّر، لو تمّ إنجاز الاتّفاق. ولو أن المشروعات الثلاثة الحيوية التي ذكرتها نفّذت في الأوقات المحدّدة لها قبل الانتخابات النيابية، لكانت حكومتنا ظهرت بمظهر الحكومة التي تمكّنت بفضل جرأة رئيس الجمهورية وجرأة الحكومة، في تحقيق اللحمة الكاملة بين الدولة والجيش والمقاومة، ليس فقط من تحرير الجنوب من براثن العدو الإسرائيلي، بل تمكّنت من تأمين أهمّ عوامل تحرير الاقتصاد والنظام المالي من الوضع المأساوي القاتم. ولا يمكن أن أجزم ما إذا ذهبت هذه المشروعات الثلاثة الحيوية ضحية الانقلاب على حكومتنا، كما ذكرت، أم ضحية الضبابية والتشوّه العام السائد في الأمور الاقتصادية والمالية في البلاد، كما وصفته في الفصول السابقة. وفضلاً عن تلك المشروعات الحيوية والمحورية الثلاثة التي تمّ تجميدها، كانت هناك مشروعات أخرى، لا سيما مشروع قانون لمكافحة الربا، كان من شأنه، أيضاً، المساهمة في تخفيض الفوائد. وجُمّدت، أيضاً، مشروعات أخرى عديدة عائدة إلى الوزارات الفنيّة قانون الكهرباء وقانون الاتصالات وقانون الأملاك البحرية، على سبيل المثال، فضلاً عن مشروع قانون يشجّع تكوين الادّخار، عبر الضمان على الحياة. وعلى صعيد الأعمال الأخرى للحكومة، لا بد من الإشارة إلى تحضير مشروع الصندوق الاجتماعي، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، وتبنّي مشروع الضمان الصحي للشيخوخة، الذي تحفّظت عنه، في اللجنة الاقتصادية الوزارية ومجلس الوزراء، تحفّظاً شديداً، لما يحتوي عليه من أعباء مالية جسيمة لا يمكن تحمّلها، ولما كنت أراه من أولويّة في تحقيق مشروع الصندوق الاجتماعي الهادف إلى مساعدة العنصر الشاب في إيجاد فرص العمل. فقضية لبنان الكبرى هي قدرة اقتصاده على إيجاد فرص العمل، لكي تتمكّن كلّ عائلة من تأمين العيش الكريم لكلّ أفرادها، بمن فيهم المسنّون. والتعاضد العائلي قائم في لبنان في شكل جيّد" وينبغي للدولة أن تنفق على إيجاد فرص العمل، وليس على أعباء ما تزال العائلات تتحمّلها. وأخيراً، تجدر الإشارة إلى مشروع إقامة معهد عال جديد لتدريب موظّفي الدولة، بالشراكة مع فرنسا، تمّ تصديقه في المجلس النيابي. وقامت الحكومة، في فترة تولّيها القصيرة، بوضع خطة اقتصادية خمسية، تمّ فيها التركيز، ولأول مرة، على قضية القدرة التنافسية للقطاع الخاص، ومحاور العمل من أجل تعزيز هذه القدرة في المجالات والنشاطات والقطاعات، ليغدو بإمكان الاقتصاد اللبناني، أن ينافس الدول الأخرى. وقام الاستشاريّ المكلّف وضع الخطّة شركة مونيتور Monitor، بإجراء جردة لكلّ المشروعات الاستثمارية الموجودة لدى مجلس الإعمار، مع بعض الملاحظات حول الأولويّات والأكلاف. واقترح جدولتها الزمنية، بحيث تنفق الدولة أكثر من 5 مليارات دولار في هذه المشروعات خلال السنوات الخمس القادمة، وذلك من دون النظر إلى وضع المالية العامة والمقيّدات الناتجة عن وضع المديونية والفوائد العالية. وقد أبديت تحفّظي عن هذا المستوى من الإنفاق، خصوصاً في مجال الطرق، على حساب القطاعات الاجتماعية. وقام نائب رئيس الوزارة، في آخر لحظة، بانتقاد الخطّة، وبطلب زيادة 600 مليون دولار، للمزيد من الإنفاق على الطرقات. كما وضعت الحكومة خطّة لإنماء المناطق المحرّرة في الجنوب، قُدّمت إلى مؤتمر الدول المانحة، تبلغ كلفتها ما يقارب مليار ونصف مليار دولار، من دون الأخذ في الاعتبار تعويضات المهجّرين التي قدّرت، بدورها، بمبلغ 4,1 مليار دولار، وصدّق عليها المجلس النيابي السابق، في آخر جلساته قبل الانتخابات، وذلك خلال دقائق معدودة. بعد غد الاثنين حلقة ثانية اخيرة