قوّم وزير المال اللبناني الدكتور جورج قرم في حديث الى "الحياة" تجربته في الحقلين السياسي والاقتصادي العام في العامين الماضيين، وعرض ما حققته الوزارة من خطط مالية إصلاحية وأطر تشريعية أبرزها مشروع قانون الضريبة على القيمة المضافة. واعتبر هذه الإنجازت جيدة قياساً الى المدة التي تولّت فيها حكومة الرئيس سليم الحص المسؤولية. وربط تزامن التحضيرات للانتخابات النيابية بعد مرور وقت وجيز على تشكيل الحكومة بوقف عملية الإصلاح الإداري متسائلاً عن أسباب "عدم تطبيق الإجراءات الخاصة بهذا الإصلاح على امتداد الاعوام العشرة الماضية، على رغم ما أُنفق من مبالغ في وزارة الإصلاح". وحمَّل مسؤولية تشويه صورة الوضع المالي في لبنان ل"الحملات الإعلامية" التي كانت تهدف الى إعادة السيناريو نفسه الذي حصل عام 1992 إطاحة حكومة الرئيس عمر كرامي ليأتي المنقذ مجدداً. ولم ينكر قرم "وجود أزمة اجتماعية كبيرة" لكن الاقتصاد اللبناني سجل مؤشرات ايجابية منها "القضاء على التضخم وخفض الفائدة وانقلاب ميزان المدفوعات إيجاباً بعد عجز كبير". ونفى أن "تكون الحكومة اعتمدت سياسة التقشف" مشيراً الى "ضخ نحو 2000 بليون ليرة لبنانية في الأسواق فضلاً عن استقطاب استثمارات خارجية بقيمة 500 مليون دولار". وفي ما يأتي نص الحديث: لماذا أوقفت الحكومة عملية الإصلاح الإداري؟ وهل كانت العوامل السياسية، أي تقاسم الحصص، الحائل دون استكمال هذه الخطوة؟ - يتصور الناس أن عملية الإصلاح الإداري تُختصر إما بتغيير القيادات الإدارية وإما بخفض عدد الموظفين في شكل عشوائي. فيما المقاربة الصحيحة لهذه العملية تتمثّل بتصوّر متكامل لتحديث البنية الإدارية. وعندما يأتي عهد جديد لا يواكبه فريق من الخبراء أو حزب سياسي قوي يدعم مشروعه الإصلاحي في المجلس النيابي، لا يمكن أن ننتظر نتائج كبيرة في شكل سريع وخصوصاً في مدة سنتين. لكن هناك إيجابيات في الخطوات التي تحققت، تتمثَّل الأولى بتعيين قيادات شابة تتمتع بمستوى علمي رفيع وبوضع قانون جديد لتدريب الكوادر العليا مع إنشاء معهد خاص بالاتفاق مع المدرسة الفرنسية ENA. وسيباشر بهذه الدورات قبل نهاية السنة. أما بالنسبة الى الفائض في أعداد الموظفين، فيتمثَّل في المتعاملين مع الإدارات وليس في أولئك الذين في الملاك، إذ تفتقر الإدارة اللبنانية الى الكثير من الموظفين الذين لهم سلطة التوقيع على المعاملات. فيما المتعاملون يعملون بأوضاع قانونية مختلفة وشاذة في معظم الأحيان نتيجة دخولهم الإدارة بضغط من الميليشيات خلال الحرب أو النقص في اعداد موظفي الملاك. ويتطلب تصحيح هذا الوضع الشاذ الوفاق السياسي وإعادة النظر في الملاكات لتوسيع بعضها وتقليص بعضها الآخر، فضلاً عن تحديث القوانين وتبسيط المعاملات. والمستغرب أن هذه الإجراءات لم تطبق منذ عشرة أعوام وعلى رغم ما أُنفق من مبالغ في وزارة الإصلاح الإداري. وبالتالي لم يكن عمل هذه الحكومة وافياً نظراً الى انتهاء ولاية المجلس النيابي في أقل من سنتين من تاريخ تعيين الحكومة، التي لم تنَلْ سلطات تشريعية استثنائية لإجراء عملية إصلاح جذرية وسريعة، إضافة الى كون هذه الحكومة انتقالية نظراً الى عودة بعض الوزراء المهمّين في الحكومات السابقة. ولا يخفى أن كثيرين من الوزراء السياسيين في الحكومة السابقة كانوا مرشحين الى الانتخابات النيابية، وكان من الصعب الطلب منهم اتخاذ الإجراءات الجذرية بصرف موظفين من وزاراتهم. فالجو الانتخابي بدأ تقريباً مع مجيء الحكومة، ويجب ألاّ ننسى أن نظامنا ديموقراطي وأن المجلس النيابي هو المكان الذي تُجرى فيه المحاصصة كأي مجلس في أي بلد في العالم. اما كلام الاقتصاديين من خارج الإدارة على إخراج 30 ألف موظف، فأعتبره نظرياً. والعملية تحتاج الى أموال لدفع التعويضات. من هنا، فإن تقليص حجم النفقات على رواتب القطاع العام لن يظهر فوراً. وأرى أن هؤلاء الاقتصاديين يتأثرون بتجربة بعض الدول الديكتاتورية مثل تشيلي من دون النظر الى ما تنتجه عملية كهذه من بطالة وتكاليف اجتماعية باهظة. الخطة الخمسية أعدت حكومتكم خطة مالية خمسية وبرنامج إصلاح مالي لم ينفذ منهما أي بند، خصوصاً أن نسب العجز ارتفعت الى سقوف تفوق توقعاتكم، بحسب ما يشير مصرف لبنان واقتصاديون؟ - طبّقنا خطة الإصلاح المالي بحذافيرها عام 1999، وكانت النتائج المالية أفضل من التقديرات. إذ سجّل عجز الموازنة رقماً أقل من التوقعات. ولكن ما يحصل هو جزء من اللعبة السياسية في البلد فكان نواب المعارضة يتهجّمون على وزير المال وكذلك صحافة المعارضة. وكنا كل مرة نصدر بيانات بوجوب انتظار نهاية السنة نظراً الى توافر عوامل أخرى ستنعكس إيجاباً على نسبة العجز. وهكذا حصل، فقد سجلت نسبة العجز في الموازنة في العام الماضي 38 في المئة بدلاً من 40 ونسبة العجز الكلي 3،42 في المئة بدلاً من 44 بفعل تفعيل الجباية والسياسة الضريبية التي اعتمدناها بإزالة الغرامات وطبقنا الخطة بتعديل معدلات الضريبة على الدخل فضلاً عن إنجاز قانون الضريبة على القيمة المضافة وإحالته على المجلس النيابي في أيار مايو وكذلك إنجاز قانون التخصيص. واستغرب أيضاً أن وكالات التصنيف الدولية لا تزال تقول إن كل هذه البنود لم تطبّق، وتبني تصنيفها على هذا الأساس. فهذا أمر غير صحيح. أما بالنسبة الى العجز في الموازنة هذه السنة، فقد حصل انحراف لكنه بدأ بالتصحيح في نهاية آب كما كنت توقعت. وأظهرت النتائج أن العجز الكلي بلغ 36 في المئة في آب، ويتوقع أن يبلغ 33 في المئة في أيلول سبتمبر. ويعود هذا الانحراف الى قرار المجلس النيابي توسيع نطاق الإعفاء من الغرامات، تزامناً مع الانتخابات النيابية، فضلاً عن إلغائه نصوصاً في مشروع قانون الموازنة كانت ستؤمّن بعض الإيرادات. الى ذلك، تأخّر مشروع التسوية الضريبية في مجلس الوزراء لأسباب أجهلها فأحيل على المجلس النيابي عند اقفال دورته إضافة الى تأخير قانون الأملاك البحرية وإحالته على المجلس في حزيران. إذاً، ما توقعته الوزارة من تحسّن حصل من جانبه مع بعض التأخير المذكور، ولسوء الحظ لا نزال نسمع مَنْ يقول إن نسب العجز مرتفعة. أما العجز في عمليات الخزينة فمرده الى متغيرات لم تكن متوقعة تتمثل بازدياد أسعار النفط بمعدل ثلاثة أضعاف، ما دفع بالحكومة الى رفع حجم الدعم المالي لمؤسسة كهرباء لبنان منعاً لزيادة التعرفة التي تعتبر مرتفعة، بفعل خطط الحكومة السابقة. فبلغ اجمالي ما دفعناه 370 بليون ليرة لبنانية 250 مليون دولار فضلاً عن المتأخرات عن العهد السابق التي دفعتها الوزارة للبلديات وقيمتها 200 بليون ليرة 130 مليون دولار بفعل الضغوط التي مارستها وزارة الداخلية، بغض النظر عن وضع الخزينة، لاقتراب موعد الانتخابات النيابية. وكنت في مجلس الوزراء أحذِّر من استمرار هذا الاتجاه وانعكاسه سلباً على وضع لبنانالمالي. لكن وزير المال في لبنان على خلاف نظرائه في دول أخرى لا يملك حق نقض القرارات المالية التي يتخذها المجلس. وعلى الوزير المقبل أن يطالب بهذا الحق. إلى أي مدى التزمت وزارة المال مبدأ الشفافية؟ - عملنا بشفافية مطلقة، وحرصنا دائماً على إصدار بيانات تفصيلية وواضحة عن تطور المالية العامة ولسوء الحظ، فإن جو المبالغات الإعلامية الذي انطلق مع تعيين الحكومة انعكس سلباً على الأوساط الدولية ما أدى بمؤسسات التصنيف الدولية الى إعادة النظر في الوضع الائتماني للبنان. الحملات الإعلامية كيف تفسرون موقفكم من "حملات إعلامية" اتهمتها بالوقوف وراء تشويه صورة المالية العامة؟ - نُظمت هذه الحملات الإعلامية منذ اليوم الأول لتشكيل الحكومة، وارتكزت في بعض الأحيان على تحليلات لمصادر مصرفية واقتصادية محلية وجدت فجأة أن معدلات النمو أصبحت سلبية. وكانت الوزارة تطلب من هذه المصادر اعلان الأسس التي اعتمدتها لإصدار مثل هذه المعدّلات في ظل غياب المحاسبة الوطنية. فالعملية مجرد اجتهاد مبني على اختيار عشوائي لبعض المؤشرات الاقتصادية مع تثقيلها. كانت الغاية الوحيدة من هذه الحملات الإعلامية تشويه صورة الحكومة بهدف إعادة السيناريو نفسه الذي حصل في بداية التسعينات وفي شكل خاص عام 1992، ليأتي المنقذ مجدداً. واقتنع الناس ان الوضع الاقتصادي على حافة الانهيار. نحن لا ننكر وجود أزمة اجتماعية كبيرة وجذورها في انهيار الليرة عام 1992. ولكن استطعنا المحافظة على القدرة الشرائية ولو المتدنية لدى الفئات الشعبية. وقضينا على التضخم، وخفضنا معدلات الفائدة نقطتين فضلاً عن انقلاب ميزان المدفوعات إيجاباً ليسجل فائضاً قيمته 300 مليون دولار بعدما كان يسجل عجزاً قيمته 500 مليون دولار، ما يشير الى تدفق الاستثمارات. وأحصينا أيضاً دخول 81 شركة دولية الى السوق اللبنانية. أما ما يقال عن استفحال البطالة، فتنفيه ارقام المسجلين الجدد في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إذ بلغ عددهم العام الماضي 7،36 ألف في مقابل 31 ألفاً عام 1998، و8،26 ألف عام 1997. أما الأزمة في القطاع العقاري، فاستمرت مؤشراتها سلبية نظراً الى ضخامتها، ويعزى سببها الى العهد الماضي الذي وجه معظم الاستثمارات الخاصة الى هذا القطاع، ما أدى الى تجميد نصف الدخل الوطني فيه البالغ 16 بليون دولار. وعلى رغم الحوافز الضريبية التي وفرناها، علماً أنني لم أكن مقتنعاً بجدواها، لم تعط النتائج الإيجابية وخسرنا نتيجة هذه الحوافز بعض الإيرادات الضريبية. ونجحنا أيضاً في تقليص كلفة الاستقرار النقدي الذي كان مسؤولاً عن الزيادة الكبيرة في حجم الدين العام، فأبطلنا مفعولها بفصل السياسة النقدية عن تأثيرات التجاذبات السياسية المحلية والإقليمية. أما ما نتهم به بالتقشف، فهو لم يحصل، بل ضخينا في التداول 1000 بليون ليرة عام 1999، والمبلغ نفسه في الأشهر السبعة الأولى من هذه السنة. ما هي العوائق التي حالت دون استعمال بعض القروض؟ - المعروف أن المشكلة تكمن في الإدارات المعنية بإنفاق هذه المبالغ، وقد تذرّعت دائماً عند سؤالنا عن عدم صرف هذه الاعتمادات بأسباب إدارية وتقنية وتالياً تجاذب الصلاحيات بين بعضها. التخصيص دعوتم الى الإسراع في تطبيق التخصيص على بعض المرافق، منها الاتصالات التي لا يزال ملف الهاتف الخلوي فيها عالقاً بين الوزارة والشركتين، فيما الكهرباء تعاني خللاً في ميزان وارداتها ونقصاً في الجباية، وكذلك شركة "ميدل ايست". كيف يمكن تخصيص هذه المرافق وهي فاقدة قيمتها؟ - في ملف الهاتف الخلوي، لم أنجح، على رغم إصراري المستمر في مجلس الوزراء على ضرورة تحويل نظام "بي أو تي" رخصة وتقاضي مبلغ البليوني دولار، في إتمام هذه العملية. مع العلم أن هذا المشروع مدرج في خطة الإصلاح المالي للسنة 2000 ويشكل جزءاً أساسياً منها. وحصلت مزايدات حيال الشركتين، خصوصاً ان بعض الوزراء اعتقد أن محاسبتهما ممكنة أمام المحاكم، وستدر أموالاً اهم من المبلغ الذي كان معروضاً، هذا مع الإشارة الى أن الشركتين مسؤولتان ايضاً عما حصل لأنهما تأخرتا في تقديم عرض جدير بالدراسة، ولم يتم ذلك إلا بعد اصدار أوامر التحصيل البالغة 600 مليون دولار، ما أسهم في حلقة المزايدات. والذين دخلوا في هذه الحلقة لا يملكون الخبرة في الاستثمار الدولي ويعيشون بذهنية الدولة التي يجب أن تحمل السوط في وجه شركات القطاع الخاص من دون أي ضمان لنتائج التحكيم لمصلحة الدولة، ولسوء الحظ اتُهم الوزراء الذين يملكون هذه الخبرة بأنهم نظريون وتكنوقراط. أما مؤسسة كهرباء لبنان، فيمكن تحسين وضعها المالي وأداءها الإداري بالاستعانة بشركة دولية لمدة سنتين، من طريق عقد صيانة وإدارة تعمل على القضاء على الخسارة التي تتكبدها بتعهد الحكومة إلزام المتخلفين عن الدفع تسديد متوجباتهم. ويمكن هذه الشركة بعد تحسين هذا الخلل أن تدخل شريكاً استراتيجياً بامتلاكها أسهماً فيها وإدراج اسهمها في سوق البورصة. وفي ما يتعلق بشركة طيران الشرق الأوسط ميدل ايست، عقدنا اتفاقاً مع مؤسسة التمويل الدولية يقضي بمساعدتنا على التفرغ عن الأسهم، ليس بهدف الإتيان بشركة تبتلع "ميدل ايست"، إذ يمكن تحسين وضعها بتعزيز الإمكانات والكفايات الموجودة فيها بإعادة تأهيل الموظفين وتوزيع الفائض منهم على قطاعات أخرى محدثة، إضافة الى إمكان إعادة توسيع الخطوط بعدما تحوّلت شركة قزمة بفعل تقليصها. ويمكن أيضاً إصدار أسهم في بورصة بيروت. وبعد تطبيق كل هذه الإجراءات، يستطيع المستثمرون الأجانب أن يشتروا أسهماً فيها. أتيت بمؤسسة التمويل الدولية بهدف حماية الشركة وعدم ابتلاعها. الاستثمار ماذا فعلت الحكومة لتفعيل مناخ الاستثمار؟ - زاد حجم الاستثمارات العامة عام 1999 كما يدل على ذلك تحول ميزان المدفوعات من وضع سلبي عام 1998 الى وضع ايجابي عام 1999، فضلاً عن اننا دفعنا المتأخرات للقطاع الخاص منعاً لاستفحال الركود، وسددنا نسبة 80 في المئة منها. وهي تقدّر بمئات البلايين من الليرات، وهي متوجبة على الدولة منذ سنوات. وفي عهد حكومتنا، كانت تطلق الصرخات لدى حصول اي تأخير اعتيادي، في دفع المتوجبات الجديدة، فضلاً عما حققته مؤسسة ايدال بعد إنشاء خدمة الشباك الواحد الذي أسهم في استقطاب مشاريع قيمتها 500 مليون دولار. العودة كيف كانت تجربتكم في وزارة المال؟ وهل تعود إليها؟ - كانت تجربة صعبة وغنية. وما جعلني استمر هو تأييد رئيسي الجمهورية إميل لحود وحكومة سليم الحص والناس، على رغم الحملات الإعلامية المعادية. فالمعركة الإعلامية لم تكن متكافئة في ظل وجود مؤسسات رسمية ضعيفة. ولست ميالاً الى العودة. قمنا بعمل جيد خلال سنتين ولا عذر لوزير المال المقبل الاّ ينطلق في سرعة لأن معظم القوانين جاهزة للتطبيق. وأؤكد أن لا سحر في الاقتصاد، والزيادة في الإنفاق لن تحلّ المشكلة التي تسببها مشاكل بنيوية. ونحن نتأثر أيضاً بالاقتصادات في الدول المجاورة التي تعاني أيضاً مشكلات، ونحن بألف خير بالمقارنة مع شعوب اخرى.