هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    خفض البطالة.. استراتيجيات ومبادرات    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    السعوديات.. شراكة مجتمعية    «قمة الكويت».. الوحدة والنهضة    مملكة العطاء تكافح الفقر عالمياً    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    العروبة يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    قيمة الهلال السوقية ضعف قيمة الأندية العربية المشاركة في المونديال    المغرد الهلالي محمد العبدالله: لا مكان لنيمار والمترو الأفضل وحلمي رئاسة «الزعيم»    هيئة الترفيه وأحداثها الرياضية.. والقوة الناعمة    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    نائب وزير الموارد البشرية يزور فرع الوزارة والغرفة التجارية بالمدينه المنورة    عريس الجخّ    لولو تعزز حضورها في السعودية وتفتتح هايبرماركت جديداً في الفاخرية بالدمام    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    الاستدامة المالية    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    وزير الحرس الوطني يرعى ملتقى قادة التحول بوزارة الحرس الوطني    بالله نحسدك على ايش؟!    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    كابوس نيشيمورا !    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    الرياض يزيد معاناة الفتح في دوري روشن    مفتي عام المملكة ونائبه يستقبلان مدير فرع الرئاسة بمنطقة جازان    تكلفة علاج السرطان بالإشعاع في المملكة تصل ل 600 مليون ريال سنويًا    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    طلاب مدارس مكتب التعليم ببيش يؤدون صلاة الاستسقاء في خشوع وسط معلميهم    أمير تبوك يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية التوحد بالمنطقة    برنامج مفتوح لضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة "بتلفريك الهدا"    أمير تبوك يوجه بتوزيع معونة الشتاء في القرى والهجر والمحافظات    محافظ الطوال يؤدي صلاة الاستسقاء بجامع الوزارة بالمحافظة    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    الدكتور عبدالله الوصالي يكشف سر فوزه ب قرص الدواء    بالتضرع والإيمان: المسلمون يؤدون صلاة الاستسقاء طلبًا للغيث والرحمة بالمسجد النبوي    «مساندة الطفل» ل «عكاظ»: الإناث الأعلى في «التنمر اللفظي» ب 26 %    1500 طائرة تزيّن سماء الرياض بلوحات مضيئة    وزير الصحة الصومالي: جلسات مؤتمر التوائم مبهرة    الشائعات ضد المملكة    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"بحثاً عن إله ووطن" كتاب نيل سلبرمن . الحجر المؤابي : لغز أثري فلسطيني - أوروبي في أواخر القرن التاسع عشر
نشر في الحياة يوم 18 - 07 - 2001

} يثير كتاب "بحثاً عن إله ووطن" قضيتين منفصلتين، الأولى أثارها ناشر الكتاب زياد منى، والثانية أثارها مؤلف الكتاب نيل سلبرمن، ولنا عليهما بعض الاعتراضات. ولأسباب تخصنا، أحدها الطرافة، سنبدأ بالقضية الثانية والتي تعرض اليها مؤلف الكتاب في الفصل المعنون "مليون جنيه استرليني: قصة صعود مُزس شابيرا وسقوطه".
في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، ازدهرت تجارة السياحة، مع تدفق السياح الغربيين الأثرياء الى فلسطين، وأصبح لتجارة الآثار القديمة وصور المواقع المقدسة والأواني الفخارية والقطع النقدية والتماثيل، مشترون أثرياء، مما وفر لهم في مدينة القدس متاجر تلبي رغباتهم. كان مزس فيلهلم شابيرا، واحداً من أصحاب المتاجر الواقعة على جانبي شارع النصارى في مدينة القدس.
قدِمَ شابيرا الى فلسطين في العام 1856 من مسقط رأسه في كييف. وكان في السادسة والعشرين من عمره، متزوجاً من شماسة لوثرية المانية، ومتميزاً عن غيره من التجار، إذ كان يهودياً، اعتنق المذهب الانغليكاني وأصبح من أبناء الكنيسة الانكليزية. ولهذا احتقره يهود القدس بوصفه مرتداً. خلال فترة وجيزة، استطاع ان يحقق لنفسه شهرة بين أوساط الجالية الأوروبية في القدس، ساهمت في زيادة زبائنه، واعتبر نفسه واحداً من أهل الخبرة في الآثار القديمة. كانت شبكة علاقاته الفلاحية الواسعة تزوده مؤونة ثابتة من الآثار ومن أفضل النوعيات.
تبدأ قصتنا عام 1873 حينما جلب أحد مزودي شابيرا الآثار، ويدعى سليم الغاري، مجموعة اشتملت على عشرات الأواني الفخارية والتماثيل النصفية وتماثيل الحيوانات، كان الكثير منها منقوشاً عليه بأحرف قديمة تتطابق مع نظيراتها التي وجدت على الحجر المؤابي. كانت قضية اكتشاف الحجر المؤابي قبل سنوات قليلة 1768 - 1870م لعبت دوراً عاصفاً، وكانت محل نزاع وتنافس وسباق بين الفرنسيين والانكليز والبروسيين، وأسرت خيال جمهور أوروبا وبلاطاتها، وخرج منها البروسيون خاسرين. فما كان من شابيرا الا ان طرح على القنصل الالماني فكرة حصوله على البضاعة المشتبه بأصولها المؤابية لمصلحة المتحف الملكي، وكما توقع تماماً انقض البروسيون على الفرصة لغسل العار الذي لحق بهم في قضية الحجر المؤابي. وبسرعة أحدثت الأواني التي شحنت الى برلين ضجة في القدس والعالم البحثي، وجرى التهليل لها على ان الصور القديمة المنقوشة عليها شبيهة بآلهة المؤابيين. استمر تدفق الآثار من موقعها في شرق الأردن الى دكان شابيرا، مع تأكيدات القنصل الألماني والقس فزر من الإرسالية اللوثرية أنها لقى أصيلة. لكن بعد أشهر قليلة ظهر على الساحة المنقب الفرنسي شارل كليرمون - غانو، والذي كان واحداً من أبطال قضية الحجر المؤابي. وبطبيعة الحال اعتبر نفسه خبيراً بالموضوع. لدى معاينتها، لم يخف انها مزورة وليست أكثر من خدعة. وتمكن خلال بضعة أيام من الحصول على اعتراف صانع أحد الخزافين الذين شاركوا في الخديعة، ما ساعد كليرمون على اثبات ان الأواني صنعت في القدس تحت اشراف سليم الغاري. لكن الغاري دافع عن شرفه وامانته دفاعاً مستميتاً، وعندما فتشوا منزله لم يجدوا أثراً لتصنيع الأواني الخزفية، بينما قام الصانع بسحب اعترافه ايضاً. وعلى رغم ان القضية دخلت في طريق مسدود، فإن بروسيا تعرضت مرة أخرى للإهانة في سعيها من أجل الفوز بالشرق عبر ابتياع آثار كتابية، كذلك خسارة مبلغ ضخم من التالرات.
في 1877 وكانت قضية الأواني قد نسيت، عثر شابيرا على ما كان يبحث عنه عندما زاره عدد من شيوخ البدو لمجرد المجاملة - بحسب رواية شابيرا المثيرة والمملوءة بالبراءة والمصادفة والحظ، علاوة على الذكاء والمخاتلة - وتطرق الحديث الى موضوع الآثار، فأخبروه ان لديهم رقى تجلب الحظ لمن يملكها، وهي عبارة عن قطع جلدية مسودّة من الرق عليها أحرف غير مقروءة، ملفوفة بقطعة قماش من الكتان، فأحس شابيرا بأهميتها لوجودها في المنطقة المؤابية نفسها. ثم، مع بعض الغموض والقليل جداً من المال، وحت جنح الظلام، تسلم شابيرا قطعة صغيرة من الرق عليها أربعة أعمدة مكتوبة. بعد لقاءات عدة، وبعد ابتياع 15 شريطاً من الرق اللغز، توفي الشيخ البدوي، ففقد شابيرا صلته ببائع الرقائق. عكف شابيرا بعد ذلك على فك رموز المخطوطات الغريبة. كان شكل الأحرف شبيهاً بنظيرتها على الحجر المؤابي. بعد عناء طويل نسخ النص الموجود على الشرائط، فأصيب بالانبهار، لم تكن سوى نسخة قديمة من سفر التثنية تعود الى القرن التاسع قبل الميلاد، ما يعني ان هذه اللقية تعد أقدم المخطوطات الكتابية التي عُثِر عليها حتى ذلك التاريخ. أرسل نسخاً من الشرائط الى البروفيسور شلتمن في برلين، الذي رد بأن الرقائق القديمة مزيفة" كانت بروسيا التي قرصت مرتين، على غير استعداد لتقرص ثالثة من الجحر المؤابي نفسه. سَلمَ شابيرا بالاستنتاج وكف عن الاهتمام بالرقائق، لكنه لم يفقد الأمل نهائياً، فأودع اللفائف في قبو أحد البنوك المقدسية. بعد خمس سنوات، اقتنع بحكم خبرته بأن رقائقه غير مزيفة، ومن عمل طائفة إيلوهية مبكرة، وعلى هذا من المفترض ان يكون سفر التثنية المؤابي، مختلفاً لا متطابقاً، مع النص الكتابي الحديث، وبالتالي فهو أكثر قيمة مما سبق له تصوره. أعاد ترجمتها في شكل أكثر دقة، مضفياً أيضاً شيئاً من المعنى على الفقرات الأكثر غموضاً، وبات مقتنعاً بعد انهاء ترجمته الجديدة بأن اللفافة كانت أصلية.
عرض شابيرا لفائفه وترجمته على البروفيسور شرودر القنصل الالماني في بيروت الذي أقر بأصالتها وعرض مبلغاً كبيراً لشرائها. رفض شابيرا عرضه السخي بلباقة. كان قد بات على اقتناع بأنه ليس تاجر آثار عادياً، وانما باحث متخصص، وأن له ان يعامل بهذه الصفة، وليس بوصفه يهودياً سابقاً مغفلاً راح ضحية بدوي. وانفتحت امامه آفاق عريضة وآمال أعرض، متوقعاً الثروة الطائلة التي سيجنيها من وراء لفائفه. بادر الى شراء قصر حجري كبير وتحرر من هموم متجره بتوظيف مدير له، كذلك فتنت السيدة شرودر زوجة السفير بابنته اليزابيث وطرحت فكرة تزويجها من أحد أفراد عائلة بروسية مرموقة ومثقفة، فأرسلت اليزابيث الى برلين تمهيداً للزواج، ولحقها شابيرا لتقديم وثائقه الى لجنة خبراء، لكن المداولات طالت من دون نتيجة، وبقيت اللفائف قيد الدرس. أخذ شابيرا مخطوطاته الى جامعة لايبزغ فأثارت اهتمام الباحث الشهير هرمن غيته، واستقبل شابيرا بحفاوة. بدا كأن اكتشافه العظيم دخل رسمياً عالم البحث الاكاديمي. في حين انصرف اساتذة برلين الى عطلتهم الصيفية وتركوا شابيرا بلا جواب، عندئذ حزم رقائقه وسافر الى لندن وظهر في مكاتب صندوق استكشاف فلسطين، طالباً ان يطلع عليها النقيب كندر القائد السابق لعملية مسح فلسطين الغربية وأحد أقوى مؤيديه في قضية الأواني الخزفية المؤابية، لكن كندر عبّر عن شكوكه حول صحة الاكتشاف المزعوم، فقد راوده الشك في امكان بقاء مثل هذه اللفائف القديمة على حالها في مناخ رطب كمناخ فلسطين. واعترف كندر بأنه ليس باحثاً متخصصاً في الدراسات العبرية واقترح ان يقوم الدكتور غنسبرغ من المتحف البريطاني بمعاينتها. بعد أيام أعلن في جريدة التايمز عن الحيازة الوشيكة للفافات، التي سرعان ما أصبحت في الصحف "أقدم كتاب مقدس في التاريخ"، وفي غضون أسابيع وصل الاهتمام بها الى ذروته، فقد تدفقت الحشود الى المتحف البريطاني لرؤيتها، وتسربت أخبار عن المليون من الجنيهات التي طلبها شابيرا ثمناً لها، وأصبح شابيرا نجماً ساطعاً في سماء لندن.
على أرض لندن، ظهر شارل كليرمون، غريم شابيرا القديم في الأواني الخزفية، مكلفاً بمهمة من مدير التعليم العالي العام الفرنسي بمعاينة المخطوطات معاينة دقيقة. سمح له المتحف بالمعانية، لكن وقبل ان يبدأ سحبوا موافقتهم بكل جفاء. كليرمون لم يبتلع الإهانة، شق طريقه مع جموع الزائرين وأمضى يومين واقفاً أمام الصندوق الزجاجي المعروضة فيه الشرائط، والدفتر بيده، يكتب ملاحظاته، ثم جمّع استنتاجاته وأرسلها الى التايمز اللندنية على شكل رسالة مفتوحة، خلاصتها: ان القطع الجلدية من صنع مزوِّر حديث. بناء على استنتاج يقول، إنها مقصوصة من الهوامش السفلية للفائف جلدية أكبر" مسجلاً أخطاء عدة ارتكبها شابيرا، وساخراً أيضاً من سذاجة الباحثين البريطانيين وسرعة تصديقهم. فعلت الرسائل فعلها، ذلك ان عدداً من الباحثين سارع الى احتقار لفائف شابيرا، وآخرين قالوا انهم كانوا يعرفون أن المخطوطات ما هي الا تزويرات متعمدة. وجرى من دون امهال تعليق مفاوضات شراء الشرائط بهدوء.
كانت موجة السخرية أكبر من مقدرة غنسبرغ على الدفاع او المقاومة، فنقض تصريحاته السابقة، واستغلتها الصحف للسخرية من التاجر اليهودي المتآمر. اختفى على أثرها شابيرا بعد رسالة كتب فيها أنه لن يتمكن من العيش بعد هذا العار، على رغم عدم اقتناعه أنها مزيفة. اما ابنته اليزابيث فظلت تنتظر مهرها في المانيا، وعادت الى فلسطين بعد الغاء زواجها المحتمل، وغرقت العائلة في القدس في بحر من الديون ومن دون أمل بالنجاة. هام شابيرا على وجهه في أرجاء أوروبا بلا هدف، وكانت آماله تذوي وصحته تتدهور. في ميناء روتردام، أقدم شابيرا الوحيد والبائس على الانتحار في فندق متداع حقير بإطلاق النار على نفسه. أما لفائفه فقد عرضت كنوادر طريفة الى ان غابت عن الأنظار واختفت. لكن في 1947 اكتشفت "لفائف البحر الميت" التي صعقت الأوساط البحثية، ودحضت الزعم ببقاء لفائف قديمة سليمة في فلسطين، وبدا كأن البيانات التي استخدمها ناقدو شابيرا قابلة للتطبيق على "لفائف البحر الميت"، ومع ذلك كانت حقيقية. غير ان أحداً لم يحاول ان يعيد طرح القضية من جديد. نرى في طريقة عرض سلبرمن لقضية شابيرا تعاطفاً معه، إذ تغاضى عن كثير من الثغرات في سبيل انصافه من تهمة التزوير، لكن من خلال تخمينات ضعيفة. ولم يستطع التلميح الى براءته الا بدلائل غير مؤكدة. فمن خلال قصة شابيرا نعرف ان لديه خبرة جيدة في فك رموز المخطوطات. ولم يكن يستقر فترات طويلة في متجره في القدس. كان يسافر على الجمال والخيل والمراكب البخارية الى الأقاليم البعيدة من شبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر، يزور الجاليات اليهودية في اليمن، ويشتري منهم رقائق كتابية مهملة. أتاح له الاتجار بالرقائق القديمة فرصة اكتساب الخبرة في فن تصنيعها، وأخذ في الاعتبار الأشكال المتغيرة للأحرف مع دوران القرون والتغيرات الطارئة على النص، وهذا ما يجعلنا ننفي تهمة التزوير عن البدو لافتقارهم الى خبرة يفتقدونها، وهذا يحيلنا الى قضيته الأولى، قضية الأواني الخزفية، ويجعلنا نشك في أنه هو الذي قام بالتزوير بالمشاركة مع المدعو سليم الغاري. ان خبرته تجعله شريكاً فعلياً أكثر منه مغفلاً مغرراً به. بهذا ينحصر الاتهام أو البراءة بشابيرا فقط. حاول سلبرمن الايحاء ببراءته مع ان الوثائق نفسها لم يعد لها وجود. كذلك لا تبرهن مجرد اشكال اللفائف على فرضياته، ولا تعد التشابهات دليلاً قاطعاً على عدم تزويرها. ونعتقد ان مقارنة مادتها، أي ما هو مكتوب فيها، مع "لفائف البحر الميت" قد يقطع بشيء ما، كما انه من المحتمل وجود نسخ مصورة عنها في مكتبات المتاحف أو في الجرائد، لكن أحداً لم يثر موضوعها لضعف القضية بالكامل. الايحاء ببراءة شابيرا جاء من خلال التشديد على تعرضه للسخرية والتشهير لكونه يهودياً سابقاً. وبذلك يحيل سلبرمن قضية التشكيك بشابيرا واضطهاده الى لا سامية أوروبا التي لا تغفر لليهود كونهم يهوداً سواء كانوا يهوداً حاليين أو سابقين، مع انها لم تلعب سوى دور ضئيل، جاء بعد التشكيك بصحة الرقائق لا قبلها.
أما القضية الثانية فهي تلك التي أثيرت، تحت عنوان "استدراك من الناشر". وللعلم فإن الناشر هو الدكتور زياد منى وهو ليس ناشراً على نمط غالبية ناشري الكتب في عالمنا العربي، وانما هو واحد من أهم الباحثين العرب في التاريخ القديم وصاحب كتاب "جغرافية التوراة". وفي الاستدراك يقول انه "قد واجهتنا في هذا الكتاب المهم مجموعة من المصطلحات والآراء التي نرى انها تتناقض مع أحدث المكتشفات العلمية في حقل تاريخ فلسطين القديم". وقد رغب في وضع ملاحظاته التعليقية داخل النص نفسه وتوضيح ابعادها السياسية والعقيدية، لكنه قيّد رغبته هذه باستمزاج رأي مؤلف الكتاب، انطلاقاً من حق المؤلف في تقرير شكل مؤلفه النهائي حتى ولو كان مترجماً، إذ تمسك المؤلف بحقه في عدم اضافة أية ملاحظة أو تعليق داخل النص. وكان - والكلام للناشر - من الطبيعي ان نحترم رغبته هذه والامتناع عن وضع تعليقاتنا التي نرى أنها مهمة.
لم يضع الناشر تعليقاته، لكنه استعمل حقه - كدار نشر ملتزمة - في توضيح معارضته لاستعمال مقولات ومصطلحات غير دقيقة أو غير علمية، مثل: أرض الكتاب، الهيكل، المرحلة الكتابية، أرض الميعاد، المعبد اليهودي... الخ، واغتنم الناشر الفرصة كذلك وذكّر بأنه لا يتفق أبداً مع رؤية المؤلف لبعض جوانب تاريخ فلسطين القديم، إذ أثبتت الأبحاث الجديدة خطأ الرؤية السائدة حول تاريخ فلسطين وبقية أقاليم سورية.
بالطبع أدرك القارئ أهمية التعليقات والملاحظات، وكذلك الخلل في رؤية المؤلف لتاريخ فلسطين، لكنه لن يعرفها ولن يطلع عليها لأن الناشر تقيد بحق المؤلف في تقرير شكل مؤلفه النهائي حتى ولو كان مترجماً! ومن جهتنا لم نفهم الأهمية المبالغ فيها التي علق عليها منى تقيده بتقاليد النشر الغربي، الا ان مبالغته في الأمانة جاءت على حساب القارئ، في حين ينبغي علينا ان نرى في هذه المسألة تنازع حقين: حق المؤلف في ظهور كتابه كاملاً، كما هو من غير زيادة أو نقصان. وحق الناشر الملتزم في ايراد تصويباته أو توضيحاته أو معارضته لاستعمال بعض المصطلحات. وهذا يستتبع التساؤل: أولاً، ألا ينتهي حق المؤلف في ظهور كتابه كاملاً من غير تعديل أو تحوير لأفكاره؟! ثانياً، بما ان الكتاب منقول الى اللغة العربية، ألا يجب مراعاة من هو موجه اليهم، بسبب انتقال الكتاب من فضاء الى فضاء آخر، خصوصاً ان البحث يهم القارئ العربي في بعض جوانبه أكثر من القارئ الغربي؟! وأخيراً، بما ان هذه المرحلة، مرحلة ترجمة أكثر منها تأليف، أليس من الضرورة ان تكون هناك رؤية في خطة الترجمة، وأن يكون في الانتقاء والنشر شيء من المرونة، لا تمنع اضافة بعض الهوامش الى النص، سواء كانت تصحيحات أو تصويبات أو اعتراضات، ما دام الكتاب ينقل كاملاً، والمهم الا تمس أفكاره حتى لو كنا على النقيض معها؟
واعتقد انه لا بأس من الإشارة الى ترجمة "دائرة المعارف الإسلامية" التي لم تكتمل، وظهرت في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي، وهي تجربة مبكرة ورائدة، وجديرة بالتوقف عندها، لقيام فريق من كبار المستشرقين الغربيين بالكتابة فيها، واسهام فريق من كبار اعلام مصر من علماء الأزهر وأساتذة دار العلوم والجامعة المصرية، في ترجمتها والتعليق عليها. وبحسب المقدمة "قد ساهموا بنصيب وافر في مراجعة الترجمة والتعليق على بعض الفقرات، وفي ابداء الملاحظات القيمة والآراء السديدة". مثلاً: كتب مادة "الإسلام" المستشرق ت. أرنولد، في حين كتب التعليق عليها مقالاً مطولاً فضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى عبدالرزاق. مادة "أميّ" كتبها ر. باريه وكتب التعليق عليها أحمد محمد شاكر. وهو عموماً تعليق يتناول المادة بالمعارضة والتفنيد والنقد والإضافة والتجريح، من دون اي إخلال بترجمة النص الأصلي بأمانة وكاملاً كما كتبه المستشرق.
وإذا كنا نرى أن للمؤلف، أي مؤلف، حقاً في كتابه لا ينازعه عليه أحد، فنحن لا نعتقد ان هذا الحق يشمل شكل الكتاب المترجم. وإذا كان للمؤلف الحق بالتمسك بظهور كتابه بالشكل الذي يراه، فحقه لا يمتد الى مصادرة هوامش التعليقات والملاحظات، فلن تكون هذه المصادرة والإصرار عليها سوى شكل من أشكال التعسف في استعمال الحق.
* الكتاب: بحثاً عن إله ووطن
الكاتب: نيل سلبرمن - ترجمة: فاضل جتكر
الناشر: قدْمسُ للنشر والتوزيع دمشق - 2001 م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.