يتناول كتاب "المتين" - أو التاريخ الكبير - لابن حيّان القرطبي تاريخ الفتنة وممالك الطوائف من نهاية الدولة العامرية 399 ه/ 1009م، الى سنة 463ه/ 1071م، أي الى قبيل وفاته. لم يبرح ابن حيان قرطبة وقت الفتنة، وعكف على جمع مادة تاريخية اعتماداً على ما شهده بنفسه، وما دوَّنه في مذكراته، وما استمدَّه من مُكاتبيه ومراسليه في أنحاء الأندلس، وهو يذكر اسماءهم أحياناً. وكما تقدَّم، فإن كتاب "المتين" - وهو في ستين مجلداً - لم يصلنا إلا في مقتطفات ونُتف احتفظ بها ابنُ بسام الشنتريني في كتاب "الذخيرة". واسلوب "المتين" اسلوب أدبي بليغ، خصوصاً حينما يأتي ابن حيان على ذكر حدث مؤثر له وقعه في نفسه، كأخبار الفتنة، وملوك الطوائف، وكائنة بَرْبَشْتُر، وعند حديثه عن البذخ وتفشي المظالم والفساد الاداري، وتقاعس ملوك الطوائف عن التصدي للنصارى. وفي مقدمة "المتين" يأتي ابن حيان على ذكر بداية فكرة تأليف الكتاب والدوافع لذلك، وأهليته للكتابة، وحرصه على توخي النزاهة والصدق في الحكم على الأحداث وصانعيها، كما يذكر مصادره، ويحدد الفترة التي يؤرِّخ لها. يقول ابن حيان في مقدمة الكتاب: "فإني امرؤ يُسِّرت لطلب هذا الخبر... فشغلت به دهراً... أقصُّ أنباءه وأضرب أمثاله، وأُحصي وقائعه وأحترز مواعظه. وأنسأتني المدة الى أن لحقت بيدي فبعث هذه الفتنة البربرية الشنعاء المدلهمة، المفرقة للجماعة، الهادمة للمملكة المؤثَّلة، والمغربة الشأو على جميع ما مضى من الفتن الاسلامية، ففاضت أهوالها تعاظماً أدلهني عن تقييدها، ووهَّمني ألا مخلص منها، فعطَّلت التاريخ الى أن خلا صدرٌ منها، نفَّس الخناق وبلَّل الرماق، فاستأنفت من يومئذ تقييد ما استقبلته من أحداثها. فأنعمتُ البحث عن ذلك عند من بقي يومئذ من أهل العلم والأدب لدينا، فلم أظفر منه إلا بما لا قَدْرَ له، لزهد من قبلنا قديماً وحديثاً في هذا الفن، ونفيهم له عن أنواع العلم. وانثنيت خائباً خجلاً ألوم نفسي على التقصير، وأحدوها بالأمل، وأعذر من قال: هممتُ ولم أفعل. وشرعتُ في التقييد... ووصلت القول في ما فاتني قبل من ذكر انبعاث تلك الفتنة، وأخبار ملوكها، ومشهور حروبها، مما أصبت به عندي تذكرة، أو أخذته عن ثقة، أو وصلتني به مشاهدة، أو حاشته إليَّ مذاكرة، حتى نظمت أخبارها الى وقتي مكمَّلة... غير مُحابٍ ولا حائفٍ في الصدق عليها، سالكاً سبيل من ائتسيت به من مستأخري أصحاب التاريخ بالمشرق... ونظائرهم من أعلام الفقهاء الذين لحقوا الفتنة الحادثة عندهم بالمشرق بعد الثلاثمائة، من تصريحهم بأخبار امرائهم المتوثبين على المملكة، عند وهن متقلِّدي الخلافة فيهم... فركبتُ سَنَنَ من تقدَّمني فيما جمعته من أخبار ملوك هذه الفتنة البربرية... وأوعيتُ فيه ذكر دولهم المضطربة، وسياساتهم المنفِّرة، وأسباب كبار الأمراء المُنتزين في البلاد عليهم، وسبب انتقاض دولهم، حالٍ فحالٍ بأيديهم، ومشهور سيرتهم وأخبارهم، وما جرى في مُدَدهم وأعصارهم من الحروب والطوائل، والوقائع والملاحم، الى ذكر مَقاتِل الأعلام والفرسان، ووفاة العلماء والأشراف، بحسب ما انتهت اليه معرفتي ونالته طاقتي". شهد عصر ابن حيان تغييرات سياسية "كبرى في الأندلس - ذروة الدولة العامرية، ثم قيام الفتنة، وظهور ممالك الطوائف. ان المؤرخ شهد الأندلس وقد أوهنتها الخصومات العرقية، والمنازعات بين ملوك الطوائف، مما جعلها لقمة سائغة للنصارى المتربصين بها في الشمال. وكان لهذه الأحداث السياسية وقعٌ كبير على ابن حيان ومعاصره ابن حزم القرطبي، ولعلهما أول مؤرخين حقيقيين للأندلس، إذ لم يكتفيا بتسجيل الأحداث والوقائع، بل حاولا تقصِّي وفهم أسباب الكوارث التي حلّت بالأندلس على عهدهما. ولما كان كتاب "المتين" يقوم على البحث والتحري الشخصيين، فإن الرواية لا يُخلُّ بها التكرار والازدواجية. ان كتاب "المتين" تاريخ يحاول فيه صاحبه فهم أسباب الأحداث ودوافع ممثليها والظروف التي كانت تتحكم فيها. والصور التي يرسمها ابن حيان صور حية وممتعة لا محاباة فيها، وفيها عمق. إنها قبل كل شيء صور فردية سواء أكان ابن حيان يصف أميراً أو مغنية، بخلاف الأوصاف المعهودة لكثير من المؤرخين المسلمين. كان ابن حيان - كصديقه ومعاصره ابن حزم - من أشد أنصار خلافة قرطبة الأموية التي كانت تمثِّل في عهد الخليفة الناصر وحدة الأندلس ومُنعتها. ومن هنا جاء نفور ابن حيان الشديد من ملوك الطوائف الذين شهدت البلاد على عهدهم التجزئة والمنازعات مما أوهنها وأطمع فيها أعداءها المتربصين بها في الشمال. ينقل ابن حيان عن ابن مامة النصراني، صاحب العسكر الذي كان مع الخليفة سليمان بن الحكم، قوله في أهل قرطبة: "كنا نظنُّ ان الدين والشجاعة والحق عند أهل قرطبة، فإذا القوم لا دين لهم، ولا شجاعة فيهم، ولا عقول معهم، وإنما اتفق لهم ما اتفق من الظهور والنصر بفضل ملوكهم، فلما ذهبوا انكشف امرهم... فليس في القوم عقل ولا شجاعة ولا دين". أيام الجماعة يؤكد ابن حيّان في "المتين" على تعلُّقه بما يسميه بأيام الجماعة، أي أيام وحدة الأندلس ومُنعتها وازدهارها واستقرارها على عهد الناصر وابن المستنصر، وفي فترة الدولة العامرية. ولذلك فإنه يحمل بشدة على كل من عمل على تجزئة الأندلس وتفتيت وحدتها، سواء أكان هؤلاء جماعات من قبائل زناتة صنهاجة وفدت الى الأندلس من المغرب منذ أيام الناصر، أو كانوا ملوك الطوائف. فهو يحمل على صاحب قرمونة محمد بن عبدالله البرزالي الزناتي "لفرط شروده عن الجماعة، وإنما كان مذهبه طمس رسم الخلافة من معانها بقرطبة... وطرد قريش عن سلطانها، إبطالاً للإمامة ورسوخاً في الخارجية". وكان الحكم المستنصر والمنصور قد استدعيا بني برزال الزناتيين من المغرب الأوسط للجهاد في الأندلس في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي "فأصارهم الله الى ما هم الآن بصدده من إبطال الخلافة، وتفريق الجماعة، والتمهيد للفتنة، والإشراف بالجزيرة الأندلس على الهلكة". ويحمل ابن حيان على صاحب طليطلة اسماعيل بن ذي النون، ويصفه بأنه "أول الثوار لمفارقة الجماعة... وهو كان فرط الملوك في ايثار الفُرقة، فاقتدى به مَن بعده"، ولما نوظر ابن ذي النون هذا في شأن التأمير لبني أمية، ذُكر عنه - كما تقدم - قوله: "والله لو نازعني سلطاني هذا الصديق لقاتلته ولما سلمت له. فكيف أُسلِّم سلطاني لمن يدعى له من بني أمية؟ توارثوا هذه الإمارة مخرقة وضعها قريش لاستعمال الناس. أحقُّهم بالملك من استقلَّ به. والله ما أولِّي غير نفسي". ان ابن حيان يرى الجماعة الأندلسية وعلى رأسها إمام أو خليفة من قريش، وهو غيور على المسلمين ووحدتهم. فعند الحديث عن هشام المزعوم، الذي نصَّبه القاضي أبو القاسم محمد بن عبّاد خليفة في اشبيلية سنة 426ه، يقول ابن حيان - وكان يشكك في حقيقة الرجل - "فما نقول... غير إخلاص الدعاء لكلمة المسلمين في الائتلاف، لما فيه الصلاح". كان ابن حيان ضد تعدُّد الخلافات - كما كانت الحال في العالم الاسلامي منذ مطلع القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي - وكان يمقت العُبيديين الفاطميين وخلفاءهم، ويؤيد خلافة الناصر في قرطبة. وهو يرى في الأمويين امتداداً لخلافة الراشدين، ويقول ان دولة الجماعة لم تعد الى الأندلس الا بقيام عبدالرحمن الناصر وقضائه على المنتزين، وتوحيده البلاد ومحاربة أهل البدع ووقوفه في وجه الفاطميين وتوسعهم في المغرب. ويُفيض ابن حيان في حديثه عن سياسة الناصر تجاه بر العدوة، وتحالفه مع زعيمي زناتة محمد بن خزر وموسى بن أبي العافية وتأييده لهما ضد العبيديين الفاطميين وأنصارهم من صنهاجة. وكما يقول باحث حديث، فإن ميول ابن حيان الأموية لم تكن "لسبب شخصي أو مَنفعي. ففي عهده، تبرَّأ الكثيرون من الأسرة الزائلة... ان هذا الموقف من ابن حيان دليل جديد على نزاهته وجرأته في الحق". وابن حيان شديد التعصب لقوميته الأندلسية والاعتداد بها، مَثَلهُ في ذلك مَثَلُ الكثيرين من أعلام الأندلس كابن حزم، وابن بسام الشنتريني. ويرى أحد الباحثين المحدثين "ان اهتمام العالم والأديب بأمر وطنه وتاريخه لا يعني عصبية بقدر ما يعني لوناً من الحماسة التي لا تثريب عليها". ملوك الطوائف يحمل ابن حيان على معظم ملوك الطوائف في عهده لقضائهم على وحدة الأندلس ومُنعتها،ولتخاذلهم عن نصرة المسلمين في محنتهم. وخير مثال على ذلك وصفه المؤثر لمحنة مدينة بربشتر بالثغر الأعلى - ما بين مدينتي لاردة وسرقسطة - عند تعرضها لعدوان وحشي من قبل الصليبيين النورمان الأردمانيين سنة 456ه/1064م. كانت بربشتر قبل نكبتها قد "رسخ فيها الإيمان، وتُدورس بها القرآن". فقد وصل الى قرطبة نبأ كائنة بربشتر وما حل بأهلها "فصك الأسماع، وأطار الأفئدة، وزلزل الأرض الأندلسية قاطبة". وكان الناس ينتظرون من ملوك الطوائف أن يهبوا لنجدة المدينة المنكوبة، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث. وهنا يحمل ابن حيان على من ينعتهم بأمراء الفرقة الهمل، والفقهاء، لخذلانهم وتقصيرهم، إذ، بدلاً من نجدة المدينة المنكوبة، بادر أمراء الطوائف الى اتخاذ التدابير الدفاعية، كحفر الخنادق، وتعلية الأسوار. لقد حاصر النورمان القادمون من فرنسا مدينة بربشتر أربعين يوماً، من دون أن يحرِّك أميرها يوسف بن سليمان بن هود ساكناً "أسلمهم... لخطبهم، ووكلهم الى أنفسهم، وقعد عن النفير نحوهم... وكان الخطب في هذه النازلة أعظم من أن ىوصف أو يتقصى". يمضي ابن حيان الى الحديث عما دها أهل الأندلس بسبب داء التقاطع بين أمراء المسلمين، الذين سادهم "الجهل، واقتطعهم الزيف، وأركستهم الذنوب، ووصمتهم العيوب... شاءٌ من الناس هامل، يدللون نفوسهم بالباطل". لقد غفلوا عن سدّ الثغور، ولذلك فإن عدوَّهم "الساعي لإطفاء نورهم يتبجح عراص ديارهم... يقطع كل يوم طرفاً منهم ويبيد أمة، ومَن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صحوت عن ذكرهم... ما إن يُسمع عندنا في مسجد من مساجدنا ومحفل من محافلنا مذكِّرٌ بهم، أو داع لهم،فضلاً عن نافر اليهم أو مواسٍ لهم، حتى كأن ليسوا منا، أو كأن فَتقَهم ليس بمُفض الينا". ان نقمة ابن حيان على ملوك الطوائف تتمثل في حملته - كما أسلفنا - على صاحب طُليطلة اسماعيل بن ذي النون، الذي كان خليفة قرطبة الأموي سليمان بن الحكم قد أحسن اليه، فأنعم عليه بالوزارة، وسمَّاه ناصر الدولة. ومع ذلك، فإن ابن ذي النون هذا "استقل ذلك كله، وآثر الفرقة... فاقتدى به مَنْ بعده... فصار جرثومة النفاق، وأول من استنّ سُنَّة العصيان والشقاق، ومن تفجَّر ينبوع الفتن والمحن". ان التمزق السياسي الذي ابتُليت به الأندلس بعد قيام الفتنة امتد كذلك الى المغرب، فاستقل في سبتة سقوت البرغواطي الذي حدث نزاع بينه وبين صاحب اشبيلية المعتضد بن عباد سنة 457ه. وهكذا فإن ما حل بالأندلس تجاوزها الى العدوة المغربية، وفي ذلك يقول ابن حيان: "وهذه نادرة من طخيات هذه الفتنة المبيرة، أن تخطَّت من هذه الجزيرة الى ما وراء بحرها الزقاقي، الذي كان منه دخول العرب أيام فتحهم لهذا الصقع". البرابرة يحمِّل ابن حيان جماعات زناتة صنهاجة التي وفدت حديثاً الى الأندلس منذ أيام الخليفة الناصر تبعة الفتنة التي شبَّت في الأندلس في مطلع القرن الخامس الهجري، ولذلك فإنه يسميها بالفتنة البربرية. وكان ابن حيان في كتاب "المقتبس" قد تتبع وصول هذه الجماعات المغربية، ولاحظ اختلافها عن الاندلسيين حضارة ونحلة. فبعد استيلاء الخليفة الناصر على سبتة سنة 319ه/931م، ذكر ابن حيان - نقلاً عن ابن مسعود صاحب "الأنيق" - ان البربر "استلانوا عما قليل غرائز أهل الأندلس، وحسدوهم ما ألفوهم عليه من حُسن الحال، فلم يلبثوا ان توثبوا عليهم آخر أمر الدولة بيد المقدار وثبة تركتهم أوزاعاً، وسلبتهم العزَّ والسلطان". الا ان نقمة ابن حيان على هذه الجماعات لم تكن لسبب عرقي أو عنصري، إذ انه في كتاباته يبدي اعجابه ببسالتها وكفايتها القتالية، وكان بودِّه أن يكون بأسها هذا منصبّاً على أعداء المسلمين في الأندلس. وهو يندد بأهل قرطبة لرفضهم كل صلح مع البربر، وللجاجتهم في ذلك، مع العجز والضعف. وفي فقرة مشهورة، يتحدث ابن حيان عن بأس هؤلاء المغاربة وشدتهم في الحروب، وعن الحاجة اليهم للحماية فيقول، متحدثاً عن فترة الفتنة بالأندلس: "فكان في كل بلد جملة منها سالت عن أهل البلاد سيول بها، وخلطوا الشر بين رؤسائها... فطال العجب عندنا بقرطبة وغيرها من صعاليك قليل عدوهم، منقطع مددهم، اقتسموا قواعد الأرض في وقت معاً، مضرِّبين بين ملوكها، راتعين في كلأها، باقرين عن فلذتها. حلُّوا محلَّ الملح في الطعام ببأسهم الشديد، وقاموا مقام الفولاذ في الحديد، فلا يُقتل الأعداء إلا بهم، ولا تعمر الأرض الا في جوارهم. فطائفة عند ابن الأفطس صاحب بطليوس تقاوم اصحابها قبل ابن عباد صاحب اشبيلية وطائفة عندنا بقرطبة تحيَّز أهلها عن الأضداد. فسبحان الذي أظهرهم، ومكَّن في الأرض لهم، الى وقت وميعاد". وعن نبأ وفاة زاوي بن زيري زعيم صنهاجة بعد خروجه من غرناطة عائداً الى القيروان يقول ابن حيان: "ونُعي الينا عدوّ نفسه زاوي بن زيري موقد الفتنة بعد الدولة العامرية، وورد النبأ الينا في القيروان وطنه... مهلُكه كان - زعموا - من طاعونة أصابته. فالحمد لله المنفرد بإهلاكه الكفيل بقصاصه، فلقد كان في الظُلم والجور والاستحلال للمحارم والقسوة آية من آيات الله. أهان الله مُثواه، ولا قدَّس صداه". التقاعس عن القتال يشكو ابن حيان من تقاعس أهل الأندلس عن الجهاد والاستعداد له، ويَسخُر من أهل بلنسية لخروجهم لقتال عدوِّهم في ثياب الحرير، فهزمهم عدوُّهم النصراني، وقتلاهم يلبسون الملابس المرفهة، ولم يعتبروا بما حدث، "فنبذوا السلاح، وكلفوا بالترقيح الكسب والتجارة ونافسوا في النشب، وعطلوا الجهاد، وقعدوا فوق الأرائك مقعد الجبابرة المتفاتنين بين أهل موسطة الأندلس، ينتظرون من ينبعث من أهلها للقتال عنهم حسبة. فتباً لهم تباً". ولما حلَّت الكارثة بأهل بربشتر على أيدي الصليبيين النورمان سنة 456ه/1064م، تطلّع الناس الى مبادرة من ملوك الطوائف لنجدتهم، "ولقد طما العجب من افعال هؤلاء الأمراء أن لم يكن عندهم لهذه الحادثة الا الفزع الى حفر الخنادق، وتعلية الأسوار، وشدِّ الأركان، وتوثيق البنيان، كاشفين لعدوِّهم السوءة السوءاء من إلقائهم يومئذ بأيديهم اليهم. أمور قبيحات الصور، مؤذنات الصدور بإعجاز تحلُّ الغير". تفشِّي الظُلم والفساد يتحدث ابن حيان عن الصقلبيين مبارك ومظفر أميري بلنسية وشاطبة في شرق الأندلس - فيقول انهما كانا يستخرجان الجباية من رعيتهما "بالعنف من كل صنف، حتى تساقطت الرعية وجلت أولاً فأولاً، وخربت أقاليمهم آخراً". وكان هذان الأميران الصقلبيان يعهدان بجباية الضرائب الى شرار العمال "ويستزيدان عليهم الرعية في الوظائف الضرائب الثقال... حتى لغدا كثيرون منهم يلبسون الجلود والحصر، ويأكلون البقل والحشيش". فجلت الرعية عن ديارها "فلا يأسف هذان العلجان ومن تلاهما... بل يتخذان ما جلا أهله من تلك القرى ضياعاً مستخلصة أملاكاً للأمير... على هذا السبيل، سلك أكثر الثوار المنتزين على أكنافها الأندلس، الثائرين بأطرافها، بعد افتراق سلطان الجماعة بقرطبة آخر دولة بني عامر". يأخذ ابن بسام الشنتريني على ابن حيان تهجمه الشديد على الآخرين، وثلبه لأعراضهم، مما جعل ابن بسام يحجم عن ذكر أسماء من حمل عليهم ابن حيان مشيراً اليهم بفلان، مع ان ابن حيان كان منصفاً وصريحاً في الاتهامات التي وجهها اليهم. يقول ابن حيان - كما ذكر ابن بسام - "ومضى فلان... وكان مصاحباً للظلمة من أمراء الفتنة، خوَّاضاً في دولهم المدلهمّة، معيناً على مظالمهم الموبقة". وعن سوء أفعال أحدهم - ابن باشُه - يقول ابن حيان: "بيده بادت قصور بني أمية الرفعية... وصار من البديع أن قدَّمه ابن السقَّاء - مدبِّر قرطبة - ... لجمع آلات ما تهدم من القصور المعطلة، فاغتدى عليها أعظم آفة، يبيع أشياء جليلة القدر، رفيعة القيمة... ولم يكُ مأموناً على باقة بَقل... ولم يزل ينفق ما غلَّ بمرأى ومسمع في أبواب الباطل... فلما أذِنَ الله تعالى بحطِّ أعلامها وطمس آثارها، أتاح لها هذا الأنيسيان الضعيف القوي... كإتاحة الجرذ المهين لسدِّ مأرب... فدكدها حتى عادت كوم رماد، ومصايد ضباب، ولم يُقلع عنها حتى أوقع النار على صخورها، وصيَّرها كلساً لكل مرتاد...". ومن أمثلة استشراء الفساد في الأندلس في فترة الفتنة هذه، يذكر ابن حيان رجلاً أثرى من الحرام، فيقول انه "مع انطلاق يده على الأوقاف، وأكل أموال اليتامى والضعاف، أخذ بأوفر حظٍ من الفلاحة، وضرب بأعلى سهم وأفوز قدح، في التجارة، ثم تجاوزهما، ثانياً عنانه الى الاستعمال والعمارة... ولا يستكفُّ سُحْتَ الظلمة بأفحش القُبح كل القبح. كل هذا من داء الفتنة المبيرة...". ويروي ابن حيان أمثلة عن البذخ والإسراف في التبذير في عصره فيقول ان من أهل مدينة بلنسية "من قُدِّرت نفقة على منزله مائة ألف دينار، وأقلَّ منها وفوقها". ويقول كذلك انه بلغه "انه دخل دار رجل من أصحابها أميري بلنسية وشاطبة يُعرف بمؤمَّل القشتيلي، ووقع البصر بها من سروها واكتمال النعمة فيها على ما لم يشاهد مثله قط في قصر الامارة بالحضرة العظمى قرطبة". أما الأميران مبارك ومظفَّر، فان جبايتهما بلغت لأول ايامهما الى 120 الف دينار في الشهر - سبعون ببلنسية، وخمسون بشاطبة - "فانغمسا في النعيم الى قمم رؤوسهما، وأخلدا الى الدعة، وسارعا في قضاء اللذة، حتى أربيا على من تقدم وتأخر". وأفاض في وصف البذخ الذي تميز به الإعذار الذنوني في الملبس والمأكل والشراب فقال: "احتفل المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة في مدعاة إعذار ختان حفيده يحيى... أبيدت لمطابخه أمم من الأنعام، جمع فيه بين المشّاء والطيّار والعوّام، وانتُسفت لمخابزه أهراء من الطعام القمح". * أكاديمي فلسطيني في أوكسفورد.