"المرآة" لم أكن مولعاً بها، وهذا ما حصر علاقتنا في الوقوف امامها لحظة عابرة، أرتب شعري على عجل وأخرج. وبعد ان قضم الشّيب سواد شعري بدأت اكرهها.... - ربما كنتُ انفر منها من قبل، لأنها كانت تريني انفي كبيراً-!! لكنني في ذلك اليوم الذي أرتني فيه انفي اكبر من المعتاد، شعرت انها متواطئة ضدي مع احد ما. ثم أصبت بالرعب وأنا أحاول أن أقدر حجم انفي بعد سنوات اخرى - يقال إن الأنف بعد الأربعين ينمو بمعدل مايكروسكوبي - ! كانت في يدي فرشاة شعر خشبية كسرتُ بها المرآة، وفوجئتُ بوجهي غريباً الى هذا الحد، ولكنه في الأحوال كلها كان اقل قبحاً. ألفتُه الى حد لم استطع معه التفكير بمرآة اخرى... بل يمكن القول إن المرآة اصبحت اكثر الكائنات قرباً مني، فبفضلها اخذتُ أقترب من النساء بلا حرج، وصار في استطاعتي مغازلة تلك المرأة الجميلة الى حد مربك، وازداد اعجابي بوجهي وأنا أرى وجوه الآخرين يوماً بعد يوم تمتلئ بالشروخ!! "الساعة" كانت اعلى من كائنات الجدار الأخرى، وكان صوتها مسموعاً بوضوح تزيد منه رتابته، وربما كان انقطاع صوتها تحديداً هو الذي جعلني اكتشف ان خللاً ما قد أصابها. للوهلة الأولى قدّرتُ ان "البطارية" الصغيرة فقدت طاقتها، فقمتُ باستبدالها، ولكن الساعة لم تتحرك، وظلت خرساء، فكان لا بد من "الساعاتي" لإصلاحها. انتزعتها عن الجدار. وضعتُها في كيس بلاستيكي وخرجت، وحين وضعتُ قدمي على الرصيف سمعتُها بوضوح، أخرجتها فرأيتُ عقرب الثواني يقوم بمهمته بلا أي عناء. قلت في نفسي: ربما كان خللاً عابراً زال بتحريك الساعة، عدتُ الى الداخل، وعلقتها في مكانها فاختفى الصوت تماماً، وتوقف العقرب الطويل. بدلتُ مكانها فظلت ساكنة، وضعتها في الكيس مرة اخرى وخرجت، ففاجأتني انفاسها على الرصيف... كان "الساعاتي" رجلاً طيباً، فقد تفحصها بمنظاره الذي ثبته على إحدى عينيه بحركة آلية، ثم أخبرني انها سليمة تماماً! عدتُ الى غرفتي فتوقفت، وأيقنتُ اخيراً أن الخلل مرتبط بالغرفة ذاتها، ثم ضحكتُ وأنا أتخيل الساعة تواقة للحرية. لم تكن ثمينة أو فاخرة، لكن الأمر كان مربكاً ومحيّراً! بعد ايام عدة، اشتريت واحدة اخرى، وكانت المفاجأة كبيرة حين علقتها مكان الأولى. تحول الأمر الى هاجس دائم... فليس من المعقول ان يفقد الزمن قيمته في غرفتي! بعد ايام هاتفتني تلك المرأة التي كانت خرجت غاضبة من قبل. كنتُ فرحاً وأنا اسمع صوتها الهادئ يخبرني انها ستعود... فجأة سمعتُ "تكّات" الساعة المعلقة، ورفعتُ رأسي فرأيت عقربها الطويل يدور بهمة عالية. "القناع" رأيتهما بوضوح... كانتا دمعتين كبيرتين، ملأتا عينيه أولاً ثم تدحرجتا الى الأرض، وسمعتُ دويهما المرعب. انتظرتُ لحظات عدة، وأنا أتوقع ان يأتي أحد من الجيران للسؤال عن الدّوي، ثم حمدت الله لأن الشتاء يرغم الناس على إغلاق نوافذهم بإحكام. لم اجرؤ على انتزاع عينيّ عن القناع... كنتُ على يقين من ان دموعاً أخرى ستسقط من عينيه، لكن الوقت مرّ بطيئاً ولم يحدث ذلك، فراودني الشك الى أن سمعتُ نحيبه. وقفتُ واقتربتُ منه. ألصقتُ أذني بمعدنه البارد، فاخترق النحيب رأسي واستقر فيه. ابتعدت قليلاً، ونظرت إليه بإشفاق تبرره صداقة طويلة. قلت بإخلاص: لماذا؟ قال خلال نحيبه: لأن صداقتنا لم تكتمل بعد!! دهشت لهذه الفكرة... فأنا لا أخرج من منزلي قبل أن أرتديه. سألته باستنكار: كيف تقول ذلك؟ قال بأسى: لماذا تتخلص مني فور عودتك الى هنا؟ قلت: لأنني أكون وحيداً قال بثقة: ولكنك تبقى متعباً، أليس كذلك؟ - بلى قال بارتياح: حسنٌ... جربني هنا إذاً... وعلى رغم ان الفكرة كانت غريبة، إلا أنني فعلتُ... ومنذ تلك اللحظة لم أعد احس بغبار الخارج يندفع الى اعماقي!!